أشار لي أحد الإخوة بضرورة أن أقول رأيي في
نظرية التطور، لما لها من خطر على الشباب، خصوصاً في عالم الماديات، والانفتاح، والانسياق وراء الغرب المنتصر، وتقهقر أهل الدين أمام المدّ الجارف
للحضارة الماديّة. وهنا تحضرني آيتان كريمتان، أوّلهما قول الحق جل وعلا في سورة آل عمران: "لا يغرّنك تقلّب الذين كفروا في البلاد، متاعٌ قليل ثمّ مأواهم جهنّم وبئس المهاد"، وثانيهما قوله في وصف الأصنام في سورة إبراهيم: "ربّ إنّهنّ أضللن كثيراً من الناس، فمن تبعني فإنّه منّي ومن عصاني فإنّك غفورٌ رحيم". والمغزى أن الأصنام، وهي الصخور العاجزة، ما كان لها أن تضلّ البشر لولا اقتناعهم بها دون دليل، وبذلك تتضخّم الفكرة فقط بحجم أتباعها، الذين قد يبدو أنّهم الأكثر علماً وثروةً وتقلّباً في البلاد.
أعترف بأنّني عانيت فترةً من حياتي بسبب هذه النظريّة التي عصفت بفكري أيّام الشباب، ولولا تعلّقي الفطري بكتاب الله لربّما انحرفت عن جادّة الصواب. أما اليوم فأنا في حالةٍ من صفاء الذهن والتصالح مع العلم، دون أن يمسّ ذلك باعتقادي الراسخ بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ولله الحمد والمنّة.
أعترف بأنّني عانيت فترةً من حياتي بسبب هذه النظريّة التي عصفت بفكري أيّام الشباب، ولولا تعلّقي الفطري بكتاب الله لربّما انحرفت عن جادّة الصواب. أما اليوم فأنا في حالةٍ من صفاء الذهن والتصالح مع العلم، دون أن يمسّ ذلك باعتقادي الراسخ
لعلّ العلم المبنيّ على النظريات فيه ما يلتبس على العامّة فيعتقدون أن
الإيمان بالله أصبح من "أساطير الأوّلين". والحقّ أنّ هذه النظريّات لا تعدو كونها نظريّات بمجملها، وإن كان فيها من الحقائق الثابتة، فإن هذه الحقائق لا يجوز أن تعمّم على النظريات، فيصبح الإيمان بالكل تبعاً للبعض. وهنا أقول، وأنا أكتب هذه السطور في نهاية الجائحة الكورونية، أو ربّما في وسطها أو بدايتها، أنّنا على مدار ثمانية عشر شهراً شهدنا تطوّر هذا الفيروس، وظهور سلالات تختلف في شدّتها وانتشارها، وهذا دليلٌ صارخٌ على تطوّرها!
لعلّ كثيراً من شبابنا يهجر العلم الحيوي، وربّما يحاربه، ويقضي وقته الثمين وهو يساجل أصحاب النظريّات، سجالاً لا فائدة منه. فالإيمان بالله نورٌ لا يمنحه الله إلا لمن لانت نفسه للحقيقة، واعترف بعجزه أمام ما يراه بعينيه من إعجاز هذا الكون.
إيمان العجائز إيمانٌ مريح، وهو نقطة البداية، فلنضع العلم جانباً ولنتأمّل في الكون، في الأرض، في ولادة الإنسان ابتداء من تكوّن النطفة في الرحم، ثمّ تشكل الأعضاء، ثم الولادة المعجزة، والسمع، والبصر، والفؤاد، والبلوغ، والهرم، والموت. استمع إلى صوت العصافير، تلمّس موضع النبض في صدرك، انظر إلى يدك، واستمع لكتاب الله بعقلٍ منفتح وقلبٍ منكسر، وستصل للحقيقة كما يراها أبسط الناس. سترى الله وتستشعر وجوده، يقيناً بلا شك.
ثمّ انطلق قليلاً في رحلة العلم، يذهلني بكاء الطفل ساعة الولادة، وكثيراً من الحركات التي يقوم بها الوليد، وأهمّها الرضاعة، انظر إلى الحيوانات التي تمشي عقب ولادتها، وإلى الفراشة التي تحلّق فور خروجها من الشرنقة، وغيرها وغيرها. هذه الكائنات وعلى رأسها الإنسان تولد بأجهزة عصبية معقّدة، محمّلة بأنظمة "سوفتوير" مبرمجة مسبقاً. من صنعها وبرمجها؟
ولأنّ العقل يستصغر المألوف - وتلك مشكلة - فلنتفكّر بما هو أبعد قليلاً. جهاز تحديد الموقع لدى الطيور، وبعيداً عن الإسهاب، فالطير الذي تأخذه عند "ولادته" بعيداً عن موطنه، ثمّ تطلقه في السماء فهو لا يخطئ طريقه، ويلتحق بموطنه، ويعلم مسار هجرته.. أليس في ذلك ما يسلب الألباب؟
إن الفراشة التي تضع البيض، فيصبح دودةً لها أرجل وأمعاء وعقل، ثم تصنع لنفسها شرنقة تذوب فيها أعضاؤها، ثمّ يخرج من هذا المزيج كائنٌ آخر بشكل مختلف وأعضاء مختلفة، وكثيراً ما تتشكل أجنحة هذه الفراشات بأشكالٍ تشبه ما حولها من أوراق وأغصان حتى يصعب صيدها، كلّ ذلك يشير لصانعٍ بديع ولا يمكن أن يكون نتاج صدفة أبدا، وقد أعجز هذا التركيب العجيب لجسدين متعايشين في كائنٍ واحد علماء التطوّر فما وجدوا تفسيراً لذلك.
لو زعم أحدهم أنّ منزله الذي فيه ثلاثة غرف وصالون وحمامين بُنِي بالصدفة لظنّنا به الجنون، فما بالك بمن يزعم أن هذا الجينوم نتاج الصدفة؟
دعونا ننطلق في اتجاه آخر.. في عمق الخلية، حيث الجينوم. في كل خليّة من خلايا الإنسان ثلاثة بلايين قاعدة تشكل الشيفرة الوراثية، تمتد مسافة متر ونصف، ولو كُتِبت بحجم خط الجرائد لاحتاجت خمسمائة مجلّد لكتابتها. ويصطفّ بها حوالي عشرين ألف جين، وما عداها - أي ٩٨ في المئة من الجينوم - هو الهيكل الذي تعتمد عليه وينظّم عملها. ومع قراءة الجينات وتعقيدها وتناغمها نقف عاجزين أمام هذا الصنع البديع. ولعلّنا اليوم ونحن نقرأ هذا الجينوم كما نقرأ أحرف الكتاب، لنجد أنفسنا لأول مرة منذ ألفٍ وأربعمائة عام نقرأ فيضاً جديداً من كلمات الله. تلك التي وصفها الله في القرآن: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً".
لو زعم أحدهم أنّ منزله الذي فيه ثلاثة غرف وصالون وحمامين بُنِي بالصدفة لظنّنا به الجنون، فما بالك بمن يزعم أن هذا الجينوم نتاج الصدفة؟
هل مليارات السنين كافية لبناء هذا الجينوم؟ حتماً لا، فبناء جينٍ واحد بالصدفة، لو فرضنا أن الظروف مواتية لتشكل كائنات حية قادرة على الاستمرار وهي تحمل نسخاً مشوّهة من هذا الجين؛ كان ليحتاج من الوقت أضعاف أضعاف عمر الكون، عدا أنّ هذا الأمر ينافي العقل تماماً كزعم صاحبنا أن منزله بني صدفة.
إن تشابه الجينات بين الكائنات الحيّة بما فيها الإنسان هو دليلٌ على أمرٍ واضح: وحدة الخالق الذي أوجدها، وهو سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يخلق ويختار، بقدرته وعلمه، ما يصلح لكل كائن حي "ما من دابّةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها إنّ ربّي على صراطٍ مستقيم".
يخلط البعض بين قدرة الكائنات الحيّة على التكيّف مع ظروفها المحيطة، بما يعرف بمرونة الجين، وبين التطوّر، تماماً كما جرى في تجربة لينسكي الشهيرة، حيث استطاعت البكتيريا المعويّة التكيّف مع نقص الجلوكوز والاستعاضة عنه بالسترات، نتيجة تفعيل جين ناقل السترات الموجود أصلاً فيها بنقله لمكانٍ نشط في الخلية وبين جينات استقلاب الجلوكوز.
يخلط البعض بين قدرة الكائنات الحيّة على التكيّف مع ظروفها المحيطة، بما يعرف بمرونة الجين، وبين التطوّر
ومن عجائب قدرة الكائنات على التكيّف ما نراه اليوم في عالم البكتيريا من المقاومة المتزايدة للمضادات الحيوية نتيجة انتخاب بكتيريا تتنشط فيها جينات تطرد السموم من خلاياها، بل وتتشارك هذه الجينات فيما بينها بما يشبه المعرفة الجمعية التي تتشارك بها مع باقي الكائنات الحية. وهذه المقاومة ليست وليدة الصدفة، بل هي إعادة تنشيط لجينات وجدت أصولها في بكتيريا من عصور سحيقة لم تصل لها المضادات الحيوية الحديثة، وربّما كانت تقاوم مضادات طبيعية تعمل على ضبط نمو البكتيريا في الأرض.
إن صَمّمت أن تسمّي مرونة الجين والطفرات التي حدثت في فايروس كورونا تطوّراً فلا بأس، ولا ينقِصَ ذلك من إيمانك بالله بل يزيده، ويكون القبول بالتطوّر مقبولاً، والجدل فيه إسفافاً.
أمّا إذا ادّعيت أن
الحياة بدأت صدفة وأنّ الإنسان تطوّر من أجداد القردة، فذلك أمرٌ يقدح في أصل العقيدة.
كيف بدأت الحياة؟ السؤال الأهم: ما هو الشيء الذي يعرّف الحياة؟ الجواب واضحٌ باعتقادي: الحياة المادّيّة هي نتاج تصنيع البروتينات، والتي تعتمد على وجود الرايبوسومات في الخلية، وبذلك تخرج الفيروسات من تعريف الحياة. فالفيروسات جينات مغلّفة تنتقل من خلية إلى خلية بحثاً عن الحياة، ذلك أنها بلا رايبوسومات. هذه الرايبوسومات خليط من البروتين والحمض النووي، موجودة بتركيب متشابه في جميع الكائنات الحية مهما كانت بسيطة، تقوم بقراءة الشيفرة الوراثية وتحويلها إلى بروتين، وضبط جودة هذه البروتينات وكميتها وأشكالها بالأبعاد الرباعية.
ولا يُعرَف للرايبوسومات أصلٌ في علم التطوّر، ولا تفسير لوجودها وتكوّنها.. من أين جاءت أول مصانع الحياة، القارئة للشيفرة، التي تعلم متى تبدأ صنع البروتين، وكيف تتخلص من التراكيب المشوّهة في عملية بديعة لضبط الجودة؟ من صنع هذه المصانع بالغة التعقيد؟ لا يجد العلم الحديث أي تفسير مهما كان لهذا الأمر، ويبقى التفسير المنطقي الوحيد أنها من صنع صانع عالمٍ عارفٍ قديرٍ قديم الوجود، سبحانه وتعالى.
تتضارب الآراء حول قدرة الكائنات على تشكيل أجناسٍ جديدة، ولذلك يجب أن ينأى العالِم المؤمن عن الخوض في هذا الجدل، وقبولنا بالتطوّر بداية لا يلزمنا بقبول كل ما يتبع، فهذا ينافي العقل والمنطق والاستنتاج الصحيح
تتضارب الآراء حول قدرة الكائنات على تشكيل أجناسٍ جديدة، ولذلك يجب أن ينأى العالِم المؤمن عن الخوض في هذا الجدل، وقبولنا بالتطوّر بداية لا يلزمنا بقبول كل ما يتبع، فهذا ينافي العقل والمنطق والاستنتاج الصحيح. وما كان من قطعية تطوّر الإنسان بدراسة الأحافير مشيراً لتزايدٍ مستمر في حجم الدماغ صار أمراً واهياً مع تضارب الأحجام المقترنة بأزمان كربونية متفاوتة، وما هذه الأحافير برمتها إلا لكائنات هلكت والله أعلم بها.
أما الحقيقة العلمية الدامغة فهي أن البشر انحدروا من أمٍّ واحدة كانت المصدر الأساس للحمض النووي الموجود بالمايتوكندريا، ولو كان البشر تطوروا طبيعياً لكانت أجناسهم المختلفة في بقاع الأرض تختلف صفاتها وموروثاتها الجينية حسب المنطقة. فمتى رأيت يا رعاك الله إنساناً بذيل، وآخر بمخالب، ورجلٌ بأنياب أسد، وآخر بقرون، وكلّها صفاتٌ ممتازة كانت لتجعل من أجناس البشر المتطورة أكثر قدرةً على البقاء؟ ولو كان ما يميّز الإنسان من ذكاء وبصيرة مكسباً تطوّرياً لرأيت في عالم الحيوان ما يقارب الإنسان في هذه الصفات، والبون شاسعٌ مهما طُرح من أمثلةٍ ساذجة.
لسنا بحاجةٍ للخوض في هذه التُرهات، فالقول بأنّ الإنسان وُجِد بالتطوّر أمرٌ ينافي العقيدة، وقد سجل القرآن الكريم بما لا يقبل التأويل خلق الإنسان من طين، أما ما كان في هذا الطين من مركبات عضوية وبروتينات وجينات ورايبوسومات وبكتيريا فهذا في علم الله سبحانه وتعالى، الذي إن أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
إنّ طريق الإيمان قد يضعك في تحدٍّ مع البشريّة جمعاء، أتحبّ أن تكون الوحيد على الحقّ، أم واحداً من البلايين التي ضلّت الطريق؟ لو قال لك كلّ من في الأرض أن هذا المنزل بني صدفة هل كنت لتصدّقهم؟ فما بالك بالأرض، والشمس والقمر، والنجوم، والمجرّات، والكون، والخلايا والبكتيريا والفيروسات؟
لقد عقدتّ العزم أن لا أخوض في هذا الأمر وأن لا أجادل فيه إلا جدالاً يسيراً، أمّا من أراد التعرّف على خالقه، فهذه الكتب والمعارف أمامه، فليبحث عنه، ولا بدّ للصادقين في بحثهم عن الحقيقة من الهداية. ولقد قضيت سنين أبحث في علم الجينات وأستزيد منه حبّاً بالمعرفة، ومحاولةً للارتقاء في علاج السرطان، فرأيت العجب، وازداد إيماني بخالقي، وخشيتي من قدرته.