عزيزي القارئ
المصري إذا كنت تعتقد، حقا، أن ثمة روابط مشتركة توحد جميع الشعوب، وأن ثقافات الشعوب تشكل معاً تراثاً مشتركاً، وأن ملايين الأطفال والنساء والرجال قد وقعوا خلال القرن العشرين ضحايا لجرائم وفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة، وأن تكرار مثل هذه الجرائم الخطيرة يهدد السلم والأمن والرفاء في العالم، وأنها (هذه الجرائم الخطيرة) يجب ألا تمر دون عقاب، وأنه يجب ضمان مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تتخذ على الصعيد الوطني وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي.. إذا كنت تعتقد حقا بصدق وصواب كل هذا فأنت تعتقد بضرورة الالتزام بنظام روما الأساسي للمحكمة
الجنائية الدولية المعتمد في روما في 17 تموز/ يوليو 1998.
فكل ما جاء ذكره ورد في ديباجته، وقد أكدته الدول الأطراف الموقعة عليه، ومن بينها مصر، ولذلك كله فأنا أدعوك، أولا، أن تنضم لي في مطالبتي لمجلسي النواب والشيوخ المصريين بالتصديق على توقيع مصر عليه كي يكون ملزما لها، كما أدعوك، ثانيا، لتحذير المجلسين، والحكومة المصرية، من تطبيق قوانين تعد انتهاكا صريحا له.
مبعث هذه المطالبة، عزيزي القارئ المصري، هو إصدار مجلس النواب لقانون بإدخال تعديل على قانون الخدمة المدنية، يتيح فصل الموظفين المنتمين لجماعة
الإخوان المسلمين من الوظائف الحكومية. ذلك أن تطبيق مثل هذا القانون، بالفعل، يعد جريمة بموجب المادة السابعة من نظام روما الأساسي تستوجب محاكمة القائمين على تنفيذها أمام المحكمة الجنائية الدولية. فالفقرة (ج) من بند (1) من المادة السابعة تنص على أنه يشكل جريمة ضد الإنسانية "اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرفية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس.. أو لأسباب أخرى من المسلم عالمياً بأن القانون الدولي لا يجيزها".
وتنفيذ القانون الذي يوصف إعلاميا بأنه "قانون فصل الإخوان"؛ يعد بموجب نظام روما الأساسي جريمة ضد الإنسانية لأنه يأتي في "إطار هجوم واسع النطاق، ومنهجي موجه ضد مجموعة من السكان المدنيين". ولا يعتد هنا، بالطبع، بأية تبريرات هي في حقيقتها غير صحيحة، أو إجراءات، من قبيل الدفع بأن إصدار هذا القانون جاء وفق لائحة مجلس النواب المصري، أو أنه "جاء متوافقا مع الدستور واللائحة الداخلية لمجلس النواب"، أو أنه "ظهرت الحاجة الماسة لإصدار هذا القانون في ضوء مكافحة الإرهاب داخل الجهاز الإداري للدولة".
الفصل من الوظيفة العامة بالنسبة للحالات الفردية، عن طريق غير الطريق القانوني الطبيعي، أي المحاكمة أمام قاض مدني محاكمة نزيهة تستوفي كافة درجات التقاضي وشروطه، ينتهك قوانين العمل الدولية، ويعد جريمة تستوجب معاقبة مرتكبها، لكنه في حال كان موجها ضد جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان يعد اضطهادا، وهو بذلك يمثل جريمة ضد الإنسانية، طبعا بموجب نظام روما المشكل للمحكمة الجنائية الدولية.
وفي الواقع فإن أعضاء مجلس النواب قدموا عبر تصريحاتهم قرائن كافية على نزوعهم الصريح لارتكاب مثل هذا الاضطهاد الفاضح.
والمثير للرثاء أن هذه الموجة العارمة من تجاهل أبسط قواعد الإجراءات والأعراف القانونية الدولية قد تنامت حتى وصلت إلى أعلى سلطة قانونية، بعد أن أعلنت الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا موافقتها على إجراء تعديل على قانونها يضيف لها اختصاصات جديدة، يتيح للمحكمة النظر في أي من القرارات الدولية التي يمكن أن تؤثر على الأمن القومي الاقتصادي، ويعطيها الحق في الرقابة القضائية على دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية وأحكام المحاكم وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة المصرية.
أما ما يبلغ حد السخف والعبث فهو تبرير مثل هذه الموافقة من الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا على تعديل بعض أحكام قانون المحكمة الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979؛ يتضمن إضافة مادتين جديدتين إلى قانون
المحكمة الدستورية، لأن نص المادة 192 من الدستور التي تتضمن اختصاصات المحكمة وقانون المحكمة الدستورية يخلوان من نص يتيح للمحكمة النظر في أي من القرارات الدولية.
وهذه بالطبع حالة فريدة للغاية، حيث تعلن محكمة دستورية أنها فوق الدستور، أو أنها تنطقه بما لم ينطق به. تعلن الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية، صراحة، أن الدستور لا يمنحها حق النظر في أي من القرارات الدولية أو قرارات المنظمات والهيئات الدولية والمحاكم وهيئات التحكيم الدولية، ثم تجيز ذلك، فعلا، وهو هو بكل المقاييس خروج عن منطوق الدستور، واعتداء مباشر عليه.
هل كان هناك طريق "دستوري" لمثل هذا الإجراء؟
هناك بالفعل مثل هذا الطريق، وهو أن يجري تعديل على اختصاصات المحكمة الدستورية العليا في الدستور وتضاف له التعديلات التي تراها الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية، وهذا كما هو مفهوم يقتضي استفتاء الشعب على هذه التعديلات. ويبدو أن الحكومة والمحكمة الدستورية رأتا أن استفتاء الشعب "وجع دماغ" لا موجب له، وقامت بالنيابة عنه بمثل هذه الفضيحة التي لا مثيل لها في منافاة المنطق.
المذهل أن هذا يتم في الوقت الذي لا تجد فيه الدولة سوى المسار الدولي لحل أكثر معضلاتها تعقيدا، فبينما المحكمة الدستورية العليا تعتدي على الدستور وتنطقه بما سكت عنه، وتنصب من نفسها سلطة عليا على كافة سياقات القانون الدولي، تلجأ الدولة إلى مجلس الأمن لبحث موضوع سد النهضة الإثيوبي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية تواصل الحكومة المصرية تنفيذ سياسات وشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
هل هي حالة مثالية من الازدواجية، والفصام الصارخ؟
الأمر يبدو أبعد مدى من ذلك، الأمر يبدو وكأن هناك انسياقا غير واع وغير مدرك، بالذهاب إلى أقصى ما يمكن من انتهاك القانون والعرف، وهو انسياق تحفزه أعمق غرائز حب البقاء والاستمرار. فهذا النظام يشعر أن بقاءه قرين الوغول إلى أقصى ما يمكن من انتهاك الدستور والقانون، وأنه إذ بلغ كل ما يمكنه داخليا لم يبق له إلا الذهاب بنفس الأداء على الصعيد الدولي، وهو ما يجعل السؤال واقعا: هل تؤدي كل طرق الجمهورية الجديدة إلى الخضوع لسلطة نظام روما الأساسي؟