من الأمانة العلمية، أن أقر من البداية بأن مصطلح “العالم الرابع” من حيث المعطى العام ليس اختراعا ولا ابتداعا مني، فهناك نظرية قائمة بذاتها حول “العالم الرابع”، قال بها بعض الباحثين ولو أنها لم تلق لحد الآن رواجا وانتشارا في العالم لأن معالمها لم تتضح بالصورة الكافية ولأن الأسس التي بنيت عليها تجعلها أقرب إلى الفرضية منها إلى النظرية.
من الدراسات التي استوقفتني حول نظرية العالم الرابع دراسة للباحث Olon F. Dotsonبقسم الهندسة، معهد الهندسة والتخطيط بجامعة Ball State University الأمريكية. وقد لخص الباحث نظريته في نقاط محددة أهمها أن نظرية العالم الرابع هي منهجية لفحص حالة الإهمال السائد في بعض المقاطعات الأمريكية والناتج عن تراجع عمليات التصنيع بالإضافة إلى التمييز التاريخي العنصري الذي عرفته هذه المنطقة، وقد زاد من فظاعة هذا الوضع تآكل النظام الضريبي وعدم القدرة على تكوين وعاء مالي من مداخيل هذه الضرائب وهو الوضع الذي نتجت عنه حالة كبيرة من اليأس الاجتماعي لدى سكان هذه المناطق، وتمثل مدينة غاري Gary بولاية أنديانا Indiana ومختلف تجمعات ديترويت Detroit صورة حية لهذا اليأس المتزايد. ويخلص Olon F. Dotson إلى القول بأن هذه التجمعات البشرية المهمشة التي أغلبها من أصول إفريقية ستشكل مع مرور الوقت عالما رابعا قائما بذاته داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
يعطيOlon F.Dotson لنظريته حول العالم الرابع بعدا اجتماعيا إثنيا ومناطقيا فهو يتناولها كحالة أمريكية محدودة في المكان، ويبدو أن هذه النظرية لا تتوفر على عناصر قوة كبيرة كما أن المقاربة التي أسست عليها تخضع لعوامل متغيرة، ومنها أن التأسيس على حالة الإهمال الاقتصادي والاجتماعي في مقاطعة أو مقاطعات أمريكية لا يبرر بأي حال قوة نظرية العالم الرابع التي يتحدث عنها Olon F.Dotson.
لا يمكن -حسب خبراء الاجتماع والاقتصاد- تهويل حالة الإهمال الاقتصادي والاجتماعي في بعض الولايات الأمريكية إلا بمقارنة بنظيراتها في العالم الآخر، هناك –كما يقولون-اختلاف في موازين الاقتصاد والاجتماع بين الولايات الأمريكية ولكن هذا الاختلافات لا تصل إلى درجة الإهمال شبه المطلق لأن الدستور الأمريكي لا يقر مبدأ التمييز المناطقي كما أن ليونة القانون الفدرالي الأمريكي تعطي هامشا كبيرة للاستثمار، وعليه فإن العجز الاقتصادي والأمريكي في بعض الولايات الأمريكية مهما بلغت درجته لا يفسر إلا بتقاعس السلطات المحلية ولا يمكن أن يرقى ليكون مبررا لنشوء عالم رابع داخل الكيان الأمريكي.
لعالم الاجتماع (مانويل كاستيلس Manuel Castells) الباحث بجامعة جنوب كاليفورنيا مقاربته الخاصة حول نظرية العالم الرابع، حيث يرى بأن الإثنيات الدينية ذات التوجه الواحد المنتشرة في العالم والمتفرقة بحكم عوامل سياسية وغيرها يمكن أن تجتمع في فترة من الفترات لتؤسس تجمعا عالميا في فضاء مفتوح خلافا للدولة الوطنية ذات الحدود المعلومة، وهذا يعني بروز العالم الرابع الذي سيكون أكثر تنظيما وانسجاما من العوالم الثلاثة.
لي تصور لنظرية العالم الرابع يختلف جذريا عن التصورات التي سبقت الإشارة إليها وهو تصور لا يؤسس على البعد الإثني ولا على البعد العرقي، وإنما يؤسس على منزلة “العالم الرابع” الذي أتوقع ظهوره بعد نهاية جائحة كورونا في السلم الترتيبي العالمي.
لقد أجمعت التقارير الإعلامية العالمية ومنها الصادرة عن منظمة الصحة العالمية أن كورونا قد أحدث شرخا جديدا داخل المنظومة العالمية، فخبراء الاجتماع والسياسة في ظل المنحى التصاعدي لهذه الجائحة قد تجاوزوا الحديث عن العالم الثالث إلى الحديث عن عالم رابع بمواصفات العدمية الاقتصادية والاجتماعية، فعالم ما بعد كورونا في اعتقادي سينقسم إلى أربعة أقسام: عالم صناعي وعالم بترولي وعالم زراعي، وعالم عديم لا يملك من إمكانات الصناعة والبترول والزراعة شيئا، يعيش على إعانات الأمم المتحدة وصدقات الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية. تقدم تقارير الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية إحصاءات دقيقة ومدروسة ومحينة عن العجز الكبير الذي تعانيه بعض الدول من جراء آثار جائحة كورونا والتي جعلتها عاجزة حتى عن توفير رعاية صحية مقبولة لمرضاها ناهيك عن توفير ميزانية لشراء اللقاحات.
إن تقارير منظمة الصحة العالمية عن الوضع المأساوي لبعض الدول في ظل استفحال جائحة كورونا وعجزها عن اقتناء اللقاحات اللازمة تجعلنا نقول إن معالم العالم الرابع قد بدأت تتضح فقد قرأت في ” أورونيوز العربية Euronews Arabic” مقالا بعنوان: “الدول الفقيرة ستدخل في أزمة بعد شراء الدول الغنية فائضاً من لقاحات كورونا”، ومما جاء في هذا المقال:”.. ويرى خبراء أن فرص تقاسم جرعات اللقاحات بشكل عادل بين الدول بدأت بالتلاشي، خاصة مع محدودية كميات اللقاحات، فإن الدول المتقدمة التي ساهمت في التوصل إلى هذه اللقاحات بتمويلها للأبحاث، من أموال دافعي الضرائب، باتت تتعرض لضغوطات كبيرة لحماية سكانها من خلال شراء اللقاحات”.
من المفاجآت غير السارة التي ستميز عالم ما بعد كورونا هو أن بعض الدول التي تنتسب حاليا ومنذ التقسيم التاريخي المشين إلى العالم الثالث ستتقهقر إلى مرتبة دول العالم الرابع والراجح حسب الدراسات والإحصاءات أن أغلب منتسبي العالم الرابع سيكون من إفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، وهو ما ستكشفه لعبة اللقاحات التي تحولت إلى ما يشبه الاستعمار الجديد الذي يجعل الدول الفقيرة رهينة أي قرارات أو صدقات تأتيها من الدول الغنية.
لقد بات واضحا أن لعبة اللقاحات ستجر إلى حظيرة العالم الرابع بعض الدول التي كنا نظن أنها دول قابلة للتطور ولكن وقع جائحة كورونا جعل هذه الفرضية بعيدة المنال، ولعل أبرز مثال على ذلك الهند والبرازيل، ففي حالة الهند، فقد أدى تفاقم حالات كورونا الأخيرة إلى تآكل وتهالك المنظومة الصحية التي أصبحت عاجزة عن معالجة الآثار الوخيمة التي سببتها جائحة كورونا، وتتشابه حالة البرازيل مع حالة الهند ولكنها تزيد عليها بوجود قيادة سياسية في البرازيل استهانت بالجائحة وقللت من خطورتها فكانت حصيلة القتلى والمصابين فوق ما تستوعبه طاقات وإمكانات الدولة.
لقد تحول لقاح كورونا إلى سلاح بيد شركات الأدوية وهي شركات ربحية يهمها تضخم رقم عوائد المبيعات ولا تكترث للدعوات الإنسانية التي يطلقها الفاتيكان أو أي مؤسسة دينية أخرى أو تطلقها منظمة الصحة العالمية حماية للمستضعفين، فرسالة المدير العام لمنظمة الصحة العالمية للدول الكبرى بتأمين حق الدول الفقيرة من اللقاحات لم يلق إلا استجابة محتشمة، وحسب المعهد المصري للدراسات فإن “ما يقرب من 70 بالمائة من جرعات اللقاح المستخدمة حتى الآن كانت من نصيب أغنى 50 دولة في العالم، بينما تم حقن 0.1 بالمائة في أفقر 50 دولة”.
لقد كانت مشكلة كثير من دول العالم الثالث قبل كورونا تأمين الغذاء ولكنها في ظل كورونا وما بعد كورونا ستضطر للتفكير على جبهتين الجبهة الاجتماعية وما تتطلبه من حاجيات غذائية والجبهة الصحية وما تتطلبه من رعاية صحية، ومن المؤكد أن فشلها على الجبهتين الاجتماعية والصحية منتظر وسيكون فشلها على الجبهة الصحية أسوأ أثرا وأعظم خطرا مما سيجعل منها أو أغلبها دولا مرشحة للنزول إلى المرتبة الرابعة إلى صف دول العالم الرابع الذي سيتشكل قريبا.
يتنبأ الخبراء بأن عالم ما بعد كورونا سيكون مختلفا لأنه سيشهد ميلاد عالم جديد، ولكنني لا أعتقد صدق هذه المقولة إلا من جانب واحد وهو أن يكون الجديد تحول نظرية العالم الرابع إلى حقيقة، لا أقول هذا رجما بالغيب ولكن بناء على الآثار الكارثية الذي ستخلفها جائحة كورونا وهو ما يقطع الشك باليقين بشأن العالم الرابع الذي نترقبه اليوم أو غدا وإن غدا لناظره قريب.
ستشكل كثير من الدول الإفريقية النسبة الغالبة من تركيبة العالم الرابع ما بعد كورونا وذلك لعدة اعتبارات، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: أن هذه الدول ورثت منظومات صحية متهالكة من عهد الاستعمار ولم تسعف الإمكانات المالية -المنعدمة أصلا عند أكثرها- أكثر هذه الدول لبناء منظومة صحية بالمعايير القاعدية ناهيك عن المعايير العالمية.
ثانيا: أن أكثر الدول الإفريقية قد تضررت من هجرة الأدمغة مما اضطرها لكي تكون عالة على الدول الغربية، ومن المؤكد أن تابعية هذه الدول الإفريقية لمستعمرها الجديد القديم لن يسمح لها بتحقيق أكثر مما تأذن به هذه الدول.
ثالثا: أن تقارير منظمة الصحة العالمية تقول إن إفريقيا كانت آخر دول العالم عهدا بجائحة كورونا ولكنها تحولت فيما بعد إلى أكثرها تضررا وليس هناك ما يؤشر على اقتراب خروجها من النفق إلا بفاتورة ثقيلة التي لا تملكها أصلا ولذلك فإن انضمامها إلى العالم الرابع منتظر بعد نهاية كورونا.
رابعا: نقص اللقاح وقلة الموارد المالية لاقتنائه من قبل أكثر الدول الإفريقية سيجعلها أمام خيارين أحلاهما مر: إما أن تستسلم لقدرها فيفتك بها فيروس كورونا وإما أن تسلم أمرها للدول الكبرى فتحصل على ما تريد من اللقاحات مقابل تنازلات مذلة قد تفقدها سيادتها وهي في كلتا الحالتين مرشحة للانضمام إلى العالم الرابع.
(عن صحيفة الشروق الجزائرية)