على الرغم من أن الإسلاميين في السودان قد حكموا البلد نحو ثلاثة عقود كاملة، إلا أن تجربتهم كانت في أغلبها تعكس طبيعة المواجهة مع النظام الدولي، الذي تحفظ ولا يزال يتحفظ على إشراك الإسلام السياسي في الحكم.
أما الآن وقد انتهت تجربة الإسلاميين في السودان، فإن ذلك يسمح بإعادة قراءة التجربة وتأملها، وليس هنالك طريقة أكثر قربا من معرفة أسرار واتجاهات الحركة الإسلامية السودانية وأكثر صدقا من قراءة تجارب وأطروحات قياداتها.. وهذا ما فعله القيادي فيها الدكتور أمين حسن عمر، بسلسلة مقالات يسجل فيها سيرة قيادة الحركة الإسلامية في السودان، تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في سياق تعميق النقاش ليس فقط حول تجارب الإسلاميين في الحكم، وإنما أيضا في البحث عن علاقة الدين بالدولة.
رموز التنوير
كان مبارك قسم الله رمزا من رموز الدعوة والهداية في الحركة الإسلامية وهو المؤسس التنفيذي والمدير التنفيذي لمنظمة الدعوة الإسلامية وقد جاءها في العام 1981 من يوغندا، حيث عمل هناك معلما ثم مديرا تنفيذيا لإحدى شركات المستثمر السوداني محمد جار النبي. ومبارك هو الجسر الذي عبر السودان به ثقافيا وتعليميا إلى إفريقيا. وقد كنا نقول إن السودان جسر بين إفريقيا شمال الصحراء وإفريقيا جنوب الصحراء ولو تجسد ذلك في رجل لكان مبارك قسم الله.
فمبارك عرقا ينتمي في جزء منه لشمال السودان وفي جزء آخر منه للشلك في جنوب السودان. ولم يكن الأمر يتعلق بتكوينه العرقي فحسب بقدر ما تعلق بمشروع حياته التي اتصلت بأمر الدعوة في إفريقيا فمبارك الذي ولد في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي قد ارتبط بالدعوة منذ حداثة سنه فكان من أصغر أعضاء شعبة كوستي، حيث تلقى العلم وعمل مساعدا لوالده في مخبزة ثم عمل معلما بالمعاهد الدينية بعد تخرجه من جامعة الخرطوم.
وقد قاد مبارك أول إضراب لطلاب المعاهد الدينية، فقد كان إضراب طلاب المعاهد الدينية المشهور سبباً في الاعتراف بشهادة المعاهد الدينية وأمر تأسيس الكلية الإسلامية.. وكان من وراء هذا الإضراب الأستاذ مبارك قسم الله وإخوته من نقابة معلمي المعاهد، حيث استمر الإضراب لمدة عام كامل.. ولم تكن قضية شهادة المعاهد الدينية محل اهتمام من قادة الأحزاب آنذاك، لكن منهم قليل ممن ناصروا قضية الثقافة الإسلامية وساندوا قيام الكلية الإسلامية التي تطورت إلى جامعة أمدرمان الإسلامية.. ومن أولئك الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري، والذي كان رئيس أول مجلس للجامعة الإسلامية، وكان مبارك قسم الله صاحب القدح المعلي في الاعتراف بشهادة المعاهد الدينية والكلية الإسلامية والتي تطورت إلى الجامعة الإسلامية.
وممن ساندوا جهوده وجهود زملائه من المعلمين الأستاذ بدوي مصطفى صاحب الوقفة التاريخية التي لا تنسى في مناصرة قضية الثقافة العربية والإسلامية في السودان.
وبعد انقلاب مايو وخروج مبارك من السجن، حيث اعتقلت جل القيادات الإسلامية، وبعد فصله من العمل في التعليم في السودان ذهب إلى يوغندا طالبا لرزق تعسر طلبه في السودان، حيث عمل بالتعليم ثم بالتجارة.. وإلى جانب عمله التجاري نشط مبارك في الدعوة بين مسلمي يوغندا، ومن إنجازاته في تلك الفترة أنه نظم الطلبة المسلمين في جامعة (مكرري) ونجح في ابتعاث عدد منهم للدراسة خارج يوغندا على نفقة الشركة أو على منح من دول عربية.
كذلك ساهم مبارك في وضع دستور المجلس الإسلامي اليوغندي في عام 1981 لتوحيد المسلمين بعدما اختلفوا وانشقوا إلى مجلسين بعد زوال حكم (عيدي أمين)، ونجح في كتابة دستور يجمع شمل الأطراف المختلفة.
وبعد تأسيس منظمة الدعوة الإسلامية بواسطة الحركة الإسلامية صار مبارك أول مدير تنفيذي لها وشهد عهده فيها تأسيس مؤسسات تابعة عديدة منها وكالة الإغاثة الإفريقية التي تحولت في سنوات قلائل لأكبر وكالة إسلامية على مستوى العالم الإسلامي ومنها مجلس التعليم الخاص ومؤسسات وقفية ضخمة مثل شركة دانفديو وغيرها.
وبدأ مبارك عملياً عمله في المنظمة من لا شيء سوى الأفكار الواضحة والمشروعات المدروسة والتصور بأن المنظمة مشروع إسلامي عالمي لذا يجب أن يدعى ويتداعى لها الجميع، سائر البيوت الدينية والشخصيات المحبة للخير والحركات الإسلامية وكل من يهمه أمر صيانة الإسلام في إفريقيا.
بعد تأسيس منظمة الدعوة الإسلامية بواسطة الحركة الإسلامية صار مبارك أول مدير تنفيذي لها وشهد عهده فيها تأسيس مؤسسات تابعة عديدة منها وكالة الإغاثة الإفريقية التي تحولت في سنوات قلائل لأكبر وكالة إسلامية على مستوى العالم الإسلامي ومنها مجلس التعليم الخاص ومؤسسات وقفية ضخمة مثل شركة دانفديو وغيرها.
وقد أثمر نشاط مبارك في عرض فكرة المنظمة ومشروعاتها لأهل الخير ورجال الدعوة في العالم الإسلامي وعلى الأخص في الخليج، ونجح مبارك نجاحا باهرا في تسويق الفكرة وأصبح للمنظمة هياكلها الإدارية من مجالس الأمناء ومجلس إدارة ومدير تنفيذي ومكاتب للدعوة في السودان وإفريقيا ومكاتب ووكالات للتمويل ومدارس وشركات ودور عبادة مما يحتاج عرضه إلى وقت يطول، وقد أدرك مبارك أن إنشاء المشاريع المنظمة مهما يكن صعباً ولكن الأصعب هو تسييرها والمحافظة عليها وإعطاؤها قوة الدفع المستدامة التي تؤمن لها استقلالية حركية وإمكانية للتطور المستمر.
وقد امتدت همة مبارك من مجال الدعوة والتعليم إلى مجال البحث العلمي، فأسس معهد إعداد الدعاة والبحوث وأسس مشروع تنسيق العمل الإسلامي في إفريقيا، أما في مجال البحوث، فقد اهتم بقضايا النازحين وكان من أول إصدارات المعهد ذلك البحث القيم بعنوان قضايا النازحين في العاصمة المثلثة أو الهروب إلى الهامش. ولم يكن الأمر لدى مبارك أمر بحوث علمية فحسب بل أمر عمل وإنجاز، فكان يعالج المشاكل الاجتماعية لكثير من الأسر النازحة إلى العاصمة ومشاكل الأطفال المشردين في طرقات المدينة.. وكان يتفقد التجمعات العشوائية من أسر الأطفال ويعيش مآسيهم المتمثلة في الحصول على الماء والخبز ويشهد فقراء أحياء أمبدة وزقلونا على مواقفه وإنجازاته..
ورغم كل هذا الحصاد الكبير فقد عاش مبارك فقيرا محدود الدخل ومات فقيرا إلا من حسن الذكر، وما تجاوز الستين سنة من عمر مبارك مليء بالإيمان والعمل الصالح المبارك. توفي مبارك في 3 أيار (مايو) 1997.. رحم الله مبارك فقد كان نسيجا وحده وفريد حقبته من رجال الدعوة الذين تركوا أثرا لن يمحوه خصوم الدعوة وأهل الخصومة للإسلام ولو ظنوا أنهم يفعلون.
نكسة 8 أيلول لإسلاميي المغرب.. مداخل لأطروحة نظرية جديدة
أحمد عبد الرحمن محمد.. من رموز الانفتاح الإسلامي في السودان
معالم في الأساس التربوي عند "العدل والإحسان" المغربية (4من4)