بعد أن قادت التحركات المعارضة لإجراءات الرئيس يوم 25 تموز/ يوليو الماضي، اختارت حملة "مواطنون ضد الانقلاب" أن تنتقل من اللحظة الاحتجاجية السالبة المكتفية بإدانة "الانقلاب" عبر وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي - مع الحرص على التشكيك في شرعيته في الشارع - إلى قوة اقتراح سياسي تقدم نفسها قاعدةً ممكنة للخروج التوافقي من الأزمة الحالية، أي إلى لحظة موجبة تطرح خارطة طريق تفصيلية. ورغم انتماء أغلب رموز هذه الحملة إلى سرديات غير إسلامية، بل رغم المواقف النقدية لأغلبهم من منظومة ما قبل "تصحيح المسار"، حرص أنصار الرئيس وحلفاؤهم على الطعن في الحملة ووصمها بخدمة أجندات "الحزام الحكومي" بقيادة حركة النهضة. وهي استراتيجية نجحت - إلى جانب عوامل أخرى - في تشتيت المعارضة ومنعها من التوحد في جبهة صلبة لمقاومة المسار الخطير لـ"حالة الاستثناء".
واقعيا، لا يمكن أن ننكر وجود تقاطع موضوعي بين حملة "مواطنون ضد الانقلاب" وبين المتضررين من إجراءات الرئيس، خاصة منهم أولئك الذين كانوا في السلطة. ولكنّ هذا الالتقاء لا يعني التماهي أو التذيل إلا إن ارتضينا التفكير بضرب من التسطيح المهيمن على الساحة الإعلامية وعلى أغلب السجالات السياسية.
القراءة الموضوعية للشأن التونسي تنبئنا بأنه لا يمكن اختزال الصراع السياسي إلى صراع بين الرئيس وحركة النهضة، إذ أثبتت المراسيم الرئاسية أن مشروع "الديمقراطية القاعدية" لا يستهدف النهضة باعتبارها حزبا إسلاميا ولا باعتبارها راعية لـ"منظومة الفساد"، ولكن باعتبارها مركز الحقل السياسي أو القوة الحزبية الأهم
فالقراءة الموضوعية للشأن
التونسي تنبئنا بأنه لا يمكن اختزال الصراع السياسي إلى صراع بين الرئيس وحركة النهضة، إذ أثبتت المراسيم الرئاسية - خاصة المرسوم 117 الصادر في 22 أيلول/ سبتمبر - أن مشروع "
الديمقراطية القاعدية" لا يستهدف النهضة باعتبارها حزبا إسلاميا ولا باعتبارها راعية لـ"منظومة الفساد"، ولكن باعتبارها مركز الحقل السياسي أو القوة الحزبية الأهم في "الديمقراطية التمثيلية". فقد أكد ذلك المرسوم – مع ما رافقه من رفض لأي حوار وطني ولوضع خارطة طريق لـ"حالة الاستثناء" بصورة تشاركية - أن الرئيس يتحرك بمنطق البديل لكل الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية، لا بمنطق الشريك حتى لأولئك الذين ساندوا إجراءاته.
لقد أثبتت المراسيم الرئاسية بعد 25 تموز/ يوليو عمق الوعي/ الاستشراف السياسي لدى النخب الرافضة لحالة الاستثناء وما تعنيه من تجميع للسلطات التنفيذية والتشريعية بيد شخص واحد. فمقاومة انحرافات الديمقراطية تكون بالمزيد من الديمقراطية، أي بتصحيح مساراتها تحت سقف المؤسسات والتشريعات التي تدير الاختلاف بين الفاعلين الجماعيين وأهمها الدستور. ولكنّ الكثير من الأحزاب والمنظمات الوطنية اختارت مناصرة الرئيس لأنها عجزت عن فهم مشروع الرئيس خلال "حملته التفسيرية"، وعجزت عن فهم ما تعنيه لحظة الانفراد بالسلطة في مسار ذلك المشروع.
من الصعب أن ننكر أن "حالة الاستثناء" - بصرف النظر عن الاختلافات المعروفة في إثبات دستوريتها أو الطعن فيها - كانت مخرجا من المخارج الممكنة لانسداد سياسي ولأزمة اقتصادية ومخاطر وبائية لا يمكن لأحد إنكارها، ولكنها كانت فضلا عن ذلك - عند بعض الأحزاب والشركاء الاجتماعيين وأغلب النخب "الحداثية" - تبشيرا بإعادة هندسة الحقل السياسي بعد استبعاد حركة النهضة وائتلاف الكرامة ومن طبّع معهما من ورثة المنظومة القديمة.
كانت أغلبية الشعب تريد تأسيسا لمنطق المساءلة والمحاسبة للفاسدين في الكارتلاّت الحزبية- المالية، فحوّله الرئيس إلى مناسبة لتصفية خصومه السياسيين ولتكميم الأفواه باستعمال القضاء العسكري
كانت إجراءات 25 تموز/ يوليو بالنسبة إلى رئيس الجمهورية لحظة تأسيس جديد، ولكنه تأسيس لم تستطع أغلب القوى السياسية والنقابية والمدنية والإعلامية المناصرة له أن تقرأه قراءة صحيحة. كانت أغلبية الشعب تريد تأسيسا لمنطق المساءلة والمحاسبة للفاسدين في الكارتلاّت الحزبية- المالية، فحوّله الرئيس إلى مناسبة لتصفية خصومه السياسيين ولتكميم الأفواه باستعمال القضاء العسكري، مع فتح بعض ملفات الفساد "الهامشية" التي لم تمس النواة الصلبة لمنظومة الفساد (تشريعات النظام الريعي، والشبكات الزبونية في الإدارة والنقابات والأحزاب والإعلام).
وكان أنصار الإجراءات داخل "العائلة الديمقراطية" ينتظرون من الرئيس أن يُشركهم في إدارة حالة الاستثناء، وفي تحديد مخرجاتها داخل سقف الجمهورية الثانية، ولكنه رفض الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل والعديد من الأحزاب المناصرة له، كما رفض التحرك داخل دستور الجمهورية الثانية وأعلن عن اعتزامه تنقيح الدستور والنظام السياسي باعتماد الحوار "الإلكتروني" مع الشباب وعامة الشعب، دون أي حاجة للوسائط الحزبية والنقابية والمدنية.
رغم تداعي المنطق الإيماني (الإيمان بنزاهة الرئيس وصدقه في تصحيح مسار الثورة سياسيا واقتصاديا) ونكسة المنطق الانتهازي (انتظار مكاسب فردية وجماعية من حالة الاستثناء)، ورغم تأكد الجميع من أن الرئيس يريد تأسيس جمهورية ثالثة على مقاس الديمقراطية القاعدية التي تُنهي الحاجة لأي أجسام وسيطة بين "الزعيم" وإرادة شعبه، فإن كل ذلك لا يبدو كافيا لتجاوز حالة التشتت داخل المعارضة. ويكمن السبب الأساسي لهذا التشتت في عجز النخب المعارضة عن بناء بديل يتجاوز جدليا منظومة ما قبل 25 تموز/ يوليو ومشروع الرئيس على حد سواء.
ونحن نقصد بـ"تجاوز جدلي" ذلك التجاوز الذي لا يتحرك بمنطق القطيعة أو النفي المتبادل ومفردات الصراع الوجودي، ولكنه لا يتحرك أيضا بمنطق إعادة تدوير العناصر غير الوظيفية من منظور تكريس جمهورية المواطنة الاجتماعية وبناء المشترك أو "الكلمة السواء"، بعيدا عن نوازع الانقلاب الكامن في أغلب "العقول الديمقراطية"، وبمكافحة شبكات الفساد الممأسس - والمستفيد من مناخ الحرية والديمقراطية - على حد سواء.
رغم أهمية خارطة الطريق التي طرحتها حملة "مواطنون ضد الانقلاب"، فإنها ستظل ذات تأثير محدود في إعادة هندسة المشهد التونسي ما لم ينجح أصحابها في تحويلها إلى قاعدة لخارطة طريق وطنية يجتمع حولها كل أطياف المعارضة
ولكنّ هذا التجاوز الجدلي يبدو بعيد المنال في المدى المنظور، فحتى المعارضة المبدئية للانقلاب لم تستطع التوحد إلى حد الآن، وآية ذلك ما نراه من تحركات منفصلة لـ"مواطنون ضد الانقلاب" وحزب العمال مثلا. أما توحد "مواطنون ضد الانقلاب" مع من التحق بالمعارضة بعد إجراءات 22 أيلول/ سبتمبر (مثل التيار الديمقراطي والتكتل وآفاق تونس) فلا يبدو محتملا في أفق التحرك المنتظر يوم السبت القادم، رغم التقارب الكبير بين أطروحات الطرفين. ولكن ذلك لا ينفي إمكانية الالتقاء بينهما في محطات احتجاجية أخرى.
ورغم تبني الاتحاد العام التونسي لخطاب نقدي لإجراءات الرئيس وممارسات حكومته (خاصة بعد أحداث مدينة الرقاب بولاية صفاقس)، سيكون من المبالغة أن نعتبره جزءا من القوى المعارضة للانقلاب. فالمركزية النقابية المحكومة بأطياف أيديولوجية يسارية وقومية وبيروقراطية؛ ما زالت تراهن على الرئيس في ظل موازين القوى الحالية. ولن يتغير موقفها إلا عند تغير هذه الموازين بصورة واضحة للداخل والخارج، أو عند استيئاسها من إمكانية الحكم مع الرئيس مهما كان مستقبل مشروعه السياسي.
رغم أهمية خارطة الطريق التي طرحتها حملة "مواطنون ضد الانقلاب"، فإنها ستظل ذات تأثير محدود في إعادة هندسة المشهد التونسي ما لم ينجح أصحابها في تحويلها إلى قاعدة لخارطة طريق وطنية يجتمع حولها كل أطياف المعارضة. وهي مهمة تستوجب البحث عن تسويات مع باقي مكونات المعارضة، ولكنها تستوجب قبل ذلك وجود مناخ من الثقة المتبادلة بين مختلف الأطراف.
خطابات التخوين أو الترذيل المتبادل لن يكون المستفيد منها إلا الرئيس ومن يناصره من أعداء الانتقال الديمقراطي، وقد يكون الأهم من ذلك كله هو الاستراتيجية التي ستُعتمد في الصراع مع الرئيس ومشروعه
فخطابات التخوين أو الترذيل المتبادل لن يكون المستفيد منها إلا الرئيس ومن يناصره من أعداء الانتقال الديمقراطي، وقد يكون الأهم من ذلك كله هو الاستراتيجية التي ستُعتمد في الصراع مع الرئيس ومشروعه. فالمعارضة لا ينبغي أن تتحرك بمنطق "الإنكار" (أي إنكار وجود أزمة بنيوية في منظومة ما قبل 25 تموز/ يوليو، مما يستوجب الإصلاح سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وإعلاميا وثقافيا).
كما لا ينبغي أن تتحرك بمنطق "النفي" (أي نفي حق الرئيس في طرح مشروعه السياسي باعتباره شريكا، وتجنب الوصاية على الإرادة الشعبية التي قد تجد نفسها في بعض أطروحات الرئيس إن لم تجدها بالضرورة في مشروعه السياسي كله). ولا شك في أن كل ما تقدم لا معنى له إلا إذا تراجع الرئيس عن منطق البديل، وفاء إلى منطق الشراكة - وإن بترتيبات جديدة في مستوى الدستور والنظام السياسي - وذلك بالعودة إلى الإرادة الشعبية عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكّرة.
twitter.com/adel_arabi21