خلال مسيرتها الطويلة تعرضت جماعة الإخوان المسلمين لضربات قوية وقاسية وموجعة، لكنها رغم ذلك كله حافظت على وجودها، وتمكنت عقب كثير من الضربات التي استهدفتها من إعادة ترتيب صفوفها، وإثبات حضورها وفاعليتها من جديد، وهو ما كان يظهر بكل وضوح عبر مشاركاتها الانتخابية في كثير من الدول العربية حيث كانت النتائج تُظهر فوزها الباهر، وإحرازها لأعلى نسب النجاح بين سائر الأحزاب والقوى السياسية المختلفة.
تعرضت الجماعة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى محن قاسية، على أيدي نظام الرئيس جمال عبد الناصر، وصبرت على كل صور القمع والتعذيب والمحاصرة والملاحقة التي مارسها النظام بحق قياداتها وأفرادها، وخرجت الجماعة من تلك المحنة لتكون أشد عودا، وأصلب شكيمة، وأكثر حضورا، وهو ما بدا واضحا في المراحل التالية، لا سيما ما بعد الربيع العربي الذي مكنها من الوصول إلى كراسي الحكم والسلطة.
كما تعرضت الجماعة لحملات شديدة وقاسية من الاعتقال والقمع في كثير من الدول العربية، كتونس وليبا والعراق وسوريا..، إلا أنها بقيت قائمة سواء داخل البلاد أو خارجها، وحافظت على كينونتها وتماسكها التنظيمي، وكانت كلما أُتيحت لها فرصة المشاركة في الانتخابات النقابية أو الطلابية أو البرلمانية تثبت حضورا لافتا ومتميزا، غالبا ما تتصدر به المشهد محرزة الرقم الأول في الفوز.
تلك المحن القاسية التي تعرضت لها الجماعة، والضربات الموجعة التي تلقتها عبر مسيرتها الطويلة تفتح باب البحث والنظر لاستكناه أسرار قدرة الجماعة على الصبر والثبات، وتمكنها من المحافظة على كيانها، وخروجها من كل تلك المحن والضربات قوية متماسكة منظمة، وفاعلة ومؤثرة كقوة فكرية وسياسية ودعوية واجتماعية، قادرة على قيادة الجماهير وكسب أصواتها وحشد تأييدها لصالحها.
أرجع الداعية السعودي، والأكاديمي المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي، قدرة جماعة الإخوان على البقاء والاستمرارية رغم شراسة الضربات ضدها إلى قوة الفكرة في ذاتها، وقدرتها على الدعوة إليها والإقناع العام بها، وإخلاص أصحابها لها".
سعيد الغامدي.. داعية وأكاديمي سعودي
واستدرك: "لكن تلك الضربات الموجعة أثرت عليها من جانب، وقوّتها من جوانب أخرى لصدور تلك الضربات من دول وشخصيات ظالمة ومستبدة وقمعية، ولم تقدم لأوطانها وشعوبها إنجازات حقيقية، لكن وللأسف وجد من المغفلين من انطلت عليهم الحيل".
وعن إمكانية تفادي تلك الضربات، والإفلات منها بحسن تقدير الموقف، والابتعاد عن المسارات التي تفضي إلى المواجهة، قال الغامدي في حديثه لـ"عربي21": "لا شك أن تقدير المواقف له تأثيره البليغ في النتائج، وحسن النية لا يشفع للعمل الخاطئ، كما أن وجود بعض القيادات التي تريد الدنيا، وتنتصر لحظوظها الذاتية، وتطمع في المكانة والمنزلة له تأثير كبير في العواقب" على حد قوله.
وتابع: "كما أن جمود الجماعة، وضعف قدراتها الإدارية وانحصار قيادتها في المصريين، وفي من شاهد البنا، أو شاهد من شاهد البنا (تابعي التابعين)، وضعف الاحترافية السياسية كل ذلك أدّى إلى أخطاء بعضها كبير ومؤثر، هذا في ما يخص الأداء الإداري، أما المضمون الفكري فما زالت الجماعة تمتلك حيوية قوية وفعالة رغم شراسة الاتهامات ضدها من الخارجين من صفوفها، أو من متعصبي السلفية، وخاصة الجامة الحكومية، ومن التيار الجهادي كذلك".
ورأى الغامدي أن "حيوية الفكرة موجودة في الأساس، ولكنها تحتاج إلى مزيد صقل بأدوات شرعية ثابتة، ليست كأدوات سعد الدين العثماني وراشد الغنوشي وحسن الترابي، الذين حاولوا أن يصقلوا أفكارهم ليرضى عنهم الغرب، فما رجعوا إلا بخسارة مضاعفة".
وأردف: "ولا أزعم أن الإخوان سيبقون أبد الآبدين فقد ينتهي عمرهم الافتراضي، وترثهم مجموعة أكثر نضجا، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتجديد والثبات، والمهارة والأمانة.. وحسْب الإخوان أنهم قد أدّوا دورا كبيرا في نهضة الأمة وإيقاظها من سباتها".
من جهته قال القيادي في إخوان الأردن، أحمد الزرقان: "الإخوان فكرة تقوم على العمل لاستئناف الحياة الإسلامية، وتطبيق الشريعة، لكي يعود للإسلام عزه وسؤدده، وهي الفكرة التي لا بد أن يحملها ويتبناها تنظيم كي يتم تطبيقها على أرض الواقع".
أحمد الزرقان.. قيادي في إخوان الأردن
وأرجع نجاح تلك الفكرة، وانتشارها في أكثر من ثمانين دولة، إلى عدة أسباب من أبرزها "إخلاص وصدق صاحب الفكرة الشهيد حسن البنا رحمه الله، وعمق التفكير البنائي لديه، وحسن الإخراج والتطبيق، وكذلك صدق وإخلاص معظم القائمين على هذه الفكرة البناءة".
وتابع سرده لـ"عربي21": "والفكرة تقوم على الإسلام الوسطي المأخوذ من الكتاب والسنة ودون إفراط أو تفريط، وأعني بالإفراط أن كل الجماعات والتنظيمات التي قامت على الإفراط والغلو اندثرت وانتهت بدءا من الخوارج وانتهاء بالدواعش، وكل فكرة قامت على التفريط بالمبادئ، واعتمدت وركنت إلى دول لا تطبق الإسلام فشلت وانتهت بانتهاء الراعي لها مثل كل الأحزاب الإسلامية التي نشأت برعاية دول لضرب الفكرة الإسلامية الصحيحة".
وعن قوة التنظيم وتماسكه، أكدّ الزرقان أن "فكرة الإخوان تقوم على تنظيم محكم البناء كما قعّد الأستاذ الإمام المؤسس، بتسلسل دقيق وموزون يتبع سلما رتبيا، يعتمد على التربية المتدرجة من رتبة إلى رتبة أعلى، وهذا البناء ليس من السهل اختراقه، وليس من السهل هدمه كذلك، ونجاح الفكرة ينبع كذلك من كون أعضاء التنظيم يبذلون كل ما في وسعهم من مال وجهد ووقت وعمل وبرامج وخطط بأهداف واضحة، وأساليب ناجعة".
وأوضح أن قدرة الجماعة على الاستمرارية بعد الضربات التي تتعرض لها إنما يعود إلى "أنها فكرة صادقة مخلصة، قابلة للحياة سرعان ما تعود إذا تهيأت لها الظروف بسرعة خيالية كما حصل لها في الربيع العربي، حيث جاءت من المنافي وحكمت الشارع وقادته، وتسيدت الموقف لأن الناس يثقون بأصحابها".
وتابع: "الابتلاء سنة ربانية لتمحيص الصف وتنقيته، لكن الحركة الإسلامية كلما ضُربت قوي عودها واشتد وازداد صلابة، وكلما رُفع عنها البلاء وأتيح لها العمل والبناء عادت بقوة وامتدت وانتشرت.. لكن ثمة أخطاء وقعت من الحركة نفسها بعدم تقدير الظروف والمراحل والمواقف، وكذلك الانخداع ببعض القيادات السياسية والعسكرية التي تعاونوا معها مثل ثقتهم بجمال عبد الناصر والضباط الأحرار في ثورة 1952".
وواصل: "وكذلك انخداعهم بالدور الذي مارسه عليهم عبد الفتاح السيسي في الربيع العربي، مع وجود خلافات داخلية أدّت إلى الضعف والتنازل عن بعض المبادئ والثوابت كما حصل لهم في تونس والمغرب".
وفي ذات الإطار رأى الباحث بمركز الجزيرة للدراسات، المتخصص في شؤون المشرق العربي، والحركات الإسلامية، الدكتور شفيق شقير أن "الإخوان المسلمين جزء من القوى والأحزاب والتيارات الموجودة في المنطقة، وقد تعرضت للقمع والملاحقة كما تعرض غيرها من القوى كالشيوعيين وغيرهم بحكم طبيعة السلطة القائمة في العالم العربي والتي تفتقر إلى الممارسة الديمقراطية الحقيقية، وتغلب عليها السلطوية والإقصاء والقمع".
شفيق شقير.. باحث في مركز الجزيرة للدراسات
وتابع: "وما يذكر عن كون المحن التي يتعرض لها الإخوان بوصفها سنة من سنن الدعوات، فلربما هي سنة من سنن العمل السياسي في العالم العربي كذلك، الذي يمارس في ظل أنظمة سلطوية استبدادية، ففي تلك الأجواء من الطبيعي أن تتعرض تلك القوى للقمع والملاحقة والمحاصرة والإقصاء".
وحول استخدام الإخوان لمصطلح المحنة والابتلاء في توصيف ما يتعرضون له من ضربات موجعة، أوضح شقير لـ"عربي21" أنها "تفعل ذلك بما يتماشى ويتوافق مع منظورها الداخلي، مضفين عليه أبعادا دينية للتكيف مع ما يتعرضون له من قمع واعتقالات ومحاصرة".
ولفت شقير إلى أن "قراءة مسيرة الإخوان تُظهر مدى نقص الخبرة السياسية لديها، ويتجلى ذلك بكل وضوح في عدم موازنة الجماعة بين المبدئية والبراغماتية، حيث طغت الأولى على الثانية، فغلب الجانب الدعوي على السياسي في أدائها، وقد حدثت القفزة الكبيرة بالانتقال من الدعوي إلى السياسي في الربيع العربي بعد عام 2011".
وأردف: "ومن المهم الإشارة إلى أن عدم وجود الخبرة السياسية عند الإخوان، أوقع الجماعة في معارك لم يكونوا بحاجة إليها، بل ربما يكون عدم الخبرة السياسية في الجماعة بنيويا في التنظيم، الذي ما زال الدعوي يطغى فيه على السياسي، وهذا لم يعد سرا، إذ ثمة تنظيرات كثيرة من قبل الإخوان أنفسهم لتشخيص ذلك بدقة ومعالجته".
وخلص في ختام حديثه إلى التأكيد على أن من أهم أسباب استمرارية الإخوان رغم كل ما تعرضت له الجماعة من ضربات هو "طبيعة الأنظمة السلطوية السائدة في العالم العربي، التي لا تلبي حاجات وتطلعات القوى السياسية والشعبية، ما يولد الدوافع الدائمة لوجود تلك القوى والأحزاب والتيارات، إضافة إلى كون الإخوان جماعة دينية، لها خصوصية التماهي مع دين الأمة وتراثها ما يكسبها شعبية أوسع، وتأييدا أكبر من غيرها".
الملكية والإسلاميون بالمغرب.. قراءة في سردية العلاقة (2من2)
محاولة لفهم أسباب السقوط الانتخابي للعدالة والتنمية المغربي
ماذا تبقى من حركات الإسلام السياسي بعد خسارته بالمغرب؟