بعد فرار الرئيس الأفغاني أشرف غني من العاصمة كابل، وتمكن حركة طالبان من بسط نفوذها على كامل الجغرافيا الأفغانية، وسيطرتها على العاصمة الأحد الماضي، تكاثرت التحليلات والكتابات والتوقعات عنها، خاصة ما يتعلق بنسقها الديني الحاكم لها في إدارتها للشأن السياسي والديني والفكري، وتعاطيها مع مختلف الملفات الشائكة؛ كموقفها من المرأة، وتعاملها مع المخالف الفكري والسياسي والديني، ومدى قبولها بالتعددية الفكرية والسياسية في المرحلة القادمة.
ووفقا لباحثين في الشأن الأفغاني، فإن حركة طالبان باتت اليوم أكثر مرونة وانفتاحا مما كانت عليه في تجربتها السابقة، وأصبحت أوسع أفقا في استيعابها لسائر مكونات الشعب الأفغاني، وهي تسعى إلى إرسال رسائل تطمينية لسائر الشعب الأفغاني على اختلاف توجهاته، بأنها عازمة على تجاوز الماضي بكل ما فيه، وتوجهها لإدارة المرحلة القادمة بقدر كبير من التسامح والمرونة.
وهذا ما أكده المتحدث باسم الحركة، ذبيح الله مجاهد في مؤتمره الصحفي أمس الثلاثاء، من دعوته للمتعاونين مع أمريكا من أفراد النظام السابق، بأن "لا يغادروا بلدهم، وعليهم أن يعودوا لبيوتهم، ولن يضرهم أحد؛ لأنهم شركاؤنا في بناء وطننا" حسب عبارته، مضيفا: "بإمكان وسائل الإعلام الخاصة في أفغانستان أن تمارس عملها باستقلال وحرية"، مشددا على أن حركته "ستحترم المعتقدات الدينية والقيم الروحية لجميع الأفغان"، كما طمأن الشعب الأفغاني بأنهم "سوف يشهدون تغييرا إيجابيا، من أجل تنظيم المجتمع في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي".
وتُشير بيانات الحركة، وتصريحات المتحدثين باسمها، إلى أن "تغييرا طرأ على الحركة في فهمها الفكري والسياسي، وهو ما أعلنه الناطق باسم المكتب السياسي، سهيل شاهين في أكثر من مقابلة، فقد أصبحت الحركة أكثر وعيا وفهما واستيعابا لكثير من الأمور الشرعية والسياسية، وأكثر انفتاحا على الآخر، سواء في أفغانستان أو العالم، وأكثر استيعابا لسائر مكونات الشعب الأفغاني"، طبقا للكاتب الصحفي جمال إسماعيل، المختص في الشؤون الباكستانية والأفغانية.
جمال إسماعيل.. كاتب مختص بالشؤون الباكستانية والأفغانية
واستدرك في حديثه لـ"عربي21": "ومع ذلك، فهذا لا يعني تغيرا مبدئيا أو عقائديا عند الحركة، وإنما تغير في السلوك والتعامل مع الآخرين، ولا زال من المبكر القول بقبول الإمارة الإسلامية للتعددية السياسية على شكل أحزاب سياسية قائمة، ومن الأفضل الانتظار حتى يتم تشكيل حكومة جديدة في أفغانستان، تكون فيها الحركة في مركز القيادة".
ورأى إسماعيل أن "الحركة استفادت كثيرا من تجربتها السابقة منذ سقوط حكومتها في نهاية عام 2001م، إذ كانت في سنوات حكمها الأولى ترفض التصوير بالمجمل، وليس عندها خبرة في إدارة شؤون الحكم والدولة، ولم تكن تقبل بوجود الدينية الأخرى في أفغانستان، وترى في نفسها أنها الجهة الوحيدة الواجب طاعتها، لكن بعد عشرين سنة من الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي لأفغانستان، واحتكاكها بالعالم الخارجي وانفتاحها عليه، أدركت الحركة أن هناك الكثير من الأخطاء التي وقعت فيها في أثناء سنوات حكمها، وأن عليها تغيير نهجها وسياستها".
وأضاف: "وهو ما بدأت به بالفعل، حيث انفتحت دينيا على تيارات أخرى، وانضم إليها جزء كبير من التيار السلفي في ولاية كونر شرق أفغانستان، كما انضم إليها جزء من الشيعة الهزارة وسط أفغانستان، وتعاونت مع أحزاب إسلامية سبقتها في النشأة والظهور في أفغانستان لمقاومة الاحتلال الأجنبي".
ولفت إسماعيل إلى عدة مؤشرات، تُظهر أن الحركة غيرت من نظرتها إلى المرأة وتعاملها معها"، وهو ما برز بوضوح في المفاوضات التي أجرتها طالبان مع وفود من كابول، كان من بينها نساء أفغانيات، وإقرار الحركة في المفاوضات بأنها ستعطي المرأة الأفغانية الحقوق كافة التي نصت عليها الشريعة الإسلامية، ولا تعارض عمل المرأة وتعليمها، شرط التزامها بالزي الشرعي، وهو ما تجلى في تصريحات المتحدثين باسم الحركة بعد وصول قواتها إلى كابول".
ولاحظ أن "طالبان الحالية هي بمنزلة حركة جديدة؛ إذ بات فهمها للدين والسياسة أوسع وأشمل، مع تمسكها في الوقت نفسه بالثوابت والأصول الشرعية، وفي ظل سعيها لنيل اعتراف دولي وعدم التسبب بأي عقوبات جديدة على أفغانستان وشعبها في المرحلة القادمة، وهو ما يمكن اعتباره نضجا كبيرا في فهم الحركة للوضع الداخلي، والعالم الخارجي".
من جهته، قال مدير مكتب الجزيرة السابق في أفغانستان، سامر علاوي "في تجربة الحركة السابقة شكل طلاب المدارس الدينية الرعيل الأول للحركة، وصاغ فكرهم السياسي أمران رئيسيان: التعليم الديني الخالي من أي أفكار عصرية، وصدمة ما وصل إليه الجهاد الأفغاني من حرب أهلية بعد اندحار الاتحاد السوفيتي، وسقوط الحكومة الاشتراكية التي خلفها".
وأضاف: "لكن واقع الحركة اليوم يختلف كثيرا، فلم تعد المدارس الدينية وحدها مصدر التعبئة والتجنيد لعناصرها، بل إن كثيرا من عناصرها اليوم من خريجي جامعات ومدارس مشبعة بالتيارات السياسية والفكرية المتناقضة، وقد تكون مختلطة من الجنسين، ومنهم من انشق عن الجيش الأفغاني، كما تمكنت طالبان من اختراق الجيش والشرطة، وأجهزة الدولة الأفغانية المدعومة من المجتمع الدولي، وتعايش عناصرها مع زملائهم في أجهزة الدولة".
سامر علاوي.. مدير مكتب الجزيرة السابق في أفغانستان
وتابع: "ومع دخول الحركة الثاني لكابول، اتخذت خطوات مهمة تشير إلى الفارق بين نهجها السابق والحالي، إذ أعلنت عن عفو عام عن جميع موظفي الدولة؛ سياسيين وعسكريين وأمنيين، وزار ممثلوها حسينية للشيعة في غرب كابول في أثناء إحياء الأقلية الشيعية شعائر محرم، كما أن قيادة الحركة التي كانت تفتي بحرمة مشاهدة التلفزيون، وتحظر وسائل الإعلام المرئية قبل 20 سنة، أصبح تصوير مقاطع الفيديو وبثها عبر الإنترنت مادتها الإعلامية الرئيسية، وهو ما كانت تسميه القوات الأجنبية بدعاية طالبان".
ولفت علاوي في حديثه لـ"عربي21"، إلى أن "أكثر ما يشير إلى التغيير في نهج طالبان السياسي والفكري، هو التسامح الذي ظهر على سلوكها خلال السنوات القليلة الماضية مع منتمين لتيارات فكرية إسلامية مناهضة للوجود العسكري الغربي في أفغانستان، فسمحت لمؤسساتهم بالعمل في مناطق نفوذها، ومن هذه المؤسسات جامعات ومدارس وجمعيات خيرية ووسائل إعلام".
وأردف: "لقد أدركت طالبان على مدى السنوات السابقة، أن هناك غزوا ثقافيا غربيا يتعرض له الشعب الأفغاني لا يمكنها مواجهته من خلال البندقية، فتعاطفت مع التيارات التي لا تنسجم معها فكريا، أو تشاركها الجهد المسلح، لكن نشاطها يصب في المصلحة نفسها، وهي حماية المجتمع الأفغاني من الغزو الفكري والثقافي".
ولاحظ علاوي أن "التغيير لم يقتصر على عقلية طالبان، بل على الأجواء العالمية، ومع الوقت غاب شعار اجتثاث طالبان من قبل القوى الغربية، وحل محله شعار إشراك طالبان، وبعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتطلع إلى قيادة القطب الواحد ظهرت أقطاب عدة تنافسها، وكلها تستغل انشغال أمريكا في أفغانستان، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ما زالت قوة عظمى، فبعد 20 عاما بدأت الهوة التكنولوجية والاقتصادية تضيق بينها وبين منافسيها، ولم تجد أمريكا أمامها سوى تغيير استراتيجية الاجتثاث لطالبان إلى استراتيجية الاستيعاب والاحتواء".
بدوره رأى الكاتب الصحفي المصري، المتابع للشأن الأفغاني، مصطفى حمزة أن "حركة طالبان باتت تتمتع بخبرة أكبر من ذي قبل في إدارة شؤون البلاد، ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن هذه الخبرة ستدفعها للمرونة في التعامل مع مكونات الشعب الأفغاني، بسبب اختلاف هذه المكونات، فبعضها رافض تماما لوجود الحركة في السلطة ويتمنى الفرار بنفسه وأهله، مثل الشيعة الهزارة وبعض البلوش وغيرهم، والبعض الآخر، وهو الأغلب في تقديري، لا يهمه من يحكم بقدر ما يهمه كيف يدير، وهذا يتوقف على الإدارة السياسية للحركة في الفترة المقبلة".
وتابع لـ"عربي21": "وتجدر الإشارة إلى أن التدين الأفغاني تدين متشدد وليس تدينا وسطيا، ما يوفر للحركة حواضن اجتماعية في أغلبية المناطق، ستضعف مقاومة طالبان اجتماعيا، على الرغم من تشددها الذي سينعكس حتما على المجتمع بكل شرائحه، إذ إن الانفتاح الديني والفكري يصعب وجوده داخل التنظيمات الأيديولوجية المنغلقة على نفسها، فهي تزعم احتكار الفهم الصحيح للدين، ومن ثم تختلف مع الآخر في تفسيراته وممارساته التي تنبثق عن تلك التفسيرات". على حد قوله.
وخلص في ختام حديثه إلى أن "حركة طالبان لم تقدم أي مبادرات للمجتمع تشي بقبولها بالتعددية الدينية والسياسية الموجودة في أفغانستان، باستثناء بعض التصريحات الإعلامية بشأن المرأة، لكن تلك التصريحات لن تغير من طريقة التفكير السياسي للحركة؛ لأنها محكومة بأيديولوجية خاصة ستسعى لفرضها على الجميع بالقوة".
مفكر جزائري: العرب اليوم أقرب إلى وضعية "زمن حكام الطوائف"
قيادات إسلامية سودانية تقيم مراجعات لشروط الوفاق والمصالحة
تجارب الإسلاميين في مشروع جاسم سلطان الفكري النقدي