يواجه العاملون في الشأن الديني اليوم تحديات كبيرة في ظل الأزمات التي تواجهها المؤسسات الدينية المختلفة، وفي ظل ما تتعرض له الحركات الإسلامية التي تصدت للشأن السياسي في العقود الأخيرة من أزمات وفشل، وفي ظل عودة بعض هذه الحركات إلى مسرح الحدث العالمي كما حصل من قبل حركة طالبان في أفغانستان، وفي ظل انتشار الكثير من القضايا الإنسانية والاجتماعية الجديدة التي تفرض على العاملين في الشأن الديني والمتصدين للفكر الديني رؤية جديدة لمقاربة هذه التطورات.
وهذه الإشكالات لا تقتصر على الجانب العربي والإسلامي، بل يبدو أنها تطال كل أتباع
الأديان في العالم، وكذلك المؤسسات الدينية والكنائس المتنوعة على مختلف انتماءاتها.
وعلى ضوء كل هذه التحديات بدأت تبرز مؤخرا في الأوساط الدينية
المسيحية مصطلحات جديدة حول الاهتمام في الشأن العام، وحول دور الكنائس على الصعيد العالمي، ومن هذه المصطلحات: "لاهوت الشأن العام"، وهو مصطلح جديد بدأت تطرحه بعض الكنائس الأوروبية من أجل دراسة موقع ودور القادة الدينيين وأهل الإيمان؛ في تحقيق السلام المجتمعي والعدالة والخير لجميع الناس خارج جدران الكنيسة.
هذا الموضوع الهام كان مؤخرا محور مؤتمر خاص عقد في بلدة برمانا في جبل لبنان، بدعوة من "منتدى التنمية والثقافة والحوار"، والذي يرأسه القس الدكتور رياض جرجور، بالتعاون مع "مؤسسة دانيميشن" الدانماركية، وهي تعنى بالحوار والعمل من أجل حقوق الإنسان والسلام والتنوع، وقد شارك في المؤتمر شخصيات دينية وفكرية وإعلامية وفعاليات مجتمعية من لبنان وسوريا والأردن والدانمارك وألمانيا.
وكان محور المؤتمر الأساسي تعريف "لاهوت الشأن العام" من وجهة نظر دينية وفكرية، وبحث مدى التلاقي بين هذا المفهوم الجديد وبين مفهوم "مقاصد الشريعة" الذي يشكل مرجعية الفكر الديني الإسلامي في الاهتمام في الشأن العام. وكذلك مدى إمكانية تلاقي العاملين في الشأن الديني الإسلامي والمسيحي على رؤية موحدة في الاهتمام في الشأن العام؛ في ظل وجود تباين كبير بين الرؤية المسيحية حول دور الكنيسة والدين على صعيد الدولة والعمل السياسي، والتي وصلت إلى خيار العلمانية والفصل الكامل بين المجالين، والرؤية الإسلامية التي تؤكد على التطابق التام بين الدين والدولة وترفض أي فصل بينهما.
وهذا ما أدى إلى انخراط كبير من المنتمين للحركات الإسلامية في الشأن العام، وهذا ما أثار الكثير من الإشكالات والتحديات، وهي لا تزال مستمرة إلى اليوم مع كل حدث سياسي أو أمني أو عسكري يطال الحركة الإسلامية ودورها في الشأن العام.
وقد يكون مهما الإشارة إلى أن اهتمام الكنائس في الشأن العام ليس جديدا، وقد شهدنا في أمريكا اللاتينية في مرحلة السبعينات ظاهرة ما سمي "لاهوت التحرير"، والتي دعت إلى مشاركة رجال الكنائس في الثورات الشعبية ومواجهة الظلم والاستعمار والإمبريالية ودعم قوى المقاومة. كما أن مشاركة رجال دين مسيحيين في الثورات والحركات الاجتماعية ليست حدثا جديدا، سواء في العالم العربي والإسلامي أو على الصعيد العالمي.
وأحيانا استخدمت الكنيسة الكاثوليكية العالمية في الصراعات الدولية، كما جرى في مواجهة الشيوعية قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى دور الكنائس الإنجيلية المتشددة في أمريكا، والتي تتبنى منطق ما يسمى "الصهيونية المسيحية"، وتدعم الكيان الصهيوني وتعمل للتمهيد لظهور المسيح المخلص وقيام معركة هرمجدون في فلسطين.
طبعا هناك رجال دين مسيحيون في العالم العربي وفي العالم تبنوا العمل الاجتماعي ودعم الثورات الشعبية والمقاومة، وكانت لهم أدوار مهمة، ومنهم المطران هيلاريون كبوجي في فلسطين، والمطران غريغوار حداد في لبنان، وغيرهم الكثير الكثير.
وبابا الفاتيكان الحالي، فرانسيس، يحمل رؤية جديدة حول دور الكنيسة في المجتمع وفي مواجهة التحديات العالمية، وقد تكرست رؤيته من خلال توقيعه على "وثيقة الأخوة الإنسانية" بالتعاون مع إمام الأزهر الشيخ الدكتور أحمد الطيب، وهي تعتبر من أهم الوثائق الدينية في مقاربة القضايا الإنسانية والعالمية اليوم.
في مؤتمر برمانا حول "لاهوت الشأن العام"، قُدمت العديد من المداخلات من العلماء والناشطين سواء على الصعيد الإسلامي أو المسيحي، كما قدّم المشاركون من الدانمارك تجارب عملية حول ما تقوم به الكنيسة الدانماركية في التصدي لقضايا المجتمع الجديدة، وخصوصا مواجهة العنصرية والاهتمام باللاجئين وقضايا الفقر والبيئة. كما عرض المشاركون من ألمانيا ملف الهجرة واللاجئين وكيفية تطور النظرة إليه في السنوات الأخيرة.
ومن الموضوعات التي جرى النقاش حولها في المؤتمر: مفهوم لاهوت الشأن العام وتجلياته الجديدة، النظرة الإسلامية للاهوت الشأن العام، القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية وموقع الهموم العامة والمجتمع في الخطاب الإسلامي، الأسباب الجذرية للصراع العنيف والوضع الهش، أي دور للدين في الحفاظ على سلم أهلي دائم في عالم مضطرب وهش، مسؤوليتنا الدينية في بناء السم الأهلي، عن المسيح والسلام الداخلي والعام، الكتاب المقدس وشؤون الناس وهمومها، دور العقيدة في إصلاح الإنسان والمجتمع، ولادة الضياء الديني في العتمات التي نواجهها في العالم اليوم، ملفات الهجرة واللاجئين في العالم وكيفية التعاطي معها، عرض لتجارب واقعية من هموم المهاجرين واللاجئين، بين بابل والعنصرة في عالم اليوم، بين الدمار وإعادة البناء، أي دور للشبيبة في حل النزاعات، كيفية تعزيز انخراط الشباب في الشأن العام.
هذه بعض القضايا والملفات والهموم التي أثيرت في هذا المؤتمر المهم، والذي يشكل ورشة تفكير جديدة حول دور الدين اليوم في الشأن العام. والملفت أنه في البيئات المسيحية نلحظ زيادة الاهتمام في دور الكنيسة في الشأن العام وقضايا المجتمع، وكأن ذلك رد على منطق العلمانية الداعي لفصل الدين عن الدولة أو لإبعاد دور الدين عن المجتمع والسياسة. وفي المقابل، فإنه على الصعيد الإسلامي هناك انخراط كبير في الشأن العام، وتزداد الدعوات لمراجعة دور الحركات الإسلامية أو الناشطين الدينيين وعلماء الدين في الشأن العام.
كل هذه النقاشات تتطلب مقاربات جديدة حول دور الدين في الشأن العام، بما يؤدي للاستفادة من هذه الطاقة الإيمانية والروحية والقيمية لخدمة المجتمع ومواجهة التحديات المختلفة، وفي الوقت نفسه نحتاج لإعادة تحديد طبيعة العلاقة بين دور المؤسسات الدينية والمجال العام. وقد سبق لمركز دراسات الوحدة العربية والمعهد السويدي في الإسكندرية؛ أن أقاما مؤتمرا مشتركا في تونس قبل عدة سنوات حول علاقات المؤسسات الدينية والمجال العام والتجارب الإصلاحية المختلفة في العالم العربي والإسلامي، وقد صدرت أعمال المؤتمر في كتاب خاص عن المركز، وهو يشكل مرجعية هامة في هذا النقاش المهم اليوم.
وفي الخلاصة، فإن ما بين "لاهوت الشأن العام" و"مقاصد الشريعة الإسلامية" مساحات مشتركة ومهمة، ونحتاج اليوم لإعادة اكتشافها لمواجهة التحديات المختلفة التي يواجهها الإنسان المعاصر في عالم اليوم، بعيدا عن المواقف المسبقة أو الخطابات المتشنجة.
twitter.com/KassirKassem