الرئيس أفقدنا حس الفكاهة لذلك فإننا لا نفلح في الغناء مع عبد الحليم "اللي شبكنا يخلصنا".. نحن في خوماضة، والخوماضة لفظ
تونسي دارج يعني المشكل الذي لا نعرف مقدماته ولا نفلح في فهمه للوصول إلى حله. فكيف لمن عاش عشر سنوات يربي الأمل في الحرية والديمقراطية أن يشعر بسلامة وضع سياسي واجتماعي؛ اشتبكت عناصر كثيرة في تشبيكه دون أن يبين أي منها عن بوادر حل؟ فالسياسيون وجلون يترقبون والرئيس ماض في عنجهيته يقدم الدروس حتى للأمريكان، فيعلمهم دستورهم وجمهور غريب استولى على السوشيال ميديا وتخصص في الشتم القبيح فلم يوقر أحدا.
الرئيس عاجز عن التقدم
تجاوز الرئيس خمسين يوما في الوضع الاستثنائي ولم يكشف خارطته التي يسير عليها، وهو ما يضاعف الحيرة الجماعية فأنصاره (أو العقلاء منهم) توقفوا عن محاولة إقناعنا بسلامة نيته، ومعارضوه لا يفلحون في تأليف رد سياسي على عجزه فيعجزون مثله. لقد صار ظهوره محل تندر أسود من قبل شباب فيسبوك المعارض له، ولكن السخرية السوداء لا تقدم حلا للخروج، إنها عملية تهرية مستمرة وحت متواصل لشعبيته، ولكنها لا تصل إلى إسقاطه أو دفعه إلى التراجع.
لقد توقف تقريبا عن مطاردة الفاسدين الذين لم يسمّ منهم اسما واحدا، رغم أن وجوههم ومواقعهم وأفعالهم مكشوفة لدى القطب القضائي المتخصص في محاربة
الفساد، لقد اكتفى فقط بتجميد الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وسحب الملفات منها أو الحجر عليها في خزائنها (مصير الملفات ومصير المبلغين عن الفساد مجهول الآن).
لقد ساعده الإعلام الفاسد في إخفاء أخبار الوباء المتفشي، ولكن الجنائز ترى تباعا في كل مقبرة وموجة التلقيح الجماعي لم تبلغ مداها رغم التهويل الإعلامي لها. وقد كان المعوّل عليه أن يتحول نجاح إدارة الصحة العسكرية إلى ورقة قوة بين يديه، ولكن الوباء حتى الآن أقوى.
ضغوط دولية كثيرة تحيط بالبلد وتسلط على الرئيس وتطلب حكومة تنفيذية للحديث الاقتصادي، ولكن الرئيس لا يفصح عن أي خطوة في هذا الاتجاه. وحتى الآن لا تكشف قراراته الفردية عن بوادر حل اقتصادي، في حين يرتفع الحديث عن عجز قريب في دفع الرواتب لمليون موظف (أو قريبا من ذلك) يعيشون براتب عمومي.
يطرح أغلب التونسيين كل صباح سؤالا واحدا: ماذا يريد الرئيس؟ ولكنهم ينهون يومهم بلا إجابة، فتكبر الخوماضة في رؤوسهم وينامون فزعين من غد مجهول.
معارضو الرئيس أعجز منه عن الفعل
إنهم شتات سياسي محكوم بخلفيات استئصالية، ففي باطنهم يستحسنون صنع الرئيس بالبرلمان الذي يرونه مُلكا لحزب النهضة ويرون في تعطله مكسبا، في نفس الوقت يتكلمون عن عودة المؤسسات إلى سالف عملها لكنهم يكتشفون أن ذلك قد يكون مفيدا لحزب النهضة، فيبالغون في الحذلقة السياسية، مشبهين ما قبل الانقلاب بزمن ابن علي لكي يتملصوا من مشهد عودة البرلمان لسالف نشاطه. وربما ودوا أن تكون هناك عودة للمؤسسات لكن دون النهضة، ولكنهم يعجزون عن كشف هذا الموقف لأنه يطعن في صدق إيمانهم بالديمقراطية التي يدّعون.
لقد كان أوضحهم صوتا حتى الآن الرئيس الأسبق منصف مرزوقي الذي طالب باستقالة الغنوشي، حاصرا الأزمة في شخص واحد (وهو موقف أقرب إلى كيد ضرائر منه إلى موقف سياسي)، ولكنه نسي أو تناسى أن رئيس البرلمان يقدم استقالته لبرلمان في حالة انعقاد طبقا للنظام الداخلي للبرلمان، وهذا البرلمان مجمد. أما البقية فيرون أن كل عودة إلى الوضع القانوني لما قبل 25 تموز/ يوليو تنقذ النهضة وتسمح لها بالمشاركة في ما بعد
قيس سعيد ولو بالحد الأدنى؛ تجعل استثمارهم في الانقلاب خسارة سياسية مثل استثمارهم في الفاشي، وهم يخربون البرلمان ويشوهون المؤسسة برمتها.
حيرة وعجز وسوء نية تحكم موقف معارضي الانقلاب من النخبة السياسية، فتزداد حيرة الشارع الفاقد للبوصلة ويتحدث الجميع عن الخوماضة التي لا رأس لها ولا أطراف تحدد معالم منها إلى وضع قابل للفهم.
الشارع بدأ ينظم نفسه.. لكن
يوم السبت (18 أيلول/ سبتمبر) كان يوما من أيام تونس، أو هكذا نتخيله حتى الآن (ما لم نكتشف محركا سريا كامنا وراء الشباب الذين خرجوا للتظاهر ضد الانقلاب). لقد ابتدع الشارع شعارات قوية لم ترفع حتى ضد ابن علي، وأهمها "يا قيس يا غدار يا عميل الاستعمار". والحديث عن الغدر هو الترجمة الأبلغ للخيبة التي يعيشها من صوّت لقيس في الدورتين وخاب أمله.
هذا الشعور بالمرارة من أداء الرئيس ومن خططه ومن عجزه كان محركا قويا للتظاهر، وربما يواصل تأثيره في الأسابيع القادمة (وقد بدأ الحشد ليوم 25 أيلول/ سبتمبر). لكن ما أفق هذه التحركات؟ هل ترتقي إلى المطالبة باستقالة الرئيس ومحاكمته لاعتدائه على الدستور، أم تكتفي بالضغط عليه ليعود إلى جادة الدستور ويحفظ المؤسسات والدولة من الانهيار؟
حتى الآن لا يبدو أن لهذه التحركات قيادة واضحة وبرنامجا سياسيا، وقد ظهرت أقرب إلى موجة عاطفية حزينة ومرتبكة ولا تقدم خطة واضحة للمستقبل. إن تزامنها مع موجة غلاء مبرمجة بدقة من قبل احتكارات الغذاء ومواد البناء وغيرها (بعد الإيهام بتخفيضات شعبية) يخلق شكوكا حول براءتها، إذ تظهر كأنها تسير بالتوازي مع لعبة الفساد الذي يضغط بوسائله وأساليبه الخبيثة، من أجل منع كل خطوة جدية قد يخطوها الرئيس في مقاومة الفساد (ونراه قد عجز عن ذلك واكتشف عسر المهمة).
هناك خيبة من الانقلاب، وهناك توجس من المستقبل عبر عن نفسه يوم 18 أيلول/ سبتمبر، ولكنْ هناك غموض لا يغطيه وضوح الشعارات وجرأتها. ولقد سبق للشارع التونسي أن تحمس للتغيير وماج موجات عاطفية كبيرة، ولكنه استفاق على لعبة الفساد تسرق منه ثورته وأحلامه. ويمكن لمؤرخ موضوعي أن يكتب بكل أريحية أن سيرة السنوات العشر هي سيرة خيبة الشارع وفشله في تفكيك منظومة الفساد التي استعملت الشارع العاطفي وخرجت فائزة دوما. وكان آخر فوزها قيس سعيد نفسه؛ كشخص عاجز عن اختراق أي حجاب من أحجبة الفساد. لكن رغم ذلك فإن الأمل الأخير في العودة إلى سياق الانتقال الديمقراطي عبر المؤسسات المنتخبة هو دفع هذا الشارع لمزيد من التحرك ضد الانقلاب، وضد طبقة الفساد التي نجت في كل مرة من الشارع وميّعت حركته.
الخوماضة التونسية لا تزال محكمة الغلق دون التحليل، ولا تزال أمام الشارع العاطفي الكثير من مراحل الوعي لتكون تحركاته مفتوحة على أفق سياسي ديمقراطي. ونعتقد جازمين أن الأزمة الاقتصادية هي التي ستحسم مصير الرئيس ومصير معارضيه في ذات الوقت، فقد يكون الوصول إلى القاع هو السبيل الأنسب للخروج فوق السطح والتنفس من جديد، والأزمة تستفحل والرئيس يفكر في إلغاء الدستور.. هذا إذا كان يجوز لنا القول إنه يفكر.