كانت الساعة تقترب من الثالثة فجرا بالتوقيت المحلي لفلسطين، عندما حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلية، أحد البيوت جنوب الضفة الغربية، ليس فيه إلا أم وأطفالها الخمسة.
ما هي إلا لحظات، حتى بدأ الجنود يطرقون بقوة منزل الأسير سليم يوسف الرجوب (49 عاما) من بلدة "دورا" غربي مدينة الخليل، فاستيقظ كل من في البيت.
حاولت الأم هيام محمد الرجوب، تهدئة الأطفال وتبديد خوفهم، لأنها اعتادت على الاقتحامات وتفتيش البيت وتخريبه خلال اعتقالات سابقة لزوجها، ظنًا منها أن القضية تنتهي عند تفتيش المنزل ثم المغادرة.
ما لم يكن بالحسبان، أن الأم، كانت هي هدف الاعتقال هذه المرة، واشتدت الصدمة عندما اقتربت منها المجندة الإسرائيلية وأمرتها بتجهيز نفسها ووداع أطفالها سريعًا، إذ إن وقت القوة العسكرية محدود.
على عجل، جهزت الأم المكناة بـ"أم فراس" (40 عاما) نفسها، وبينما عيون أبنائها وطفليها حَكم (4 سنوات) وقسّام (8 سنوات) تتبعانها.
أخرجت المجندة القيود وكبّلت يديها، في مشهد أبكى والدها ووالدتها، اللذين حضرا على عجل من منزلهما القريب.
لحق "حَكم" بأمه إلى حيث جرى اقتيادها، وبدل أن تعود معه جرى تعصيب عينيها وإدخالها عنوة إلى السيارة العسكرية، ليعود الطفل باكيا.
اقرأ أيضا: الاحتلال يعيد اعتقال شابين بعد لحظات من الإفراج عنهما (فيديو)
"الجيش أخذوا بابا وماما للسجن، رأيت الجيش أخذوا أمي وأخذوا أبي أيضًا وراحوا"، هنا عرف حَكم، السجن والجيش، قبل أن يتقن الكلام أو حتى يتعلم القراءة والكتابة.
رغم وجعه، يفهم "حَكم" أن للسجن نهاية: "أريد أن يخرجوا من سجن إسرائيل، أريدها (أمه) أن تعود، وأبي أيضًا".
لا أب ولا أم لي
أما قسّام والذي يكبر حكم بأربع سنوات، فهو في الصف الثالث الأساسي، وحكايته مع معلمته في صباح يوم اعتقال أمه، كانت مؤلمة، وأشعلت شبكات التواصل الاجتماعي حزنا.
فصبيحة ذلك اليوم، وبعد ليلة مرعبة لم يستطع فيها "قسام" النوم، غلبه النعاس فنام على مقعده الدراسي، وهنا جاءته المعلمة تسأله لمَ لم ْتساعده أمه على النوم مبكرا، وعند الإجابة كانت الصدمة "أمي وأبي في السجن".
عن ذلك، يقول قسام للأناضول: "كنت نائمًا في الفصل، فجاءت المعلمة لتوقظني، وقالت لي: لم لا تدعك أمك تنام باكرا، فقلت لها أمي وأبي في السجن، ما عندي لا أب ولا أم".
كان قسّام أيضا شاهدا على تقييد والدته ونقلها إلى العربة العسكرية: "رأيتهم حين قيدوها بالأصفاد، أدخلوها إلى الجيب (العربة العسكرية)، وعصبوا عينيها".
في حضانة الجدة
وفي غياب الأبوين، انتقل عبء رعاية الأولاد إلى جدتهم (والدة أمهم)، سارة الرجوب، لكن الأمراض والأوجاع تحد من دورها وقدرتها على خدمتهم.
تقول الجدة الرجوب: "جاء الجيش الساعة الثالثة بالليل (..) وأخبروا ابنتي بأنهم قدموا لاعتقالها (...) زوجها في السجن و(هي) تربي أطفالها".
وتضيف أن آخر كلمات ابنتها المعتقلة "هيام" قبل اعتقالها، وهي محاطة بـ"جيش كبير من حوالي 50- 60 جنديا ومعاهم مجندات" كانت لوالدها، حيث طلبت منه أن يرعى أطفالها.
وتضيف أن صهرها سليم، اعتقل عدة مرات، وأمضى ما مجموعه تسعة سنوات ونصف في السجون، أغلبها اعتقال إداري دون تهمة أو محاكمة.
وتقول: "صهري سليم الرجوب، يعتقله جيش الاحتلال كل فترة، سنة سنتين ثم يفرجون عنه، أحيانا يسجن شهرا أو شهرين، ويظل بعيدا عن أولاده وأطفاله وزوجته، وأحيانا يعتقلونه إداريا (بدون تهمة)".
وتكمل: "مكث حوالي تسع سنوات ونصف في السجن"، وأما بخصوص اعتقاله الأخير فتقول: "معتقل منذ شهرين، والآن يعتقلون زوجته، حسبنا الله ونعم الوكيل".
حاولت الجدة، تهدئة أحفادها لحظة اعتقال ابنتها، بقولها إنها ذهبت لزيارة أبيهم وستعود، لكن الأطفال لا ينسون، فعاودوا السؤال بإلحاح في اليوم التالي، حتى أفهمتهم بأنها لا تدري متى ستعود.
وتشعر الرجوب، بثقل المسؤولية التي تتحملها مع تقدم عمرها، وتقول بهذا الصدد: "أناشد كل من قال أنا مسلم وينطق بالشهادة أن يساعد كل أم وكل أب في السجون، وأن يخرجوهم لأطفالهم لأن هذا ظلم".
مشاهد الاعتقال لم تغادر مخيلة "حَكم" و"قسام"، ففي كل ليلة ينتابهم القلق والخوف من عودة الجيش.
اقرأ أيضا: هذا ما قالته أنهار الديك بعد إفراج الاحتلال عنها (شاهد)
وتقول الجدة: "تركتُ بيتي وأنام عندهم، حاملة لمسؤوليتهم، عندما أطلب منهم أن يخلدوا إلى النوم، يقولون: لا نريد أن ننام، فقد يأتي الجيش الآن".
اعتقال البنت يقصم الظهر
أما الحاج محمد الرجوب (63 عاما)، جد الأطفال (والد أمهم)، فلم تهزه سنوات اعتقالات صهره، ولا أشقائه ولا أقاربه من عشيرته الكبيرة، التي يقول إنها زادت في مجموعها على الـ90 عاما.
لكنّ اعتقال ابنته كان موجعا، ويقول بهذا الخصوص: "إخوتي وأنسبائي (..) عاشوا تجربة طويلة من بداية الاحتلال، ويتجاوز مجموع سنوات اعتقالهم التسعين عاما"، لكنه يعتبر الأصعب في ذلك كان اعتقال ابنته.
ويكمل: "عندما يعتقل الرجال (..) نعم نحزن، لكن ذلك لا يساوي لحظة اعتقال البنت، هذا أصعب شيء، هذا الذي يقصم الظهر".
ويتابع الجد: "الأب في السجن، والأم تترك أطفالها، أصبحت الأسرة يتيمة من جهتين، وهذا وقعه على النفس ثقيل".
ورغم تجربة الفلسطينيات المريرة مع الاحتلال، يقول الجد: "السجون للرجال وليست للنساء، كان الصحيح وقع الاعتقال صعبا جدا".
ويوضح أن ابنته "هيام" نقلت عند اعتقالها إلى سجن عسقلان، وسط إسرائيل، ويوم الخميس الماضي جرى تمديد اعتقالها 11 يوما لاستكمال التحقيق.
ويختم الرجوب: "العالم كله والسياسيون يرون ما يحصل في بلادنا ويعلمون ذلك جيدا، أناشد من له ضمير ألا يقبل على بناتنا أن يبقين داخل السجن".
محاولة لسد الفراغ
من جهته، يحاول فراس، الابن الأكبر، للأسيرين "سليم" و"هيام"، ويعمل ممرضا، ما استطاع إليه سبيلا، سد بعض الفراغ الذي تركه غياب الوالدين، سيما في متابعة الدروس المدرسية لأشقائه.
لكنه يُفصح: "أفتقد أمي في كل لحظة، عندما أدخل البيت وأخرج، وعندما يذهب الأولاد إلى المدرسة ويطلبون المصروف، أقف عاجزا حين يسألونني: متى أمنا تعود؟".
ومن بين نحو 4,850 أسيرا، تعتقل إسرائيل في سجونها 41 فلسطينية، وفق معطيات لمؤسسات مختصة بشؤون الأسرى، حتى نهاية حزيران/ يونيو الماضي، إضافة إلى 225 طفلا، و540 معتقلا إداريا.
قوات الاحتلال تطلق سراح الأسيرة أنهار الديك (فيديو)
الاحتلال يهدم 42 منشأة في القدس خلال شهر واحد
الاحتلال يضاعف معاناة الأسرى المضربين بـ"النقل المتكرر"