الكتاب: "القصة القرآنية في المقدمة السابعة من التحرير والتنوير"
الكاتب: عبد الوهاب الخليفي
الناشر: مجمع الأطرش لنشر الكتاب المختص وتوزيعه 2019
عدد الصفحات: 184 صفحة
يصدر هذا المؤلف عن موضوع مركب من عنصرين متباعدين. فيدرس القصة القرآنية التي تمثل ثلث القرآن تقريبا وتعدّ عنصر خلاف بين القراء والمفسرين ومفكري الحضارة الإسلامية أولا. ويبحث في خطاب المقدمات باعتباره عتبة للنص مقصودة بغيرها أساسا، ولكن كثيرا ما تتحوّل إلى غاية يقف عندها القارئ فيدرسها في ذاتها وقد لا يتجاوزها إلى المتن، ثانيا. ويجد الرابط بين الموضوعين في المقدمة السابعة من أثر "التحرير والتنوير من التفسير" للشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879- 1973م) التي تدرس "قصص القرآن".
1 ـ مقدمات "التحرير والتنوير من التفسير" والحاجة إلى إعادة قراءتها
يلاحظ الباحث أنّ مقدمات أثر "التحرير والتنوير من التفسير" لم تلق ما تستحق من العناية شرحا وقراءة، رغم كونها من العتبات المهمة الضابطة لمسارب الفهم والتأويل ورغم قيمة الأثر الذي كلّف صاحبه أربعين سنة من العمل الدؤوب، فجاء عملا ضخما نافعا مستندا إلى مدونة التفسير كـ "جامع البيان" للطبري ت 310هـ والكشاف للزمخشري ت 538 هـ والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية ت 546 هـ ومفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي مشتملا على ثلاثين جزءا مستغرقا لخمسة عشر مجلدا.
وحتى يقع القارئ على مراميه استهله صاحبه بعشرة مقدمات منهجية مختلفة في علوم القرآن. وعليه يقرّر أن ينطلق من المقدمة السابعة وأن يتّخذها أنموذجا لخطاب المقدمات في "التحرير والتنوير". فيدرسها في ضوء مقارنتها بعشرات المقدمات التفسيرية مستقرئا مقومات النص باحثا في أنساقه النّاظمة.
لقد كان منجز الشيخ محمد الطّاهر بن عاشور من الشمول ما جعل الباحث يقدّر: "أنّ تفسير التحرير والتنوير يعدّ من أبرز تفاسير العصر، وعدّ الشيخ الإمام ابن عاشور بحقّ إمام المفسّرين المحدثين، وسيظل طودا شامخا من أطواد الفكر الإسلامي في العصور الأخيرة".
ويعدّ العلاّمة التونسي أحد أبرز أعلام الفكر الإسلامي الحديث. فقد عُهدت إليه مشيخة الإسلام سنة 1932 وتقلد مهام القضاء والإفتاء وكتب مصنفات عديدة في العلوم الإسلامية أساسا، فكان ينحو فيها منحى الإصلاح والتجديد وحرّر نحو عشرة مؤلفات في اللغة العربية وآدابها، أشهرها تحقيقه لديوان النابغة الذبياني وشرحه له وتعليقه عليه.
2 ـ القصص القرآني من خلال المقدمة السابعة
يحاول الباحث أن يعرّف فنّ القصص عامة والقصص القرآني خاصّة، فيذهب في اتجاهات شتى كأن يعود إلى القواميس أو يتجه صوب علوم السرد الحديثة. وينتهي إلى أنّ العبارة [قصص الشيءَ] تفيد تتبع أثره شيئا بعد شيء. ومن ثمة مأتى تتبع سير الأولين واقتفاء أثرهم سبرا للتجربة الإنسانية فيها. ويجد مأتى حسنه نابعا "من جهة حسن نظمه، وإعجاز أسلوبه وبما يتضمنه من العبر والحكم".
ولكن تعدد المصادر التي اعتمدها يبقى عبد الوهاب الخليفي منشدّا إلى محتوى المقدمة السابعة لا يكاد يتجاوزها. فالقصّة القرآنية عند الشيخ محمد الطّاهر بن عاشور لا تسرد إلا الحقيقي المتعلق بأخبار الأولين. فلا إيهام فيها ولا تخييل. فـ"ـمعنى نقصّ، نخبر الأخبار السالفة... فهو منقول من قصّ الأثر إذا تتبع موقع الأقدام ليعرف منتهى سير أصحابها.. قال تعالى "فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا"(الكهف: 18/64). وذلك أنّ حكاية أخبار الماضين تشبه اتباع خطاهم" ويتسم هذا القصص بالطول والتناسق بين أحداث.
كان منجز الشيخ محمد الطّاهر بن عاشور من الشمول ما جعل الباحث يقدّر: "أنّ تفسير التحرير والتنوير يعدّ من أبرز تفاسير العصر، وعدّ الشيخ الإمام ابن عاشور بحقّ إمام المفسّرين المحدثين، وسيظل طودا شامخا من أطواد الفكر الإسلامي في العصور الأخيرة".
وتبِين المقدّمة أن محمد الطّاهر بن عاشور يستثني الوقائع التي جدّت زمن نزول القرآن. والحق أنّ الشيخ نفسه لم يتجاوز تعريفات مفسري القرآن الأوائل. فقد ورد في أثر الطبري في تفسير الآية 11 من سورة القصص " وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " قوله " يقول تعالى ذكره: وَقَالَتْ) أم موسى لأخت موسى حين ألقته في اليم (قُصّيهِ) يقول: قصي أثر موسى، اتبعي أثره، تقول: قصصت آثار القوم: إذا اتبعت آثارهم." في تفسير الآية 64 من سورة الكهف " قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا". ويورد الطبري قوله "وقوله: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) يقول: فرجعا في الطريق الذي كانا قطعاه ناكصين على أدبارهما يمصان آثارهما التي كانا سلكاهما".
3 ـ مقاربات نظرية حديثة لفهم "قصص القرآن"
أ ـ مفهوم العتبات لجيرار جونات
يعود الباحث إلى مقولة العتبات في أثر عالم السرديات الفرنسي جيرار جونات بالعنوان نفسه. وهي تلك النصوص المصاحبة للمتن أو "التي تحيط به من جميع الجوانب" وفق تعبير الباحث. ويريد المقدمات والعناوين والفهارس والخواتيم وغيرها مما عدّه جونات مداخل مهمّة تساعد في فهم النص الأصلي. ويجد أن المقدمات في المؤلفات التراثية عامة لم تكن خطابا هامشيا أو فضلة من التأليف وإنما هي خطاب مواز وظيفي. فيدرس أربعين مقدمة من مقدمات كتب تفاسير القرآن وفق مبحث مقارن على مستوى التبويب والحجم وأهم المضامين وحظها من الحديث عن القصّة القرآنية وينتهي به جهده الضخم إلى أنّ هذه المقدمات تبرز، على اختلاف مناهج أصحابها، أنّ مبحث العتبات وجد حظوة في التراث العربي الإسلامي وأنّ المفسرين يتفقون في أصول التفسير وقواعده وشروطه. فقد كانت تعمل على حمل القارئ على متابعة القراءة وتعرّفه بالتفسير ومناهجه.
أمّا أثر "التحرير والتنوير من التفسير" للشيخ محمد الطاهر بن عاشور فقد أولى خطاب المقدّمات أهمية خاصّة. فقد اهتم بالأدوات التي يحتاجها المفسّر وعرض مسائل تفرّد بها عن غيره. واشتمل على عشرة منها، تنوعت بتنوّع علوم القرآن وامتدت على مائة وعشرين صفحة. فحازت قيمة علمية ومثّلت "ثمار مدرسة إفريقية تونسية في التفسير، كان الشيخ المتضلّع من أبرز ممثليها على مدار عديد القرون". وعليه يدرس المقدمة السابعة المعنونة بـ"ـقصص القرآن" في فصل مستقل، لمّا وجدها عتبة هامة من عتبات المدونة التفسيرية.
ب ـ خصائص الخطاب الحجاجي في المقدمة السابعة
صنف مفسرو القرآن ما في القصص القرآني من أخبار باعتباره نوعا من أنواع العلوم أو باعتباره موضوعا من موضوعاته ولكنهم اختلفوا في غاياته. ويجده الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بمنزلة الأداة. فـ"القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار". والمقدمة السابعة من أثر "التحرير والتنوير" ترد هذه في شكل خطاب حجاجي يهدف إلى التأثير في المتقبّل وإذعانه لتعديل رأيه في هذا الاتجاه باعتماد الحجج المختلفة.
ومدار أطروحة بن عاشور أنّ حسن القصص وسوقها يكون لأجل الإمتاع والمؤانسة وتجديد النشاط كسائر القصّ أولا ولأجل الاعتبار والاتّعاظ وحصول التنويه أو التشويه بأصحابها ثانيا. وللإقناع بوجاهة أطروحته يعوّل على سيرورة حجاجية تعتمد قوة الحجة المنطقية في شكل أسلوب تحليلي قائم على الاستدلال الرياضي. فينطلق من الأسباب ويفضي إلى نتائج ملزمة توفر أسباب القوة لخطابه فتكسب رأيه المصداقية الضرورية وتثبت أنّ فوائد القصص القرآني أعظم من مجرد التسلية. فقد قام القرآن على أسلوب خاصّ هو "التذكير" و"الذكر" و"اعتماد القصص في سياقات بعينها بحسب المقامات وبحسب ما يرتجى منها من الأهداف.
ومن حجاجه ما كان يعمل على التأثير في المتقبل لإذعانه وحمله على الإعراض عن مقولات الخصوم كأن ينسب نفسه إلى أهل العلم، باعتبارهم سلطة اعتبارية وأصحاب قول نافذ، للرفع من شأنه وكأن يكنّي على الخصوم والمناكفين بـ"القانعين بظواهر الأشياء"، حطّا من قيمة معارفهم.
وينتهي هذا المسار الحجاجي إلى إبراز فوائد القصص القرآني عامة، ومنها تعريف المسلمين بتاريخ التشريع القديم، في سياق المقارنة بين الشرائع وبأخبار الأنبياء وأيامهم وأخبار من جاورهم من الأمم ومنها توسيع معرفتهم بأحوال الأمم الماضية ليكون ذلك باعثا على إصلاح أحوالهم وتوجيها لهم للاقتداء بالسنن التي أودعها الله في الكون وتحفيزا لهم لتقويم سلوكهم وتوجيهه نحو التوكل على الله لاكتساب أسباب القوة لتسيّد العالم. ويخلص الباحث إلى الأهمية المنهجية لمقدمة بن عاشور. فـ"قد كانت قدرته الحجاجية لافتة من حيث المنهج الذي سلكه في صياغة حجج داعمة وفي طريقة عرضها بما يضمن إقناعا للمخاطب المتوجّه إليه بالحجاج، وهو المتشبع بدقائق المنطق الصوري وصاحب الثقافة الموسوعيّة".
4 ـ سياق البحث في القصص القرآني وامتداداته اليوم
لم يتفرّد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بهذا المبحث. فقد درس من قبله وطُرق، بعده خاصّة، من ثلاث زوايا على الأقل. فدرس من جهة بعده الروحي ودرس من جهة بعده الجمالي والبلاغي. وكثيرا ما عمل الباحثون على الجمع بين المبحثين. فنذكر على سبيل المثال "سيكولوجية القصة في القرآن" للتهامي نقرة وهو في الأصل أطروحة دكتوراه تبحث في توظيف القص القرآني للمقومات الفنية وللمستوى النفسي لغايات تأثيرية أو "القرآن والقصص" لمحمد بشير النيفر.
ودرست مريم عبد القادر عبد الله السباعي في رسالة دكتوراه "القصة في القرآن الكريم" فبحثت في جماليات القص القرآني والمقاصد التي جرى إليها من منطلقات أسلوبيّة قديمة. وتناولت الباحثة والأديبة المغربية سعاد الناصر المسألة نفسها. فدرست "المادة القصصية ومقاصد تلقيها" في أثر بعنوان "بلاغة القص في القرآن الكريم وآفاق التلقي". ولكنّها توسّعت في تحليل المادة القصصية في القرآن الكريم بلاغتها وجمالية تلقيها وفرّعت مقاصدها موظّفة مقومات بلاغية حديثة مستمدة من جمالية الانسجام والتناسب.
وللمبحث زاوية ثالثة أعلق بالتاريخ وأكثر إثارة للجدل. فقد عدّ عبد الكريم الخطيب هذا القصص "وثيقة تاريخية من أوثق ما بين يدي التاريخ من وثائق، فيما جاء فيه من أشخاص وأحداث وما يتصل بالأشخاص والأحداث من أمكنة وأزمنة".
وقريبا منه ولكن بتحفّظ أكبر ومن زاوية أنثروبولوجيّة رسخت لدى هشام جعيّط في "السيرة النبوية 1: الوحي والقرآن والنبوة" قناعة مخالفة للتقليد الراسخ الذي لا يطمئن لغير الوثيقة المادية ومدارها على قابلية استثمار النصوص المقدسة في تحصيل الحقيقة التاريخية.
فلا شك أنّ القرآن سيتضمن مفردات من سيرة النبي الذي بعث بشيرا ونذيرا وهو الذي يشمل الأساسي والجوهري بالنسبة للمؤمن و"أنّ التقليد كموروث مروي متناقل يدخل في بناء قصة المؤسس وأسطورته في كل الأديان. ولولاه لم نكن لنعرف شيئا عن موسى وزردشت والبوذا وكونفوشيوس الحكيم. فهو يحافظ على نواة من الحقيقة التاريخية، ولا يستطيع في بعض الأحيان أن يتجاوزها كما الأمر بالنسبة للمسيح فتقع الرواية في التناقضات." ولا يمكن للنص القرآني أن يخالف مجريات الأمور في الواقع.: فـ"النبي محمد قد قامت دعوته ضمن أناس سلطت عليهم أضواء التاريخ بسرعة..". وأي مساس بالحقائق الكبرى المعلومة وقتها سيلقى صدا من قبل محيطه.
لقد جاء مبحث الشيخ محمد الطاهر بن عاشور جامعا لهذه الزوايا المختلفة بغير تفصيل. ولكنّ المبحث بات اليوم على قدر كبير من التعقيد يطرقه المختصون من زوايا مختلفة فيختلفون فيه أيّما اختلاف. وربما كان يجدر بالباحث أن ينزّل المقدمة السابعة ضمن مسار كامل من دراسة القصص القرآني حتى يدرك القارئ وضعية المسألة واتجاهاتها بدقّة، ما كانت عليه قبل مقدمة "التحرير والتنوير" وما آلت إليه بعدها.
مسلمو روسيا من الفتوحات المبكرة إلى مشاريع الاستقلال
اللاجئون الفلسطينيون بالمشرق العربي.. الهوية والفضاء والمكان
قراءة في علاقة الأيديولوجيا بالحداثة عند رواد الفكر السلفي