ليس لدى الأفغان أيقونات، لا يعرفون جورج كلوني، ولا هيدي لامار، ولا مارلين مونرو كما نعرفهم نحن "المسقفين"، الأفغان يعرفون الأنبياء والصحابة، لزعيم طالبان الأول الملا محمد عمر صورة وحيدة تُكثر الفضائيات الغربية والعربية من عرضها في وكالات الإعلام وصناديق الصور السحرية لأنها تشبه صورة القرصان، فهو بعين واحدة، خسر عينه في الحرب، أما عين عدسة الكاميرا، فهي عين واحدة لا ثانية لها، وكدت أقول "كأنها عنبة طافية"، وقد غرمت العين بأفغانستان، وخاصة بمطارها.
كانت حيلة فرعون مع قومه وقوم موسى هي خدعة الصورة، وكان جنده سحرة صور وفوتوشوب وألعاب خفة، وكانوا يحوّلون العصي والحبال إلى حيّات وثعابين، إلى أن جاء موسى عليه الصلاة والسلام، وأبدى المخض عن الزبد وألقى عصاه فهي تلقف ما يأفكون.
يزعمون أنّ الصورة لا تكذب، ولا يوجد أكذب من الصورة وأغش منها، ليس بآلات الفوتوشوب التي يمكن للحاذقين كشف كذبها، لكن يمكن الغش بتكرار صورة حسنة للصديق، أو صورة مهينة للعدو. لنتذكر أن صورة الطفلة الفيتنامية الهاربة العارية المحروقة بالنابالم، شُنّعت من قبل المحللين الأمريكيين، الذين اتهموا الفتاة الهاربة من النار الأمريكية بأنها وقحة وعديمة الحياء، مع أنها طفلة دون سن الشهوة وباكية ومذعورة.
هناك فضائيات غربية جعلت من محمد الدرة وأبيه صهاينة، والقتلة فلسطينيين. ولم تنفع السوريين صور قيصر المصورة بكاميرا حديثة ولا مئات الفيديوهات للقصف الجوي والبري لأنّ الأسد يسمح للمرأة بالعمل والتمثيل السينمائي والتلفزيوني ويقتل المحجبات ويغتصبهن في معتقلاته.
ذكر محللون معروفون أسباب احتلال أمريكا لأفغانستان، فعدّدوا ثرواتها من الغاز والنفط والمعادن الثمينة مثل الليثيوم سوى طريق الحرير، لكنهم أعرضوا جميعًا عن أكبر ثروة في الأرض، وهي "ثورة" العقيدة، فأفغانستان أكبر حاجز عقائدي في الأرض، هي الدولة الوحيدة في الأرض التي لا تعبد ما يعبده الأمريكان والعالم الذي يسمونه بالحرّ مع أنه يعبد شهواته، فأهل أفغانستان يجهلون رامبو وشوارزنيجر وجنيفر لوبيز ومارادونا الذين نلصق صورهم على جدران بيوتنا، ولا يعنيهم صنم الأوسكار في شيء، وأزياؤهم مختلفة، وقد عجز أشهر علماء الأمة الإسلامية في ثنيهم عن تدمير صنمي بوذا.
وكانوا كلما ذكر العلماء حجّة فقهية ردّوها بآية قرآنية، وقد اجتهد الزائرون، فذكروا لعلماء طالبان الأضرحة الكثيرة التي تركوها من غير هدم، والتي يتبرك بها الأفغان ونسوا أن الأضرحة تقاليد محلية غير مستوردة وإن كانت منكرة، أما الأصنام فهي من دين آخر، وليس السجود للصنم كالتبرك بالقبر وطلب الشفاعة من الصالحين.
لم تكن أمريكا تحتاج ذريعة لضرب أفغانستان، فلو لم يكن أسامة بن لادن لوجدت سببًا غيره، ولم تكن أمريكا بحاجة لهدهد حتى يبلغها أن قومًا في كوكب الأرض يعبدون الله من دون الشمس، وصورة الشمس على الدولار هي من أهم الرموز على قطعة النقد الأمريكية.
لنتذكر أن أمريكا بعد أن انتقمت من الشعب الأفغاني كله وليس من أسامة بن لادن السعودي ولا من قومه، ووزرت وازرة وزر أخرى، وقصفت أفغانستان بأم القنابل، وصنعت سجادة النار حتى تعبت من الحرق، واعتقلت مئات الأبرياء وخطفتهم منهم إلى غوانتانامو للتسلية والتعذيب والتنفيس عن الغضب، وقتلت ربع مليون أفغاني، بثّت لنا صورة أفغان يلعبون لعبة "البز كاشي"، وهي لعبة بين فريقين يتخاطفون جثة عجل ميت على الخيول، فوقر في عقيدة العالم بتلك الصور أن أفغانستان تحولت إلى جنة، وأنّ شعبها لا همّ له سوى اللعبة.
تلك خدعة الصورة، والحرب خدعة.
لم تكن أمريكا تحتاج ذريعة لضرب أفغانستان، فلو لم يكن أسامة بن لادن لوجدت سببًا غيره، ولم تكن أمريكا بحاجة لهدهد حتى يبلغها أن قومًا في كوكب الأرض يعبدون الله من دون الشمس، وصورة الشمس على الدولار هي من أهم الرموز على قطعة النقد الأمريكية.
من خداع الصورة الحديثة المبثوثة من مطار كابول أننا رأينا عسكريات أمريكيات حنونات أيقظ أطفال الأفغانيات الراغبات في الهجرة عاطفة الأمومة لديهن، وهي عكس الصورة التي رأيناها في أبي غريب العراقية، وأشهر صورة في أبي غريب صورة جندية أمريكية تجرّ عراقيًا عاريًا بحبل مثل الكلب، وتلتقط الصورة التذكارية بجانب كتلة من العراقيين العراة فوق بعضهم البعض، أما الصورة المبثوثة من أفغانستان فهي أذكى حتى الآن، صورة أبي غريب سُرّبت للنكاية والاشتفاء في عصر اليمين الأمريكي الغاضب.
ومن خداع الصور أن العدسة اختزلت أفغانستان إلى مطار كابول، فرأينا عسكريًا رؤومًا استيقظت فيه عاطفة الأسرة يسعف أفغانيات ويصبُّ عليهن الماء في الزحام، نذكّر بأن عشرين أفغانيًا قتلوا في الزحام بالرصاص الطائش أو الغاضب، وأن أربعة أطفال قتلوا بقصف أمريكي ساعة كتابة هذا المقال، لكن الليبراليين الجدد لم يذكروا سوى قتل الطالبان للأفغانيين الاثنين، يبدو أنّ القتل على يد الأمريكان منحة وهدية وكرامة.
أظهرت الأخبار نحو عشرة من قيادات طالبان المنفية في الدوحة، وعلى رأسهم الملا عبد الغني برادر الذي سجن ثماني سنوات، مجتمعين حول حاسوب، وكان أربعة منهم محرومين من النظر إليه ويكتفون بالسماع. فأحد أسباب انتصارهم العسكري الذي لم يتحول إلى انتصار سياسي وحضاري هو زهدهم بخداع الصور وحيلها، وبعدهم عن غوغل وفتاوى غوغل وشيوخ غوغل.
بما أن المرأة هي أجمل صورة يخدع بها الذكر، والذكر هو الذي يشعل الحروب فقد رأينا أمس صورةً لأفغاني يستر امرأة كشف تفجير مطار كابل الانتحاري شعرها، فذكّرتنا الصورة بصورة سيدة مصرية تخلع حجابها لتداوي جريحا مصريا هلّل لها الحداثيون فرحا بكشف المصرية لشعرها، فليس أكثر سحرًا من صورة المرأة الجميلة، والصراع يجري بين الحق والجمال. فأكبر الغنائم هي المرأة، الأمريكان يريدونها مكشوفة والأفغان يريدونها مستورة.
من خداع الصور وحيلها أنّ مراسلة CNN ظهرت وأثنت على طالبان ووصفتهم بالوّد واللطف، لكنها في رسالة فضائية لاحقة وثبت إلى الجندي الطالباني، وكان بيده خرطوم يسوّي به صفوف المزدحمين، وأنكرت خرطومه وكأنه من أصحاب الفيل. كل شرطي أمريكي بيده عصا يا مولاتي، وغاز أعصاب، وعصا كهربائية. لا بد أن إدارة القناة وبختها على رسالتها الأولى.
ليس أكثر سحرًا من صورة المرأة الجميلة، والصراع يجري بين الحق والجمال. فأكبر الغنائم هي المرأة، الأمريكان يريدونها مكشوفة والأفغان يريدونها مستورة.
ومن أفعال الصور صورة مذيعة CNN التي لبست الحجاب منكرة الخرطوم النووي، فظهرت أول مرة بالحجاب، فوجدتُ آلاف الحداثيين المتيمين بالعيش الأمريكي تشتم الأفغان وكأن الأفغان اغتصبوها لأنهم أجبروها على لبس الحجاب، ثم ظهرت مرة ثانية وقد كشفت خصلة من شعرها، البضاعة هي الخبر وليس تسريحة الشعر يا أبلة. يتحدثون كثيرا عن دسّ السم في العسل، يمكن دسّ العسل في السم أيضا فيصير طيبا.
ولولت فضائيات وصحف عربية وهي تنقل خبر لجوء طالبات أفغانيات إلى جنوب أفريقيا بطائرة خاصة، واختصر الأعلام الأمريكي والعالمي أفغانستان في مطار كابل، واستطاعت أمريكا تحويل هزيمتها إلى نصر أو ما يشبهه، بإظهار الأفغان مستميتين في النزوح بطائراتها إلى الجنّة الأمريكية والفردوس الأرضي، فتعلقت عيون الناس بما تنقله الفضائيات، ونسيت ملايين النازحين الأفغان المشاة في باكستان وطاجيكستان وإيران، وآلاف الأطفال المعوقين بالقنابل الأمريكية. النازح بالطائرة الأمريكية خوفا من حكم طالبان ليس كالنازح راجلا من بأس الطائرات الأمريكية!
يقول الفيلسوف الفرنسي المختص بالصورة ووسائل الاتصال جان بورديار: إنّ الصورة قاتلة الواقع، وهي قاتلة الحقيقة أيضًا. وهناك مقولة شائعة عن قوة الصورة وأثرها تقول: الرؤية هي الاعتقاد.
الأفغان قوم كلمة وليسوا قوم صورة، وهذا سبب من أسباب الحرب عليهم كما نظنُّ، فبضائع الأمريكان إعلانات سلعهم لا تعنيهم، وهو سبب انتصارهم على أعظم دولتين في العالم وأقواهما حديثًا، وعلى أشدّ دولتين قديمًا وهما بريطانيا ودولة الإغريق.
يقول جان بورديار: "إن أمريكا هي ديزني لاند كبيرة"، وبطل ديزني لاند الأول هو ميكي ماوس، وهو في الثقافة الإسلامية من الفواسق، لكنه في أمريكا أيقونة، وصديق الأطفال الأول، وصوره منتشرة في الشوارع والمحلات أكثر من صورة المسيح. بل يندر أن تجد صورة للمسيح في شوارعها أو محلاتها.
أظهرت إحدى الفضائيات المعروفة صورة لأحد الطالبان وهو يحمل هاتفًا يدويا ويصوّر نفسه أمام المسجد، واستبشرت الفضائية خيرًا بأنّ طالبان يتغيّرون، ويصيرون مثلنا نحن محبّي ميكي ماوس وشاكيرا ونقار الخشب وديزني لاند.
لقد هزم الأفغان الأمريكي الفخور لكنّ الأمريكي أيقظ في الطالبان عاطفة حبّ الذات وهذه أول علامات الحداثة! سيغادر الأمريكان تاركين خلفهم كثيرا من الأسلحة وميكي ماوس طروادة.
ما يلزم طالبان.. مكتب لردِّ الشبهات والأكاذيب