منذ أيام عدة أصدرت الخارجية الأمريكية بيانا؛ أعربت فيه عن قلقها إزاء تدهور
حقوق الإنسان في
مصر، واستمرار التضييق على المنظمات الحقوقية وحبس النشطاء السياسيين، وأكدت أن تلك الممارسات تنتقص من حقوق جميع المصريين في حرية التعبير وتكوين الجمعيات، وتهدد استقرار مصر وازدهارها.
لم يكن البيان عبثيا؛ فقد خرج بلغة الحريص على المصلحة المنبثقة عن الشراكة الاستراتيجية مع الدولة المحورية الأبرز في الشرق الأوسط. ويبدو أن الجانب الأمريكي لم يعد يتحمل مزيدا من الرعونة، فحاول لفت انتباه الإدارة المصرية إلى خطورة التوجه الحالي على الاستقرار والسلم المجتمعي، ولا سيما بعد زيارة مدير المخابرات المصرية لواشنطن.
مدير المخابرات حمل عددا من الملفات المهمة لمناقشتها مع الجانب الأمريكي، بعدما علا نجمه مؤخرا بسبب المفاوضات الناجحة التي أجراها في غزة لتثبيت أركان وقف إطلاق النار بين فصائل المقاومة الفلسطينية والاحتلال؛ وهذا ما كان يريد الجانب الأمريكي الاطمئنان عليه تحديدا، لكن السيد عباس كامل كان يحمل ملفات أخرى، ويبدو أنه فاجأ المسؤولين الأمريكيين حد الدهشة بعدما طلب إعادة النظر في وضع الناشط الحقوقي
محمد سلطان - وفق ما نشرته صحف أمريكية - الذي أفرجت عنه القاهرة عام 2015 بعد فترة حبس قرابة عامين، لينهي أطول إضراب عن الطعام، ويسافر مباشرة للولايات المتحدة بعد تنازله عن الجنسية المصرية.
نسي الرجل الأزمة الوجودية التي تعصف بمصر حاليا بعد تعنت الجانب الإثيوبي في ملف سد النهضة، ووصول المفاوضات معه إلى طريق مسدود، وبدلا من أن يطالب الإدارة الأمريكية بمساندة الموقف المصري، مستغلا ورقة غزة، أخذ يحرضهم على التنكيل بناشط حقوقي
رئيس الجهاز الأمني الأهم في مصر، طالب الجانب الأمريكي بإيداع سلطان السجن، من أجل تنفيذ ما تبقى من حكم بالسجن المؤبد تلقاه من محكمة مصرية حسب الاتفاق المبرم بين الجانبين على حد قوله أو فهمه. وربما كانت الدعوى التي أقامها سلطان في الولايات المتحدة ضد رئيس الوزراء المصري السابق، حازم الببلاوي، والجنرال السيسي، ومدير ديوانه السابق عباس كامل (مدير المخابرات الحالي)، وثلاثة قادة سابقين في وزارة الداخلية، هي أساس هذا الطلب الغريب الذي تقدم به مدير المخابرات للجانب الأمريكي، والذي أدرك بدوره خطورة الموقف، بعدما عاين حقيقة العقلية الأمنية التي تدير مصر حاليا.
نسي الرجل الأزمة الوجودية التي تعصف بمصر حاليا بعد تعنت الجانب الإثيوبي في ملف
سد النهضة، ووصول المفاوضات معه إلى طريق مسدود، وبدلا من أن يطالب الإدارة الأمريكية بمساندة الموقف المصري، مستغلا ورقة غزة، أخذ يحرضهم على التنكيل بناشط حقوقي، رغم علمه أن طلبه سيقابل بالرفض، وهو ما يعكس رؤية النظام الحالي في مصر، والتي تقدم أمنه الشخصي على أمن الوطن، وتجعل من الهيمنة والسيطرة على مفاصل الدولة غاية تهون في سبيل تحقيقها مقدرات الوطن.
أشار البيان الأمريكي إلى المضايقات التي يتعرض لها الصحفيون والعاملون بمنظمات المجتمع المدني، والتي قد تصل إلى إلقاء القبض على أحدهم بسبب منشور على مواقع التواصل الاجتماعي قد لا يعجب فرد الأمن المسؤول عن مراجعة محتوى تلك المواقع والتأكد من مطابقتها لسياسة النشر لديه. لكن البيان لم يتطرق إلى الأوضاع المأساوية التي يعيشها عشرات الآلاف في السجون المصرية، ولم يتناول أحكام الإعدام التي باتت واجبة النفاذ بحق عدد كبير من المعتقلين في قضايا رأي أو قضايا ذات طابع سياسي، والتي استنفرت كثيرا من النشطاء المصريين حول العالم ودفعتهم للدخول في إضراب مفتوح عن الطعام لتسليط الأضواء على القهر المستمر بمصر، والذي بلغ مداه بأحكام الإعدام الجائرة بحق عدد كبير من المواطنين المصريين في قضايا سياسية، بالمخالفة لمواد الدستور والقانون، وجميع الأعراف والمواثيق الدولية.
جاء البيان الأمريكي بمثابة حجر ألقي في بركة آسنة فحرك مياهها الراكدة بعض الشيء، ليستجيب النائب العام في مصر ويأمر
بإخلاء سبيل عدد من الصحفيين والنشطاء السياسيين والحقوقيين، لكنه سرعان ما استبدلهم بآخرين، ومن أبرزهم الكاتب الصحفي
عبد الناصر سلامة، رئيس تحرير جريدة الأهرام الأسبق، بتهم مطاطة مثل نشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة على خلاف الدستور والقانون، في ما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية، التي تقضي بالإفراج عن البعض وإدخال آخرين مكانهم، لكنها لعبة بلا ضوابط ولا يحكمها قانون واضح، فلا مانع من إعادة الاعتقال مرة أخرى، لأن التهم حاضرة والأجهزة الأمنية تنفذ الأوامر بحذافيرها بعد تلاشي الحدود الفاصلة بينها وبين القضاء والنيابة العامة.
بين هؤلاء وهؤلاء توجد طائفة منسية، لا بواكي لها، يستخدم النظام معها سياسة "صفر تسامح"، ولا يتورع في إذاقة أفرادها مختلف ألوان القمع والتنكيل على مدار سنوات طويلة، لم يذق أهلوهم خلالها للحياة طعما، في ظل غياب ذويهم، ومنعهم من الحد الأدنى للحقوق التي أوجبها القانون
وبين هؤلاء وهؤلاء توجد طائفة منسية، لا بواكي لها، يستخدم النظام معها سياسة "صفر تسامح"، ولا يتورع في إذاقة أفرادها مختلف ألوان القمع والتنكيل على مدار سنوات طويلة، لم يذق أهلوهم خلالها للحياة طعما، في ظل غياب ذويهم، ومنعهم من الحد الأدنى للحقوق التي أوجبها القانون مثل الزيارة أو إدخال الطعام والأدوية أو التريض ورؤية أشعة الشمس، حتى تساقط الشباب منهم قبل الكبار، في مجزرة إنسانية مروعة ومستمرة منذ ثمانية أعوام في السجون ومراكز الاحتجاز المصرية.
وبينما يسعى جانب من الشعب المصري لإيجاد نوع من الفرحة تنسيه صعوبات الحياة ومرارة العيش، وقد يجد ضالته في نشوة انتصار بإحدى مباريات كرة القدم لفريقه المفضل، يهل عيد الأضحى وآلاف الأسر المصرية تئن تحت وطأة القمع والقهر، وتشكو الأمرّين من فقدان فلذات أكبادها؛ فلا معنى لفرح ولا مذاق لحياة، مما ينذر بمزيد من السخط الذي لا يحمد عقباه، وإن استمرت محاولات التضليل وتزييف الوعي؛ فسرعان ما تنتهي السكرة وتبقى الفكرة، ويستفيق المصريون على واقع أليم يجب تغييره إن أرادوا الحفاظ على ما تبقى من وطنهم.