بقيت هذه الحالة على نفس طزاجتها وسحرها منذ عرفتها في مراهقتي، الباكرة، حال كوني أستقل قطارا، وأجلس في المقعد الملاصق للشباك الزجاجي، ويلتبس علي الأمر، محتارا، أتتحرك التلال البعيدة، وأعمدة الإنارة، وأعواد الذرة، والأدخنة السوداء، أدخنة أفران الخبز الريفي المتصاعدة من البيوت الطينة، الرمادية، أم إن ما أراه يتحرك، ثابت في مكانه، والأكثر، طزاجة وسحرا، لا يزال، حال كوني في ذات الحال وقطاري يتوقف في محطة، ويتصادف أن يكون قطار، آخر، متوقفا، أو يتصادف أن يأتي قطار آخر، ثم يتحرك قطار منهما، ليلتبس علي الأمر، محتارا، أيهما تحرك، وأيهما لا زال متوقفا.
عرفت، مع تقدمي في المراهقة، ودخولي في الشباب، الباكر، أن هذه "الظاهرة" الخادعة، كانت أبسط شرح لنظريات علمية بالغة التعقيد، وأن عباقرة أعادوا، مرة تلو أخرى، تقديمها كمثال في الحياة الحديثة، على صحة نظرياتهم العلمية.
قبل ذلك، كنت قد عرفت من خبرتي، الأولى، وأظن أن الأطفال يعرفون، الآن، أن ما يرونه متحركا، هو في واقع الحال، ثابت، لكني بقيت أستمتع بالحيرة والالتباس.
قبل نحو عام، قرأت حوارا بين مفيد فوزي ويحي الرخاوي، وحفظت نسخة عنه في أرشيفي "المحوسب"، في الملف المعنون "معاودة القراءة"، وكنت قد ظللت، بالأحمر، عدة جمل، كان من بينها هذا السؤال، وهذه الإجابة:
قلت (مفيد): ما معنى الجمود؟
قال (يحيى): الثبات على المبدأ «جدًا جدًا».
وكنت قد أرفقت بنسخة الحوار، تعريفات لغوية، وسياقية، لكلمة "مبدأ". من بينها، أن المَبْدَأ، هو: مبدأ الشيءِ: أوّله ومادّته التي يتكوَّن منها، كالنَّواة مبدأ النَّخل؛ أو يتركَّب منها، كالحروف مَبْدأ الكلام، والجمع: مَبَادِئ.
وأن المَبْدَأ، هو: افتراض؛ مُسَلَّمة، ما يسلّم به لوضوحه.
وأن المَبْدَأ، هو: مُعْتَقَد؛ قاعدة أخلاقيّة أو عقيدة.
عملت طوال حياتي بشكل غير منتظم، كأن عدم الانتظام هو نظام حياتي. الواقعة التي سأسردها، تاليا، جرت في مكتب إحدى الصحف العربية، في القاهرة، حيث كنت أعمل، والزمن يقع بين عامي (1993- 1995)، وكان يرأسني صحفي، يكبرني ببضع سنوات، طيب المعشر، عفيف اللسان، متمكن من الحرفة، ويعلونا، معا، مدير المكتب، الذي يترك لنا إدارة اليومي من الأعمال، دون تدخل يذكر، وكان يتعامل مع المكتب صحفي، يعمل، بالأساس، في هيئة حكومية، كبرى، يصب فيها كل أخبار البلد، وكان مكلفا بمتابعة "الشأن القضائي"، وكان محترفا بحق، دقيقا، لم أرصد عليه خطأ، مهنيا، يمتلك ناصية اللغة، بمختلف مهاراتها، لكنه كان بحسب، طيب المعشر، يخرج قليلا عن "ملفه" القضائي، فيأتي بموضوعات: فنية، ثقافية، أخبار حوادث، أخبار في الرياضة، ثم تدريجيا أصبح القليل، كثيرا، ولاحظنا ذلك، وتحدثنا فيه، وذات يوم جاء "صاحبنا" للمكتب، فألقى التحية، سريعا، وقوفا، ثم فتح حقيبته، وأخرج منها الكثير من الأوراق، ووضعها أمامي، وقال: "سأصعد لتحية البيه المدير، ثم سأعرج على الباشا المحاسب"، كان أغلب الأوراق "خروجا" عن "الملف"، فعرضتها على رئيسي المباشر، قلبها، وقال: اتركها لي، سأحسم الأمر اليوم.
غاب صاحبي لنحو ربع الساعة، وهبط، متوجها مباشرة نحو باب الخروج، وعندها استوقفه رئيسي المباشر، صائحا: يا أستاذ...لحظة من فضلك، فجاء صاحبنا، رفض الجلوس، كما رفض عرض "تشرب حاجة"، متعللا بـ "الاستعجال" لأمر هام، وأنه "شرب" عند "الباشا"، وعند "البيه"، لوح رئيس المباشر بحزمة الأوراق، وقال بنبرة عتاب: يا أستاذ... ما كل هذا، يا أستاذ... يحيا الثبات على المبدأ، ملفك هو "الملف القضائي"، فلم يرسل لنا ما يكفي عمل مكتب بكامله، يا أستاذ.. يحيا الثبات على المبدأ. فقال صاحبنا: هذان مبدآن، ثم يحيا الثبات على المبدأ هذه عفا عليها الزمن، ما ينقصنا أن تقول "يحيا الوفد ولو فيها رفد"، يا "ريس" الآن هناك شيء واحد فقط يستحق أن يكون شعارا نلتزم جميعا به: "يحيا الثبات على المبلغ"، ولك على أمر واحد، إذا وجدت ما تمسكه علي، مهنيا، فأنا حاضر للنقاش، ثمّ إني متفق مع مدير المكتب على أن أرسل ما أراه ولكم أن تنشروه، أو ترفضوه، سلام.
كانت قاعدة التعامل المالي تقوم على قاعدة: المكافأة بحسب النشر، فيتم في نهاية الشهر حصر عدد الموضوعات التي نشرت للصحفي، ومقابل قيمة محددة للموضوع الواحد يجري مجازاته، وكان صاحبنا قد أصبح الأعلى بفارق هائل، كان ماكينة مفرطة الدفق، يوميا، وموضوعاته مما لا يمكن استبعادها.
خرج صاحبنا وتركنا في حال من الذهول، وكنت أفكر: أتتحرك أعمدة الإنارة؟
لا أحكي هذه الواقعة من باب الطرائف، فهذا الباب عامر بما فيه الكفاية، أذكرها لأنها كانت "علامة" بالمعنى المعرفي، والحدسي، معا.
أما في باب الطرائف العامر، فأتذكر، الآن، وكما يقول المثل، تذكرت فجأة هذه الحكاية، وأذكرها، كطرفة، لا دلالة لها خارج هذا النطاق. ففي نفس مرحلة ظهور "يحيا الثبات على المبلغ"، كان يتعامل مع "مكتب" صحفي غزير آخر، دائم "الخروج" على الملف المكلف به، وكان دائم الحضور في مؤتمرات وندوات مختلفة التخصص: اقتصاد، رياضة، فن، وفي ذات يوم، لا أتذكر أكان ذلك قبل "يحيا" الجديدة، أم بعدها، سألته: لماذا هذا الحرص على متابعة المؤتمرات والندوات وما شابههما من فعاليات؟، فأجاب: أنا بحب اللمة، وعندها ضحك أحد الزملاء الذي تصادف وجوده لحظتها، خرج الزميل "المحب للمة"، وسألت "الضاحك"، فأجاب: صاحبنا يموت في الهُبُور، فاستوضحته: فأوضح: الهُبُور يا أستاذ، جمع لكلمة (هَبر) أي قِطْعَةً مِنَ اللَّحْمِ لاَ عَظْمَ فِيهَا، كان "الضاحك" خريج دار علوم وضليع في اللغة العربية، في قواعد اللغة العربية، بنبرة الباشا في "غزل البنات".
اقرأ أيضا : سؤالي عن النفق لا الضوء
في المرة التالية التي حضر فيها زميلنا الذي "يحب اللمة"، سأله زميلنا "الضاحك" وهو ينظر إلي مباشرة، بابتسامة ذات معزى: أخبار مؤتمر...إيه؟، فأجابه: "مش ولا بد، الأكل كان تلت أنواع بس، قليل، وبارد".
هذه معايير التغطية الصحفية، الحقة، بالنسبة لصاحبنا: الهُبور.
هكذا أصبح لدينا شعاران: يحيا الثبات على المبلغ، ويحيا الثبات على الهُبور، سأترك الأخير لأنه كان من باب الطرائف، وأكمل مع الأول، فبعد فترة وجيزة أصبحت مقولة صاحبنا "يحيا..." شعارا فعلا، كسخرية، مرات قليلة، لكن في الغالبية العظمى أصبحت حافزا، قوة دفع، حجة، مبدأ أخلاقيا، عقيدة.
كانت لصاحبنا ميزة إضافية، على مزاياه المهنية التي ذكرتها، فبينما كان أغلب الزملاء يتعاملون مع عدة مكاتب صحفية، كان يقصر تعامله على مكتبنا، وقد دققت هذه المعلومة، وبينما كان بعض الزملاء الذين يعملون معه في ذات الهيئة الصحفية الكبرى، ينشرون تحت أسماء مستعارة، كان يكتب اسمه ثلاثيا، ويرجع ذلك لموقعه المتقدم في تراتبية هيئته.
بعد هذه الواقعة ببضع سنوات، وكنت حينها قد أصبحت في موقع آخر، صادفته في الشارع، بعد أقل من ساعة من سقوط الرئيس السابق، حسني مبارك، أثناء إلقائه خطابه في مجلس الشعب (2003)، تصافحنا، وسألنا بعضنا البعض عن الأحوال، ثم سألته: ماذا سيحدث؟، استفسر: في ماذا؟، أوضحت: الراجل وقع على الهوا؟، قال: لا تركز في هذه الأشياء، قلت لك من قبل، ويبدو أنك نسيت: يحيا..، وقبل أن يكمل شعاره "الخالد"، تعالت ضحكاتي، ولم أمتلك القدرة على وقفها.
بعد ذلك ببضع سنوات، أخرى، ظهرت من صاحبنا، معان خفية، لشعاره، لكن هذا يحتاج بحثا للوقف على تفاصيل تلك الوقائع.
الذين يتعاملون، مثلي، بـ "القطعة"، مع حيازات الحياة، وتربكهم موازنات "الفواتير" الشهرية، والربع سنوية، ونصفها، والسنوية، وهم في الوطن بعشرات الملايين، قد يبدو لهم "يحيا الثبات على المبدأ" تنازلا اضطراريا، بعضهم لا يجد حرجا في المواءمة، التأقلم، التماشي، وأيا ما كانت الأوصاف، سيحيرهم تعبير الدكتور الرخاوي: الجمود يعني الثبات على المبدأ جدا جدا، حيرة مدوخة، ربما تكون فجة ومباشرة، إذا ما قورنت بحال الركاب في قطار.