نوهنا الأسبوع الماضي إلى تأكيد مصادر صهيونية؛ رأت في وضع أفغانستان الحالي فرصة لتل أبيب لتضغط على واشنطن للتشدد مع إيران.
ورأت في صدمة الإدارة الأمريكية والجمهور الأمريكي؛ رأت فيها تأثيرا معاكسا، فهزيمة مُذِلة أمام طالبان قد يدفعها لتوجيه ضربة ثأرية خاطفة، إذا ما استجمعت قواها المبعثرة ضد القوى الأضعف من وجهة نظر عموم ساسة الغرب، وعيونهم على «القارة العربية» ودول إسلامية أخرى في النطاق الشرق أوسطي والجوار الأفريقي، وإمكانية استهداف دولة أو أكثر من دوله، وقد لا تستثني «الصهاينة الجدد» من عرب وعجم.
في زمن الحرب الباردة كانت أفغانستان بلدا محايدا، وتحولت من الحرب الباردة إلى حروب مشتعلة، وبدأ ذلك عشية أعياد الميلاد لعام 1979 (عام الثورة الإيرانية)، وطلب الزعيم اليساري الأفغاني بابراك كرمال الدعم من موسكو، وتدخلت القوات السوفييتية، وبعد 10 سنوات من الاستنزاف المتبادل رحلت، بعد «القشة التي قصمت ظهر البعير»، وكان ذلك من أهم أسباب انهيار الإمبراطورية السوفييتية الشاسعة، وكالعادة «لم تتعظ واشنطن من رأس السوفييتي الطائر» وكررت حماقتها في أفغانستان، والسبب أنها كيان بلا تاريخ، ولا تقر بحكم التاريخ، أو تأمن مَكْرَه، وتبالغ في الانتهاكات وتشعل أبشع الحروب، وفي الجرائم ضد الإنسانية، وفي التماهي مع العقيدة الصهيونية الدامية، في ممارساتها وأعمالها العدوانية، ولنتذكر استضافة الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان في مكتبه بالبيت الأبيض قادة «المجاهدين»، ووصفهم وقتها بـ«المقاتلين من أجل الحرية» وتزودوا بصواريخ «ستينجر»؛ محمولة على الكتف، ومضادة للطائرات، ونقلت «المجاهدين» نقلة انتهت بالتفاوض على الانسحاب، وبالفعل أعلن الاتحاد السوفييتي انسحاب قواته بشكل رسمي من أفغانستان (في 15 شباط/فبراير 1989).
وفيما بين 1992 ـ 1996: قاتلت الجماعات المسلحة الأفغانية بعضها بعضا، لنحو 4 سنوات؛ بعد تعطيل اتفاق تقاسم السلطة، ونتج عن الاقتتال تدمير مساحات واسعة من كابول، وراح ضحيتها نحو 50 ألف شخص، وموجة مضافة من اللاجئين والنازحين، وضمن تلك الظروف ظهرت حركة طالبان في جنوب قندهار (1994) واستولت على العاصمة كابول بعد اجتياح بدون قتال، وبعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر وجهت واشنطن إنذارا نهائيا للملا عمر زعيم طالبان وطالبته بتسليم ابن لادن، وإغلاق معسكرات تدريب المسلحين، أو عليه الاستعداد للمواجهة. ورفض الملا عمر الإنذار، وسحبت الرياض وأبوظبي اعترافهما بحكومة طالبان، وفي نفس الشهر (أيلول/سبتمبر 2001)، شكلت واشنطن تحالفا لغزو أفغانستان، وانتقلت طالبان من كابول إلى قندهار، وتقدم التحالف الأمريكي نحو العاصمة مع تحالف الشمال.
وفيما بين 2015 و2018، قويت شوكة طالبان، وبدأت في شن غارات شبه يومية ضد القوات الحكومية والأمريكية، وسيطرت على نحو نصف البلاد، وفي الفترة نفسها، ظهرت جماعة مسلحة تتبع تنظيم الدولة الإسلامية في ناحية الشرق، وفي أثناء وجود الرئيس الأمريكي السابق في البيت الأبيض، يتهيأ لتنفيذ وعده بإعادة القوات الأمريكية إلى أرض الوطن، وعين الدبلوماسي الأمريكي المخضرم زلماي خليل زادة (من أصل أفغاني) وأوكل إليه مهمة التفاوض مع طالبان (عام 2018)
وشهدت انتخابات 2019 الرئاسية الأفغانية انقساما شديدا؛ تسبب في تأخير إعلان فوز الرئيس أشرف عبد الغني، حتى شباط/فبراير 2020. وقوبل ذلك برفض المرشح المنافس عبد الله عبد الله، وكان قد أقام من جهته حفلا بتنصيب نفسه رئيسا، وتم التوصل لاتفاق قضى بتعيين عبد الغني رئيسا وعبد الله رئيسا للجنة مفاوضات السلام، وفي نهاية شباط/فبراير 2020 وقّعت الولايات المتحدة وحركة طالبان اتفاقا في الدوحة، وضع الجدول الزمني لانسحاب نحو 13 ألف جندي أمريكي من الموجودين في أفغانستان، وإلزِام مقاتلي طالبان بوقف هجماتهم على الأمريكيين.
وبعد شهور من التأخير، عادت المفاوضات بين طالبان والحكومة الأفغانية في الدوحة، لكنها تعثرت؛ ثم توقفت نهائيا دون إحراز تقدم؛ وأصر عبد الغني على رفض مقترح تشكيل حكومة وحدة وطنية، وردت طالبان برفض وقف إطلاق النار مع الحكومة، وفي آذار/مارس من العام الحالي (2021) ومع اقتراح واشنطن تقديم مسودة خطة سلام، دعت موسكو لاستضافة مؤتمر سلام ليوم واحد بين القوى الأفغانية المتناحرة. وباءت محاولات استئناف المحادثات بالفشل، عندها أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن القوات الأمريكية المتبقية في أفغانستان، ويتراوح عددها بين 2500 و3500 جندي- سيتم سحبها بحلول 11 أيلول/سبتمبر (الجاري) لإنهاء «الحرب الأمريكية الأبدية».
وتسارعت مكاسب حركة طالبان على الأرض، وسيطرت على مناطق عدة في الشمال في الفترة من مايو 2021 إلى الآن، وفي تموز/يوليو هذا العام (2021) سلمت الولايات المتحدة قاعدة باغرام الجوية، وهي عصب الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان طوال الحرب ـ للسيطرة العسكرية الأفغانية بعد مغادرة آخر القوات الموجودة في القاعدة. وأشار ذلك إلى أن تسليم القاعدة والانسحاب الكامل أضحى وشيكا، وتم الانسحاب كما كان مقررا، قبل التاريخ الذي سبق وحدده بايدن، وهو 11 أيلول/سبتمبر الحالي.
ونعود إلى الوراء قليلا؛ إلى بداية الغزو الأمريكي لأفغانستان إثر هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الدامية عام 2001؛ حيث هاجمت طائرتان البرجين التوأمين لمركز التجارة العالمي في نيويورك، وكانت صدمة ما زالت آثارها لم تمح بعد، وبدأ الجيش الأمريكي بقصف أفغانستان في عملية عسكرية أُطلِق عليها «الحرية الدائمة»؛ بداية استمرت عشرين عاما، تكلفت نحو تريليون دولار (أكثر من 990 مليار دولار) حسب موقع سبوتنيك الروسي، وكان الهدف هو القضاء على حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة» وطال أمد الحرب، وأضحت أطول حرب في التاريخ الأمريكي، كما ذكرت مجلة «فورتشن» الأمريكية، في تقرير خاص بالحرب.
وبعد نحو عقدين من اشتعال حرب متواصلة، قرر الرئيس بايدن سحب قواته، إلا أن ذلك القرار أعاد «طالبان» إلى الحكم مرة أخرى؛ بعد طول غياب وانتظار، وبعد تكلفة باهظة للغاية؛ بشريا واقتصاديا وماليا وعسكريا، والأهم هو التأثير النفسي اللامحدود على الأفغان والأمريكيين وغيرهم، ومن المتوقع أن تكون هذه آخر حروب الإمبراطورية الأمريكية المهزومة، والأقصر عمرا.
وقالت المجلة؛ إن التكلفة الحقيقية للحرب مدونة في أرقام، كاشفة للخسائر البشرية والمادية والزمنية مقارنة بالحروب الأمريكية الأخرى، ومن بينها الحرب العالمية الثانية.
استمرت الحرب الأمريكية الأفغانية نحو عشرين عاما، فأضحت الحرب الأطول في التاريخ الأمريكي، وفاقت حرب العراق، التي احتلت المرتبة الثانية واستمرت 18 عاما، واحتلت حرب فيتنام المرتبة الثالثة، واستغرقت 14 عاما، وحسب مجلة «فورتشن»، فإن فترة مشاركة الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية اقتصرت على 5 سنوات، واستمرت الحرب الكورية 4 سنوات، ولم تتجاوز المشاركة الأمريكية في الحرب العظمى (1914 – 1918) لم تتجاوز العام الواحد، ومدة المشاركة في حرب الخليج كانت أقل من عام.
ومن جهة الضحايا، فحصيلتها ألفان و442 جنديا أمريكيا، وحصيلة الإصابات 20 ألفا و719 عسكريا، ووصل عدد قتلى الحلفاء المشاركين في الحرب إلى 1444 قتيلا، وعدد قتلى المتعاقدين مع الجيش الأمريكي 3 آلاف و936 قتيلا، وقتلى عمال الإغاثة 549 قتيلا، إضافة إلى 6 من العاملين المدنيين التابعين لوزارة الدفاع، وعدد ضحايا الجيش والشرطة الأفغانية 75 ألف فرد، إضافة إلى أكثر من 71 ألفا من المدنيين الأفغان.
وتشير الإحصائيات إلى أن تكلفة الحرب وصلت إلى 992 مليار دولار أمريكي، وهي تكلفة أكبر من تكلفة حروب العراق وفيتنام والحرب العالمية الأولى مجتمعة، ونوهت المجلة إلى أن الحرب الوحيدة التي تجاوزت تكلفتها المادية تكلفة الحرب الأفغانية، هي الحرب العالمية الثانية، حيث وصلت تكلفتها على الولايات المتحدة الأمريكية إلى 5.1 تريليون دولار.
ومع كل هذه التكلفة الضخمة بأنواعها، انهارت الحكومة الأفغانية في 15 آب/أغسطس الماضي (2021) وأعادت حركة «طالبان» سيطرتها على الحكم، بعد نحو عقدين من قتال بدأته الولايات المتحدة الأمريكية للقضاء على «طالبان». ورغم عودة «طالبان» إلى الحكم ورغم التكلفة الباهظة، اعتبر الرئيس الأمريكي جو بايدن، أن قرار سحب القوات العسكرية من أفغانستان كان صائبا، وكانت حربا يجب أن تنتهي منذ وقت طويل!! ونختم بالإشارة هنا إلى تكلفة تسليح الجيش الأفغاني وتدريبه، وقدرها 83 مليار دولار، صُرِفَت على مدى عشرين عاما من القتال والاشتباك المتواصل!