مع بزوغ فجر يوم الخميس الموافق ٢٤-٦-٢٠٢١، تم اغتيال المناضل الفلسطيني نزار بنات من دورا الخليل، على يد قوات الأمن الفلسطينية، بدون محاكمة، أو تحقيق، بعد أن اعتقلته من بيته بعد منتصف الليل. ومن الصور التي نشرت قبيل اغتياله على مواقع التواصل الاجتماعي، كان من الواضح أنه تعرض لتعذيب بشع، ومن المعروف، أن الشهيد كان معارضاً عنيداً لنهج سلطة أوسلو وسلوكها.
ومن الثابت أن نهج سلطة أوسلو لم يتغيّر، منذ أن خلقت هذه السلطة بفضل الاحتلال الإسرائيلي، والدعم غير المشروع لرأس الفساد والاستكبار للإمبريالية الأمريكية، ومنذ أن استوت القيادة الفلسطينية على عرش السلطة، وظهرت بمظهر السيد الذي هيمن على الأوضاع، ذهبت، وبخلاف التوقعات، إلى تأسيس اثني عشر جهاز أمن، وأصبحت الأراضي الفلسطينية مرتعاً للأجهزة الأمنية، التي بدأت في التكاثر والانتشار والنمو، وانتشر رجال هذه الأجهزة على نحو مخيف.
كان أول جهاز للأمن هو جهاز الأمن الوطني، وجاءت بعده الشرطة المدنية، والأمن العام، والأمن الوقائي، وهذا الجهاز هو المسؤول عن التنسيق مع الأمن الإسرائيلي، وجهاز الأمن الجنائي، وجهاز المخابرات والأمن العسكري، والفرقه 17، وهي الفرقة المشهورة، التي كانت تابعة مباشرة للمرحوم ياسر عرفات، وتأسست بداية في لبنان، ومن الطريف أن أنشئ جهاز باسم جهاز أمن البحرية، والأطرف من ذلك أن كان مقر هذا الجهاز مدينة نابلس، علماً بأن نابلس لا تقع على بحر أو نهر، ثم جهاز القوات الخاصة، ومهمتها مراقبة الأجهزة الأخرى، وجهاز الدفاع المدني، وأخيراً جهاز الحرس الجمهوري أو الرئاسي، ثم جهاز أمن الجامعة، وهو جهاز متخصص بقمع طلاب الجامعات، وتم تأسيسه عام 1996.
ولا بدّ أن يطرح السؤال الأوّلي، هل يحتاج شعبنا في الأراضي المحتلة لهذا العدد الهائل من الأجهزة الأمنيّة؟ وإذا كان المبشرون بجنّة أوسلو على يقين من أن مسار أوسلو هو طريق الخلاص إلى التحرير، وإقامة الدولة (وهذه كذبة كبرى يسوقها رموز أوسلو لأن كلمة “دولة” لم ترد في كل اتفاقيات أوسلو)، فلماذا هذا العدد الكبير من الأجهزة الأمنية؟ من الواضح أن هذه الأجهزة تستهلك حوالي 33% من ميزانية السلطة (في حدها الأدنى) بينما لم يخصص للتعليم والصحة أكثر من 3% لكل منها. أليس في ذلك توزيع غير مبرر لمصادر السلطة، وتبديد لثروتها في غير محله، وإفقار لشعبنا الذي يعاني من احتلال استيطاني جشع؟
من الواضح أن أجهزة أمنية بهذا الحجم، لابدّ أنها تحتاج إلى عناصر عديدة يتم تدريبها وتثقيفها وشحنها بعقيدة محددة، فما هي معالم تلك العقيدة؟ من الواضح أنه تمّ تدريبها على معاداة الشعب الفلسطيني، والشك في كل تحركاته، وفي كل العناصر التي لم تقبل بمسار أوسلو، ومهام التنسيق الأمني مع سلطة الاحتلال، ولاسيما معاونة أجهزة الأمن الإسرائيلية في ملاحقة والقبض على الفلسطينيين والفلسطينيات، الذين لم تنطل عليهم وعود أوسلو، وألاعيب السلطة الفلسطينية وخطاباتها المزيّفة، التي مازالت تعيش على أمجاد حركة “فتح” حين كانت حركة تبث الرعب في قلوب جنود الاحتلال.
هذا الكم الهائل من الأجهزة الأمنية لا يقصد منه إلاّ لجم أصوات الناس وإخمادها وإرهابها، وتصفية العناصر التي تصرّ على المقاومة والعناد وفضح أساليب السلطة وفساد أجهزتها، وقد أصبح الفساد في مفاصل السلطة، جزءاً لا يتجزأ من ضرورة تنفيذ شروط أوسلو وأحكامها، أي أن الفساد ليس طارئاً، أو حادثاً عرضياً، بل هو جزء عضوي من متطلبات مسار أوسلو.
وغالباً ما يكون الفساد مترافقاً مع انتشار أجهزة الأمن، لأن سلوك هذه الأجهزة يكون محصناً عادة بأسرار تتعلق بمقولة “الأمن الوطني”، وفي ظل أوسلو لم يبق شيء اسمه الأمن الوطني، بل أمن سلطة الاحتلال. وأكبر دليل على ذلك، ما قامت به منظمات حقوق الإنسان الدولية، وقد وثقت منظمة العفو الدولية والهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن (وتغير اسمها وأصبح لحقوق الإنسان) والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، وما يحتفظ به كاتب هذه السطور من ملفات حول هذا الموضوع، وذلك يشمل ـ على سبيل المثال- مقتل الشهيد يوسف البابا من نابلس (تمت تصفيته وهو في الاعتقال في 1/2/1997)، وقد اعترف وزير العدل الفلسطيني فريح أبو مدين، من أن اعتقال البابا كان “غير قانوني وقد خضع للتعذيب الشديد، ما أدى لوفاته”.
وبتاريخ 31/7/1996 أعلنت وفاة الشهيد محمد جميل جمايل، وقد تمّ التحقيق معه بتهمة أنه من “صقور فتح”، وبعد التعذيب أدخل مستشفى رفيديا تحت اسم مستعار (محمد سعيد صباح)، وقد توقف قلبه ثم أعيد للحياه وأعلن بعدها أنه أصيب بشلل دماغي. ومن المعروف أنه كان من قادة الانتفاضة الأولى، ثم الشهيد ناصر الرضوان (غزة) الذي اعتقله جهاز القوه 17 بتاريخ 23/6/1997 وبدون مذكرة اعتقال، وبعد حوالي تسع ساعات، أدخل ناصر إلى المستشفى تحت اسم “السجين رقم 10” وفارق الحياة في 30/6/1997.
هذه مجرد أمثلة، لكن القوائم تطول وفيها سجل لتصرفات أجهزة السلطة وتصفيتها للعناصر الفلسطينية، ومن يراجع سجلات منظمات حقوق الإنسان المذكورة سوف يجد أن سلطة أوسلو تحولت بسرعة إلى أسوأ شكل من أشكال النظام العربي التقليدي، الذي يمارس التصفية الجسدية بسهوله ويسر، ولا يخضع لنظام المحاسبة والمساءلة، وتمارس السلطة الفلسطينية بدورها كل أنواع القتل والتعذيب والبطش، حتى اسم المعتقل تخفيه ولا تعلن عنه، فأي توغل في البطش والجريمة؟
هذا يؤكد أن ما جرى للشهيد نزار بنات لم يكن استثناءً، بل هو حادث وقع في السياق العام لسلوك سلطة خرجت على كل الحدود والقيود والأعراف والتقاليد، مما يبشر بقرب زوالها.
والمدافعون عن السلطة وقولهم، إن هناك تحركات مشبوهة للقضاء على البرنامج الوطني للأخ محمود عباس، عليهم، بل نرجوهم، أن يشرحوا لنا ما هو برنامج الرئيس الوطني، الذي مضت عليه ثلاثة عقود ولم يحرر شبراً واحداً من الأرض المحتلة، ولم يمنع مستوطناً واحداً من استيطان أرضنا المحتلة. وآمل أن لا ينسى المدافعون عن السلطة، أن الأخ محمود عباس قد مضى على انتخابه لرئاسة منظمة التحرير ما يزيد على عقد من الزمان، وبالتالي انتهت صلاحيته منذ وقت طويل. وحين تطلق المظاهرات في المدن الفلسطينية شعار: “الشعب يريد إسقاط النظام” يكون الشعار قد جاء في وقته المناسب.