في عدد "عربي21" للسابع من شباط (فبراير) لعام 2020 كتبت مقالا بعنوان "البرهان اختار فرز الكيمان" قلت فيه: إن الكيمان في العامية السودانية هي جمع "كوم"، والكوم فيما تقول قواميس اللغة هو "كلُّ ما اجتمع وارتفع له رأسٌ من تراب أو رمل أو حجارة أَو قمح، أَو نحو ذلك"، وفرز الكيمان عند أهل السودان هو انفصال فرد أو مجموعة عن طرف أو أطراف أخرى، وتشبهه في المعنى لدى بعض العرب مقولة "كل حي يروح لحاله"، وعنيت بذلك أن رئيس مجلس السيادة السوداني ف. أ. عبد الفتاح البرهان اختار النأي عن الكتلة المدنية في حكومة السودان الحالية، باعتبارها مناوئة للمؤسسة العسكرية التي تسلل هو ومعه نفر من الجنرالات إلى قصر الحكم باسمها، وبحسبان أنه هو المؤسسة العسكرية وأن انتقاده مساس بكل العسكر.
ومنذ ثلاثة ونيف أسابيع والبرهان يقوم بتصعيد هجومه على الكتلة المدنية في الحكم، والممثلة في مجلس الوزراء، وأوصل الأوضاع إلى القطيعة شبه الكاملة بين الطرفين، ثم "زودها حبتين" وطالب بحل الحكومة، ويعني بذلك مجلس الوزراء، فهو قطعا لا يعني حل مجلس السيادة، لأن فيه خمسة عسكريين اختارهم هو بعناية وبالتالي فهم في تقديره من "الصحابة والتابعين" ولا يجوز المساس بهم.
ظل البرهان طوال الأيام القليلة الماضية في حال طواف شبه يومي على الوحدات العسكرية مخاطبا الجند في شؤون الحكم والسياسة، ومراقبو المشهد السوداني محقون إذا اعتبروا ذلك حملة لـ "التعبئة العامة" إعدادا لنقلة تجعله ومعه جنرالات مجلس السيادة الكل في الكل باسم الجيش في كافة مستويات وهياكل الحكم.
وواقع الأمر يشي بأن البرهان لم يتخل قط عن خطته لإحداث انقلاب ناعم يحقق به طموحه مصداقا للرؤية المنامية لوالده الذي قال إنه رآه عظيم الشأن في حكم السودان، وكان كبار عسكر السودان قد جربوا الانقلاب الخشن في 3 حزيران (يونيو) عندما خططوا ونفذوا جريمة زهاء مائتين من شباب الثورة التي أطاحت بنظام عمر البشير، فرآها البرهان وبعض كبار مساعديه غنيمة باردة هم أحق بها باعتبارهم أبناء ذلك النظام الذي تربوا في كنفه ونالوا منه الرتب التي ينعمون بها اليوم.
ومن الواضح أن البرهان ورهطه لديهم تصور شبه كامل لكيفية انتزاع السلطة التنفيذية من مجلس الوزراء "المدني"، فقد بات كثير الكلام عن توسيع قاعدة الحكم، ويعني بذلك قطعا منح الكراسي لأفراد وتنظيمات تدين له بالولاء، ونجح حتى الآن في استقطاب اثنتين من حركات الكفاح المسلح في دارفور، وضعتا كل بيضهما في سلة البرهان، وقادة الحركتين لم يخفيا قط الإحساس بالمرارة لأن قوى مدنية غير منظمة في معظمها هي التي قادت الحراك الذي أطاح بالنظام المباد ونالت شرف الإطاحة به، وصارت بحكم الوثيقة الدستورية التي تقنن أمور الحكم حاليا، ممثل القوى المدنية في كل ما يتعلق بأمور الحكم .
السيد مني أركو مناوي الذي فاز بمنصب حاكم عموم دارفور والأكثر هرولة إلى ثكنات العسكر، وتغزلا بالعسكر، وقف يوم تنصيبه محييا رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح السيسي (!!!!)، ثم وفي اليوم الذي تم فيه تكوين حاضنة جديدة للحكم لتنتزع الصلاحيات مما يسمى بقوى الحرية والتغيير التي تعطيها الوثيقة الدستورية سلطة تمثيل المدنيين في الحكم، وقف مناوي محييا "عبد الوهاب البرهان".
المؤكد هو أن البرهان صار أكثر خشونة في مسعاه للانقلاب على الحكم المدني، وصار يلعب على المكشوف، وأقل درجات الطموح عنده أن يظل رئيسا لمجلس السيادة إلى حين إجراء انتخابات عامة في عام 2024،
والرجل الأكثر حرصا على البقاء في المشهد بالصورة والصوت هو صاحب رتبة فريق أول، محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب البرهان في مجلس السيادة، ولكنه ما أن يفتح فمه إلا وأطلق الرصاص على قدمه، فمجاراة للبرهان في التشهير بالمدنيين في الحكم قال حميدتي مؤخرا "لن نسلم الشرطة وجهاز المخابرات للمدنيين حتى لا يستغلونهما في البطش بالمواطنين"، وعندما يصدر كلام كهذا من قائد قوات الدعم السريع، يحسب المرء أن عناصر تلك القوات رسل سلام ومحبة، وقال أيضا: المدنيون طموحهم الكراسي ونحن مهمومون بإخراج البلاد من أزمتها ـ يعني هو والبرهان يجلسون في كراسي الحكم إيمانا واحتسابا.
ولكن شركة فيسبوك فضحت الإيمان والاحتساب الكاذب عندما قامت بإزالة مئات الحسابات والمجموعات والصفحات المزورة الداعمة لقوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي، والتي أنشئت لتلميعه وتسويقه كزعيم وطني سليم النية والطوية، تحت إمرة كتيبة إلكترونية لا تعصي له أمرا.
وربما أدرك البرهان وحميدتي أن المجتمع الدولي يرفض الانقلاب العسكري الناعم أو الخشن في السودان، ويقينا فقد أحسّا باليتم بعد رحيل دونالد ترامب عن البيت الأبيض الأمريكي، وكانا قد فازا برضاه بالهرولة على مسار تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ويبدو أنهما ما زالا يراهنان على أن كسب ود واشنطن يكون بزيادة سرعة الهرولة في اتجاه إسرائيل، فكان أن تم قبل أيام إيفاد شقيق حميدتي وقائد عسكري آخر على رأس وفد إلى إسرائيل من وراء ظهر وزارة الخارجية.
والشيء المؤكد هو أن البرهان صار أكثر خشونة في مسعاه للانقلاب على الحكم المدني، وصار يلعب على المكشوف، وأقل درجات الطموح عنده أن يظل رئيسا لمجلس السيادة إلى حين إجراء انتخابات عامة في عام 2024، فليس من الوارد في أجندته أن يتنازل عن ذلك المنصب، ويصبح عضوا عاديا في ذلك المجلس بعد بضعة أسابيع ـ وفي رواية أخرى بضعة شهور ـ كما تقضي بذلك الوثيقة الدستورية.