لا يتسع غمد لسيفين، هذه قاعدة أساسية في حكم الشعوب، والبلاد العربية لا تتسع لربيعين فإما ربيع الشعب وإما ربيع الطاغية، إما الحياة وإما الردى، بل إنَّ التجربة التركية الديمقراطية تعرضت لعدة محاولات
انقلاب ونجت حتى الآن، وخصومها يتربصون بانتخاباتها ويدّخرون لها المكائد.
لقد نجحت الثورات المضادة في عواصم الربيع العربي واستقرت إلى حين، غير مسموح لأي دولة عربية أن تنافس إسرائيل في استخدام الصندوق الانتخابي وتغيير الحكومات والنمو والتطور وإنتاج السلاح والدواء والغذاء، وإلا أُحيلت مدارس التنمية البشرية إلى التقاعد، وأُقفلت مكاتب الأمم المتحدة وكثيرٌ منها مكاتب تجسّس مقنعة.
الديمقراطية ممنوعة علينا لأسبابٍ كثيرة؛ أولها إثبات أنَّ الاستبداد شرقي وأنّ الديمقراطية شقراء، ولا يزال هناك ثور أحمر في
تونس رعى من عشب الربيع العربي، وقد يتضامن مع فلسطين أو يذكر اسم
الثورة والديمقراطية، وقد ضعف كثيرا بعد أن أكل أسد الثورة المضادة ثيرانا بيضاء وخضراء وبلقاء، وبقي ثور تونس الأحمر، وهو شهي اللحم. الثور التونسي هو الذي أطلق الثيران الأسيرة من الزريبة بقرنيه ولذلك تأخر ذبح ثور المسك. وقد قام الرئيس التونسي الخطيب وأستاذ القانون الدستوري، الذي يروي قصص عمر بن الخطاب مع الأرامل واليتامى بزيارات لفرنسا ومصر وتلقى دروسا في الحكم "الرشيد". والكرسي الرئاسي هو أكرم الكراسي في الأرض، هو كرسي خلافة الله في الأرض، وبه يكون الطمع.
وكان
قيس سعيد قد أعلن انقلابه في منتصف الليل والناس نيام، وأعلن بيانه وهو ينهش لحم الكلمات ويرفع الحصانة عن نواب البرلمان تمهيدا لاعتقالهم ونهش لحومهم أيضا. ثم ظهر الغنوشي على الجزيرة، وإن كان ظهر أمس واليوم فلن يظهر غدا، فتحدث عن الدستور والقانون، وهو كلام ضعفاء وخاسرين، فلا ينفع الورق مع السيف، "وَلا تُتَّقى حَتّى تَكونَ ضَوارِيا".
فإن كان الرئيس المفوه قد عطل البرلمان المنتخب ونزع الحصانة عن النواب المنتخبين، وتركهم عراة في خوف السياسة وأخفى رئيس الوزراء، فلن يعجز عن إغلاق مكتب صحافي. غزة طردت فضائية العربية وستطرد تونس الجزيرة، وهناك ذرائع كثيرة. قد نفرح بعدها بتقارير مراسلون بلا حدود ومنظمة العفو الدولية التي صارت مختصة بشؤون العرب والمسلمين تقريبا.
أما الوجه الكوميدي لظهور الشيخ الغنوشي فهو مقلوب الوجه المأساوي، فهو يتحدث من وراء كمامة حتى لا يقال إنه يخرق الشروط الصحيّة، والبلد تعاني من جائحة، وهو قدوة، وليس مثل قيس سعيّد الذي تحدث من قصر قرطاج، بين قادة الجيش والأمن محروسا بالعلم الأحمر، وخطب بصوت جهوري فيه وعيد وتهديد، غير خائف من فيروس كوفيد.
ذكر الغنوشي خصومه وأنصاره بالقانون والدستور والجيش الوطني، وحثَّ مثقفي تونس وشعب تونس على الغيرة على الثورة، ثم كان المشهد الكوميدي وهو ذهابه مع بعض النواب إلى البرلمان في الليل البهيم فوجدوه مغلقا، لقد صادر الرئيس البرلمان وختمه بالحديد الأسود. بل إنّ رئيس البرلمان قال منكسراً: أقف عاجزا عن دخول البرلمان! لو غيرك قالها يا شيخ راشد.
ثم دار حوار بين برلمانية تونسية وبين حارس الباب الذي لم يظهر في الصورة، تلاه حوار بين الغنوشي وبين العسكري الذي ينفذ أوامر الرئيس، وهو حوار كوميدي، كان يشبه الشكوى، أو لزوم ما لا يلزم. وبيان للحجة في غير محلها أو يشبه الاستغاثة، حتى إني توقعت أن يطلب الحارس من الغنوشي الجزّة الذهبية مهرا للدخول.
وأملت أن يكون قد اصطحب معه حدادا يقوم بخلع القفل أو أن يعقد برلمانه في الهواء الطلق أو في خيمة ينصبها في الشارع، أليس لدى حزب بالنهضة خيمة ورجال يحمون جلسة البرلمان؟ ثم وردت أخبار تزعم أنه جلس في سيارته، لا بد أنّ الخبر كان للشماتة به، والقصد منه أن الشيخ كهل وتعبان وعنده سيارة.
هي معركة أرجو ألا تكون خاسرة مع أنّ كثيرا من أماراتها غير مبّشرة، فالفضائيات المضادة لا تلتزم بشروط العمل الإعلامي، فهي تظهر الرئيس قيس سعيد ثائرا على حكم الطاغية الغنوشي الذي أكثر الفساد في البلادّ، كما أظهروا اعتداء نوابه - وهم نواب الشعب - على قارورة مهيضة الجناح اسمها عبير موسي.
تحدث الغنوشي بلغة القانون والعقل، وبدا صوته واهنا، الدفاع وهن غالبا، بينما كان قيس سعيد يشدُّ على الأحرف حرفا حرفا، كأنه يقضم عظامها. والزمن يمضي والشيخ ينتظر الشعب، والثورة المضادة تحضّر حربا أهلية، وقد بدأ أنصار قيس سعيد بقذف أنصار الغنوشي بالحجارة.
ولا ينفع القانون مع السيف، كان صدام حسين قد أدرك معنى القانون، ويدركه أي شرطي مبتدئ، فقال: القانون ورقة يوقع عليها صدام حسين، وليس مع الغنوشي لا مال ولا جند، وهما قوام الملك كما يقول ابن خلدون. وأفرس الجند هم الإعلاميون، والجزيرة تغطي الثورة اليوم وقد تطرد غدا، وقد داهم العسكر مكتبها تمهيدا لكرة ثانية.
قُضي على الثورة المصرية بالخدع وعلوم الحيل، أما الثورة السورية فلم ينفع معها الخدع فقضي عليها بحرب لا تبقي ولا تذر حتى إنّ النازحين السوريين بلغوا مغرب الشمس إلى جزيرة بعيدة مثل نيوزيلندا، واستعملت خدع كثيرة في أكل المعارضة كما تؤكل موالح السهرة.
المتفائلون يعتقدون أنّ الشعب سيدافع عن ثورته، والوقت يمضي، وهو ثمين مع الهدف الكبير الذي سجله قيس سعيد، لا وقت يضيع في الثورات، الوقت في الثورات يقاس بالفيمتو ثانية، أما الواقع فيقول إنّ خصوم الثورة أقوياء، ومعهم رئيس وجيش ودول أوروبية غير مسرورة من المثال العربي الوحيد الناجي حتى الآن من الدكتاتورية، ولن يسمحوا بثور أحمر بين بقرات سوداء.
وهكذا سنرى الإمارات العربية بإمارتها السبع الظاهرة وإماراتها الجديدة الباطنة تتقاسم مع إيران الانتداب على عواصم الثورات العربية، بالوكالة، وقد نتآسى بورود أسماء نواب منتخبين في بيانات العفو الدولية وأسماء صحافيين في منظمة مراسلون بلا حدود.
ما فعله قيس سعيد بقراراته أقل بكثير مما فعل مرسي الذي أراد الحفاظ على الثورة فصار طاغية زمانه، أما قيس سعيّد فصار بطلا يعود بتونس إلى الوراء كما عاد السيسي بمصر إلى عهد الفراعنة والمومياوات لكن من غير ماء.
twitter.com/OmarImaromar