لمواجهة ثورات الربيع العربي، لم تجد أنظمة
الاستبداد العربي سوى
الجيش تتلطى خلفه لتبرير تشبثها بالسلطة، بعد انهيار مقومات شرعيتها، الواهية أصلاً. إذ حاولت هذه الأنظمة، المعدومة الإنجازات، اعتبار الجيش أحد إنجازاتها الوطنية، مع أن مؤسسات الجيش كانت أولى المؤسسات التي أوجدتها دولة ما بعد الاستقلال، حتى أنه في الكثير من هذه الدول تمت وراثته من الدولة المستعمرة التي وضعت هياكله ورسمت أدواره وحدوده.
حاولت أنظمة الثورات المضادة تصوير الربيع العربي على أنه مؤامرة ضد الجيوش، ومحاولة لتخريب هذه المؤسسات الوطنية، التي تقف في وجه الأعداء الذين يتحينون بدورهم الفرص للقضاء على هذه الجيوش لاستباحة الأوطان، وتمرير مشاريعهم الشريرة، والتي تتضمن فيما تتضمنه؛ انتهاك الأعراض، وبقر بطون النساء، وتهجير السكان وإحلال الغرباء، وفي النهاية السيطرة على ثروات البلاد وخيراتها.
ليست خافية تلك الأهداف الحقيقية من وراء هذه البروباغندا، إذ تعتقد الأنظمة أن الجيش، في بلاد تسيطر عليها الاعتبارات القبائلية والطائفية والمناطقية وما زالت وطنيتها هشّة، هو حامل لواء الإجماع الوطني والكيان الذي تتفق جميع الآراء على قدسيته، وهذا يعطي المبرر للسلطات الحاكمة، أمام الداخل والخارج، لضرب أي تحرك ضد السلطات باعتباره اعتداء على الجيش الذي يضم جميع أبناء الوطن، كما أن ذلك سيكون محاولة لإسكات الخارج، على اعتبار أن الجيوش هي أداة استقرار وضبط لملايين المتوحشين الذين ينتظرون فرصة حصول الانفلات للاعتداء على مصالح الدول، أو ركوب البحر والوصول لتلك الدول.
حاولت أنظمة الثورات المضادة تصوير الربيع العربي على أنه مؤامرة ضد الجيوش، ومحاولة لتخريب هذه المؤسسات الوطنية، التي تقف في وجه الأعداء الذين يتحينون بدورهم الفرص للقضاء على هذه الجيوش لاستباحة الأوطان
ولتثبيت هذه النظرية، كان لا بد من تعيين عدو بعينه، فمن غير المنطقي اعتبار الشعب، غير المنظّم والذي ليست له أهداف ذات علاقة بالسلطة، هو العدو الخطير الذي يتربص بالجيش وبوحدة البلاد، فكان العدو هو الجماعات الإسلامية، فهي الجهات التي ترى في الجيش جزءاً من منظومة الحكم التي يجب القضاء عليها، كما أن لهذه الجماعات جيوش خاصة لها أهداف غير وطنية في الغالب، مثل فرض نسخة متزمتة من الإسلام على الشعوب، أو أنها مرتبطة بقيادات خارجية، كما يشاع عن الإخوان المسلمين أنهم يرتبطون بتنظيم دولي له أهداف فوق وطنية.
وتدرك الأنظمة العربية الحاكمة أنه لا الشعوب العربية، ولا دول العالم الخارجية، تأخذ هذه الرواية على محمل الجد، وأنها رواية مستهلكة إلى أبعد الحدود. فالجيوش العربية باتت مؤسسات مغلوب على أمرها، ولم تعد في الجمهوريات والممالك العربية، منذ سبعينيات القرن الماضي، أحد الفواعل المهمة في السياسية العربية. فقد قامت الأنظمة بإعادة صياغتها بطريقة جديدة، تؤمن لها السيطرة على مفاصل الجيش بالكامل، ووضعها تحت سلطة أجهزة المخابرات، التي رعت إفساد قادة الجيوش والمراتب العليا، وتحكمت بالترقيات وبتوزيع الضباط على القطع والألوية العسكرية، وحوّلت من تظن أنهم يشكلون مشاريع قيادات نزيهة ويملكون الكاريزما التي تجعلهم مقبولين وموثوقين من قبل المراتب الدنيا؛ إلى العمل الإداري، حيث يصبح الضابط لا وزن له ولا يملك القدرة على تحريك حتى جندي واحد مسلح ببندقية.
من جهة ثانية، تم وضع قيادات للجيوش ضعيفة وغير مؤثرة، وغالباً ما يتم توريطها بقضايا كالفساد أو غيرها من المخالفات، ليسهل إخضاعها، وكل ذلك بهدف إنتاج جيش على مقاسات الحاكم ورأس النظام. وفي أحيان كثيرة وضع الحكام العرب أبناءهم في مناصب مفصلية في الجيش، وباتوا هم الآمرون المباشرون للجيش.
لعبة الجيش يبدو أنها راقت لأنظمة الثورات المضادة، وقد كان واضحاً أن الرئيس التونسي قيس سعيّد أدرك هذه اللعبة، وخاصة وأن الإسلاميين أحد أضلاع الحكم في تونس. وليستطيع العبور بتونس إلى دولة الحاكم الفرد المستبد، تلطى بالجيش وأعلن أنه يحظى بتأييده لإجراء التغييرات المطلوبة في المشهد السياسي
لعبة الجيش يبدو أنها راقت لأنظمة الثورات المضادة، وقد كان واضحاً أن الرئيس
التونسي قيس سعيّد أدرك هذه اللعبة، وخاصة وأن الإسلاميين أحد أضلاع الحكم في تونس. وليستطيع العبور بتونس إلى دولة الحاكم الفرد المستبد، تلطى بالجيش وأعلن أنه يحظى بتأييده لإجراء التغييرات المطلوبة في المشهد السياسي التونسي وأخذه البلاد إلى الوجهة التي يريدها. ويحاجج الذين أيدوا خطوات سعيّد في تونس والعالم العربي، بأن الجيش التونسي لم تتلطخ أيديه بدم الثوار، وأنه وقف على الحياد، وكأن ذلك إنجاز يستحق الجيش المكافأة عليه، وبالتالي، سيصبح موقفه هذا جواز سفر للتدخل في السياسة في هذه المرحلة.
لا تملك الجيوش العربية الحالية مزايا تؤهلها للحصول على ثقة المجتمعات العربية، فلا شيء في عقيدة هذه الجيوش ولا في سلوكها يؤكد أنها كيانات بريئة مما حصل للشعوب العربية من كوارث حكم الفرد المستبد، وهي لم تقف على الحياد، بل كانت على الدوام العصا التي يلوّح بها الحاكم لتخويف شعبه، في حين أن الأولى بهذه الجيوش أن تكون طرفاً قريباً من الشعب لموازنة تسلط الحاكم وأدواته.
twitter.com/ghazidahman1