مقدسي أحب فلسطين كما أحب الأردن وتقاسما دقات قلبه الذي توقف عن الخفقان بعد رحلة طويلة في خدمة المشروع السياسي للحركة الإسلامية في الأردن وفلسطين.
لم يكن يدرك ذلك الفتى اليافع من القدس أنه سيكون من الأوائل الذين وضعوا اللبنة الأولى لمشروع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وأن يؤسس لمشاريع البنية التحتية في الأردن والكويت بوصفه مهندسا مدنيا.
إبراهيم غوشة المولود في حي السعدية بالقدس عام 1936 بعد انتهاء المرحلة الأولى من الثورة الكبرى في فلسطين، نزح مع عائلته إلى أريحا إبان النكبة عام 1948.
حصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة القاهرة عام 1961.
وعمل بعد تخرجه مهندسا في قناة الغور الشرقية بالأردن ما بين عامي 1961 و1962، غادر بعدها إلى الكويت للعمل مهندسا في عدة مشاريع حتى عام 1966، ليعود من جديد إلى الأردن للعمل في مشروع سد خالد على نهر اليرموك، ثم بناء سد الملك طلال في الأردن عام 1972.
عاد مرة أخرى إلى الكويت لفترة قصيرة ومحددة للعمل في تشييد أبراج الكويت، ليواصل عمله فيما بعد مديرا لمشروع سد الملك طلال في الأردن حتى عام 1978 حيث تفرغ للعمل في مكتبه الهندسي الخاص.
طيلة تلك الفترة لم يكن غوشة بعيدا عن الحركة الإسلامية التي انضم إليها وله من العمر 14 عاما فقد تفتح ذهنه وعقله على أدبياتها في القدس عام 1950، وكان من الناشطين الإسلاميين في رابطة الطلاب الفلسطينيين في مصر أثناء دراسته الجامعية.
يذكر غوشة في مذكراته أنه انجذب عندما كان في الصف السادس الابتدائي، إلى دروس الشيخ تقي الدين النبهاني (مؤسس حزب التحرير الإسلامي) التي كان يلقيها في شعبة الإخوان المسلمين، وأنه انتظم في "الإخوان" عندما كان في السابع الابتدائي.
عايش المرحلة السرية في العمل الإسلامي والتي جاءت نظرا لطبيعة الظروف الأمنية الصعبة أيام حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
وفي تلك الفترة عرض مع بعض المهندسين على الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) المشاركة في بناء خنادق وملاجئ للمقاومة في الأردن وكان ضمن مجموعة من كوادر "الإخوان" الذين دعوا لتأسيس مشروع مقاوم في الأردن بين عامي 1967 و1970.
وفيما بعد سيصبح رئيسا لتيار الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمين) في نقابة المهندسين الأردنيين عام 1973، وعمل في قسم فلسطين التابع لـ"الجماعة"، وشارك في المؤتمر الداخلي المنعقد في عمان لمناقشة مستقبل القضية الفلسطينية عام 1983، وكان من الذين دفعوا في المؤتمر باتجاه إطلاق مشروع مقاوم في فلسطين بقيادة "الجماعة".
اقرأ أيضا: مشعل وهنية في عمّان لتشييع "غوشة".. وهتافات قوية (شاهد)
كما ساهم بتشكيل "قسم فلسطين" الذي يتبع قيادة "الإخوان" في الأردن، وذلك بعد أن اندمج التنظيم الفلسطيني في قطاع غزة مع "إخوان الأردن" عام 1978.
ونظرا لتعدد مهامه فقد آثر عام 1989 التفرغ للعمل في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بطلب من محمد عبد الرحمن خليفة المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن آنذاك حيث أعلن عن تعيينه ناطقا رسميا باسم "حماس" ما بين عام 1991 و1999.
وشارك غوشة بأنشطة "حماس" منذ تأسيسها، وفي جميع الاجتماعات التشاورية مع الفصائل الأخرى، وكان من رعاة أول حوار بين "حماس" و"فتح" في صنعاء عام 1990، ولقاء وفد "حماس" بياسر عرفات في تونس في أعقاب الاشتباكات التي اندلعت بين "حماس" و"فتح" في قطاع غزة عام 1992، وفي الحوارات اللاحقة.
وكان الراحل من الموقعين على اتفاق تحالف الفصائل العشرة في مواجهة اتفاق أوسلو عام 1991.
وأبعد من الأردن مع قادة "حماس" إلى قطر حين أغلقت الحكومة مكاتبها عام 1999 في عهد حكومة رئيس الوزراء الأردني الأسبق عبد الرؤوف الروابدة، ولم يستقبل الأردن أي مسؤول من "حماس" منذ ذلك الوقت إلا لدواع إنسانية. ومن ذلك سماحه لخالد مشعل في 3 مناسبات بدخول أراضيه، وكانت الأولى عام 2009، لتشييع والده، والثانية لتشييع جثمان عمر الأشقر، أحد مؤسسي الحركة عام 2012، والثالثة في نفس العام لزيارة والدته المريضة. وستكون مناسبة تشييع غوشة المرة الرابعة.
لكن غوشة ما لبث أن عاد إلى العاصمة عمان عام 2001 بعد أن أعلن التوقف عن نشاطه السياسي والتخلي عن هويته السياسية الفلسطينية كشرط لعودته إلى المملكة، بعد ما عرف وقتها بأزمة "الطائرة القطرية" التي أقلته إلى عمان.
وتحفظ غوشة شخصيا على مشاركة "حماس" في الانتخابات التشريعية عام 2006 لما يترتب على ذلك من "استحقاقات هائلة"، وفقا لما نشر عنه في مذكراته، مبينا أنه كان "يخشى من إضعاف محور المقاومة في عمل حماس"، ولكن عاد وأكد على "احترامه رأي الأغلبية والتزامه به". لافتا إلى أن هذا الأمر لم يكن ليحدث لو كان الشيخ المؤسس أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي على قيد الحياة لأن دخول الانتخابات كان تحت سقف "أوسلو'' الذي رفضته الحركة.
كتب إبراهيم غوشة (أبو عمر) قبل رحيله سيرته الذاتية تحت عنوان "المئذنة الحمراء.. سيرة ذاتية" التي صدرت عام 2008، ويبدو عنوان الكتاب مستمدا من مسجد المئذنة الحمراء الذي يعود تاريخه إلى الحقبة العثمانية في فلسطين ويقع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، في حارة السعدية داخل الحي الإسلامي حيث ولد غوشة.
كان غوشة مواكبا لمسيرة الحركة الإسلامية في الأردن وفي فلسطين منذ البدايات وكان ناشطا هادئا ابتعد قدر استطاعته عن الإعلام والتصريحات الصحفية المتكررة رغم وظيفته التي تمنحه تلك المهمة.
ويبدو أن غوشة وحتى رحيله كان الرجل الذي يتقن وظيفته ومهمته بسرية تامة، ولم يدخل في أية سجالات سياسية أو إعلامية وكانت بوصلته فلسطين ومعركة تحريرها.