ضجت وكالات الأنباء العربية والدولية بالأخبار الواردة من فضيحة وثائق باندورا، التي كان للمنطقة العربية برمتها وقادتها حصة لا بأس بها من الأنباء والوثائق والفضائح والتهريبات والتنفيعات والتهرب الضريبي والفساد المالي والإداري. وعلى ما تقول التقارير، فقد تصدر لبنان المشهد بعدد الوثائق والشخصيات العامة التي تناولتها الفضيحة. ولكن من هي باندورا وما قصتها؟
تقول الأسطورة؛ إن الإله زيوس خلق المرأة الأولى، وهي أول امرأة يونانية وجدت على الأرض حسب العقيدة اليونانية، وأسماها باندورا (Πανδώρα)، وقد خلقت من الماء والتراب وأعطيت الكثير من المميزات؛ كالجمال والقدرة على الإقناع وعزف الموسيقى. ثم أعطاها صندوقا أو جرة مغلقة تضم كل الشرور، وقال لها ألا تفتحها أبدا، حتى لا تتسبب في انتشار الشرور في الأرض. لكن الفضول دفع باندورا إلى فتح الصندوق لمعرفة محتوياته، فخرجت كل الشرور منه، فحاولت إغلاقه من جديد، لكن الأوان كان قد فات، مما سبب انتشار الشر في الأرض.
وعليه، فصندوق باندورا في الميثولوجيا الإغريقية اليونانية، هو صندوق كانت تملكه باندورا وكان مليئا بكل الشرور، كالجشع والغرور والافتراء والكذب والحسد والوهن، والإيجابية الوحيدة التي بقت فيه هي الرجاء.
إن صندوق باندورا لبنان إن تكلم سيخرج موبقات السياسيين الفاسدين الذين أكلوا الأخضر واليابس من أمام المودعين، الذين لا زالوا يتسولون أموالهم أمام المصارف في الاعتصامات، ولا حياة لمن تنادي. فالمودعون يطالبون المصارف، والمصارف ترميها على مصرف لبنان، والمصرف المركزي يلقيها على الدولة، والدولة شبه المفلسة تنام على حرير المصائب التي لا تبشر بالخير لا اقتصاديا ولا سياسيا ولا تربويا؛ في ظل عام دراسي لا يعرف كيف ومن أين يبدأ في زمن المأساة التربوية اللبنانية، حيث الخوف على الأساتذة والتلاميذ في آن معا، في بلاد كانت يوما ما مدرسة الشرق وجامعة الشرق.
من هنا، ينطلق الحديث عن طلب المعونات من الجهات المانحة لتقليعة العام الدراسي حتى لا تقع الحكومة من أول نسمة هواء مدرسية، ولكن هذا يدفعنا للحديث عن أولويات الحكومة التي قال رئيسها إنها لا تملك الدولار للكهرباء والطاقة وسواها من أبسط الأمور الحياتية، وتاليا واجب على الحكومة بحسب العارفين تلبية شروط الموفدين الدوليين الذين يحجون إلى لبنان يوميا، من وزير الخارجية الألماني مرورا برئيس وزراء الأردن وناظر سيدر موفد الإليزيه السفير بيار دوكان؛ صاحب المضبطة السياسية الشهيرة بحق الفاسدين في لبنان، حيث المطالب تتلخص في جملة نقاط؛ إن أنجزتها الحكومة الميقاتية، فقد تكون بداية طوق نجاة في بلد يحتاج شعبه المسكين إلى من ينجيه من يومه وغده، حيث تقارير الفقر والبؤس وصلت لتتحدث عن 82 في المائة من اللبنانيين فقراء بفعل تحولات الدولار وأسعاره المتعددة، حيث عاد ليحلق فوق 19850 ليرة للدولار، منعكسا بؤسا وفقرا وانهيارا بفعل تقدم الحكومة على ما طالبها المجتمع الدولي من مطالب؛ أولها الإصلاحات البنيوية في الاقتصاد والإدارة والكهرباء، التي تشكل نافذة لبلورة خطة مع صندوق النقد الدولي لرسم بداية الحلحلة المنشودة.
وقد تبدو الانتخابات النيابية لبنة أساسية في الرؤية الدولية للبنان، حيث يصر المجتمع الدولي على إجراء الانتخابات في موعدها، التي على يبدو ستكون عرضة للأخذ والرد في أكثر من موقف وأكثر من صعيد وأكثر من حزب. وربما قد نرى يوما ما "تأجيلا تقنيا" فيها، وإن سمعنا كل الأصوات تنادي بإجرائها، حيث القوى السياسية تدرك أن زمن أول تحول، وأن الناس كفروا بكل شيء.
وعليه، كل الحسابات للقوى القائمة وبحسب الكثير من الإحصاءات، تؤكد تراجع أهل السلطة جملة وتفصيلا، علما أن للتحالفات القادمة وحجم الدعم الدولي وعامل المال السياسي كلمة فصل في وقتها، ولكن هل حسمت الحكومة حقيقية أمرها في إجراء الانتخابات، أم إن كل المراسيم هي شكليات فقط، علما أن رئيس الوزراء صرح بأنه لم يحسم حتى الساعة أمر ترشحه من عدمه؟! فهل يمهد النجيب لمرحلة التأجيل التقني على سبيل المثال؟ ولكن في ذلك إشارة مخيبة لكثير من الدول التي تنشد تغيرا في الأكثرية النيابية الحاكمة، وإن لم يكن بحجم أحلام ثورة تشرين وأهلها، فعلى الأقل يشكل أداة تكون لها القدرة في فترة ما بعد الانتخابات تشريعيا وتنفيذيا وحتى رئاسيا، حيث سينتخب البرلمان القادم الرئيس الجديد للبلاد.
وللمفارقة، فإن المجتمع الدولي يصرّ على إجراء الانتخابات في موعدها، إلا أن ما لا يمكن إغفاله، هو أن الدول لم تشدّد كثيرا على نقطة تغيير القانون الانتخابي، كما أنها لم تعط الأولوية لإجراء تعديلات عليه، مع العلم أن المطالبة المستمرة كانت بإجراء الانتخابات على أساس القانون النسبي. ولكن هل تبقى القوى المحلية على تحالفاتها إذا ما تحرك شيء في مياه قانون الانتخابات الراكدة؟
أما ثالثة الأثافي للموفدين الدوليين ومطالبهم، فتتجسد في الثورة القضائية والحاجة لبلورة بيئة قضائية قادرة على المضي بمواكبة الإصلاحات المنشودة، والتدقيق الجنائي الحقيقي في الهدر والفساد مع كل الفاسدين والمفسدين، مهما بلغت حظوتهم.
من هنا، لا بد من التأكيد أن جملة الموفدين الدوليين لا زالوا يرقبون بعين واعية خطوات تحقيقات انفجار "بيروتشيما"، ويؤكدون المضي بها كي يبنى على الشيء مقتضاه، وبذلك تُجمع الدول الكبرى كما العديد من القوى المحلية على ضرورة إطلاق يد القضاء، حيث المنطلق لمسار الإصلاحات العالقة في الأدراج منذ سنين، وأولها في الجسم القضائي نفسه، وتاليها الحفاظ على ما تبقى من دولة عبر المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية.
باندورا لبنان، لا يعرف من أين يبدأ وكيف ينتهي، حيث وحش الفساد يضرب بلا هوادة وينهش لحم شعب بات يعيش يومه وكأنه الرمق الأخير. وبالرغم من وثائق باندورا الأخيرة، إلا أن الوضع الراهن لحال البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبنان، تنبئك بأكثر مما جاءت بها باندورا الأخيرة؛ على قساوة ما فيها من كثير من الارتكابات ودناءتها.