كنا نستطرف ونحن طلاب في المدارس تعبير "زراعة الأسماك"، ونتعجب من استعارة شمائل النبات لخصائص الحيوان، ونتخيل زرّاعا يضع في عبّه أسماكا ويغرسها تحت الأرض ثم يحول الحول فتنبت أشجار تتدلى منها الأسماك مثل عثاكيل التمر!
كما يوصي العلماء بلبن التين طعاما للصحة، وهو سائل أبيض يخرج عند القطاف من ثمرة التين التي تشبه الثدي. ثم سمعنا بزراعة اللؤلؤ، وهي خرزات صلبة وحلية الغواني، ثم علمنا أنها كائنات بحرية تتحول مع الزمن من حيوانات إلى جواهر ودرر، إنها دموع المحارة المتجمدة من الشوق والحسرة توقا إلى الفكاك من فكّي الصدفة العظمية الصلبة.
ثم انتشر اللؤلؤ الصناعي حتى أزرى بالطبيعي، فهو أكبر وأجمل وأبرق وأسهل قطافا ولا يحتاج إلى عدة غوص في البحر، إلى أن سمعنا بالذهب الأسود، وهو النفط الذي إذا ما تلطخت به يد المرء احتاج صابونة كاملة للاستبراء من دهنه وسوداه وسخامه. ولم أجد حسناء تتزين بالذهب الأسود في حفلة أو في البيت إلا بعد بيعه وشراء لؤلؤ صناعي أو طبيعي، أو ابتياع سوار أو دملج، فلبن التين والذهب الأسود استعارات بديعية ومحسنات لفظية.
ثم دارت الأيام ومرت الأيام، فرأينا رأي العين وسمع الأذن وشمَّ الأنف زراعة الشيوخ والمحللين السياسيين والروائيين، وينالون جوائز عن روايات تصعب قراءتها إلا بعد تحليتها بسكر المديح.. وزراعة المطربين، فَعَلا شأن مطربين لا يعرفون شيئا من أمر الألحان وبحة الأصوات ورقتها ولا من شؤون القيافة وبديع الكلام، مثل شعبان عبد الرحيم الذي اشتهر وليس له سوى لحن واحد كان يصبُّ فيه كلماته وسفاسفه، بل إن زرّاع المطربين والمغنين جعلوه مناضلا وبطلا مجاهدا، حتى أنّ ممثلا صُنّف مقاوما للعدو الصهيوني لأنه أنشد نشيد شعبان عبد الرحيم غير الوطني الذي يحبُّ فيه عمرو موسى ويكره إسرائيل، كاسرا حرَّ إسرائيل ببرد عمرو موسى، واستشهد به في فيلمه، وصار عبد الرحيم أشهر من القسّام والرنتيسي وأحمد ياسين.
وعمرو موسى هو من تعرفون، ولا أذكر له بطولة سوى أنه وقف لأردوغان بعد أن وجد نفسه محرجا في مؤتمر دافوس فصافحه مضطرا من غير أن يخطر له أن يوافقه على رأيه، وهو أولى منه بالاحتجاج على تخرصات شمعون بيريز، فمضى أردوغان لشأنه غاضبا، وبقي عمرو موسى ينادم شمعون بيريز ويفوز بالمجد في الأغاني والأناشيد.
استضافت الفضائيات عشرات المحللين السياسيين وهم يستنكرون انقلاب عبد الفتاح البرهان أو ينددون به، فهو قائد القوات البرية للسودان وأمسى رئيسا لمجلس سيادة
السودان، والناس يميلون إلى الحكم المدني مما لاقوه من بطش وتنكيل الحكومات العسكرية. سوى ذلك قام البرهان - القائد المنقلب على رئيس منقلب – بزيارات تطبيع لإسرائيل، أي إنه سمكة مزروعة في الحكم السوداني، أو هو لؤلؤ صناعي، ولعله خرزة مصنوعة من الذهب الأسود الجميل.
عبد الله حمدوك، رئيس وزراء السودان، بعد اعتقاله أو أسره في الإقامة الجبرية الذهبية، أمسى بطلا هماما وأسير حرية تطالب به أمريكا وتدافع عنه أشد الدفاع. وكان البرهان هو الذي عيّنه بتوصية من أمريكا؛ وقد اجتمعت دول إقليمية ودولية تطالب بتحريره بالعَجل في بيانات شديدة اللهجة صادرة عن المهجة، وهو غير منتخب، ولم تفعل هذا لمحمد مرسي المنتخب؛ الذي مات متحسرا على محاكمة أو بيان فتحول إلى لؤلؤة تزينت به
مصر!
وحمدوك رجل لا يعرف له شأن سياسي سوداني قبل أن يزرع في سدة الحكم السوداني، ومجهول دُسّ من خارج السودان بعدما ظهر اسمه على صحيفة "سودان ديلي"، حيث ذكرت صحيفة تحسين البذار أن حمدوك سيكون مرشح "قوى الحرية" لمنصبِ رئيس الوزراء، وكان ذلك سنة 2019.
وكان بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة ووكيل "شركة القلق ليمتد" قد عيّنه قائما - أو قاعدا - بأعمال الأمين التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا، فكان ذلك الذكر تتويجا له على السودان، فأصبح رئيسا للوزراء.
شيء يشبه الانتخاب بالغربان في الحكايات، يطير الغراب ويهبط على رأس مجهول فيصير ملكا، فإن نجحت أمريكا في تحريره من أسر الإقامة الجبرية الفاخرة كان خيرا، وإن بقي في الأسر فالبرهان صديق أيضا. فكلاهما (السمكة الأصلية والسمكة الاحتياط) من متاع الزراع ليغيظ بهم المؤمنين، وخلافهما خلاف عائلي، وهما مدينان لأمريكا ويلعبان لعبة الحبار فمن جازَ فاز.
إذا عدنا إلى أقدم زراعة للملوك في العصر الحديث سنجد محمد علي باشا، الذي مُدح كثيرا على صفحات الجرائد والكتب المدرسيّة وفي الإذاعات والفضائيات، حتى أني وجدت مؤرخا حصيفا مثل محمد الجوادي يمدحه. ومحمد علي باشا جندي ألباني مسلم أو زعموا أنه مسلم، قَدِم مع الجيش العثماني إلى مصر فحكمها ما بين عامي 1805 و1848. ووُصف بأنه "مؤسس مصر الحديثة"، وهو وصف كان هو نفسه أول من أشاعه حتى لصق به وصار مثل الحقيقة.
خاض الباشا حروبا عن الدولة العثمانية ثم حاربها، بل كاد أن يسقطها لولا أن تدخلت الدول
الغربية خوفا من سقوط الجدار العثماني في وجه الروس، استغل الرجل الصراع بين الإنجليز والفرنسيين وبين العثمانيين والمماليك فظهر عليهم. ولم يكن يعرف العربية، وجعل مصر ملكا له ولأولاده، وحوَّل الشعب المصري إلى سخرة ومماليك بعد أن قضى على المماليك. وهو الذي علّم الشعوب العربية التدخين، فهي واحدة من فضائله الكبيرة التي لا يذكرها المؤرخون الأفاضل في سيرته الذاتية.
أينما نظرت في القصور العربية الملكية لن تجد سوى خيارين أحلاهما مر؛ إما الرمضاء وإما النار، وسمكتين؛ إما سمكة الصندوق أو سمكة القرش. فالدول العظمى تحسن بذر البذور، فقد زرعت أمريكا جمال عبد الناصر وآزرته ونصرته على الملك فاروق، حفيد محمد علي باشا المزروع في التربة المصرية. وكان الملك فاروق قد رفض إرسال جيش مصر إلى كوريا بأمر أمريكا فكانت ثورة يوليو عقوبةً له، وظهرت قروش "حركة الضباط الأحرار"، وهو اسم جميل لحركة انقلابية. لم ترَ مصر مع عبد الناصر إلا الهزائم والنكسات، ولكل حاكم فضائل فحتى الضبع يمكن الاستفادة من جلده في التدفئة والكساء.
يعرف حكام الغرب القاعدة السياسية التي عرفها مكيافيلي قديما وذكرها في كتابه الأمير، والتي تقول إنّ الشعوب تحنُّ إلى الطاغية الراحل بعد سنة أو سنتين من الثورة عليه، فيبادر الغرب إلى الاحتفاظ بالملك القديم أو أهم رجاله في الثلاجة السياسية لزراعته من جديد عند اللزوم، فوجدنا سيف الإسلام القذافي المتهم بمجازر لا شكَّ فيها قد عاد إلى المشهد السياسي.
وقد مهدت أمريكا لتسويقه بالسماد الإعلامي فبثت الصحافة الأمريكية له صورة ثابتة شديدة الإتقان فاتنة الألوان، يرتدي فيها عباءة عربية ويضع عمامة، ويتحدث من قصر منيف تنسدل فيه الستائر الفاخرة والرياش الزاهرة، وكأنه ملك من التاريخ المجيد أو سلطان من سلاطين ألف ليلة وليلة.
ادّخرت أمريكا سيف القذافي في اليوم الأسود ليومها الأبيض، فترشح للرئاسة مع رجلها الثاني حفتر الحاصل على الجنسية الأمريكية، وسيلعبان لعبة "الحبّار". ويخشى كثيرون من فوزهما أما المرشح الثالث فتحي باشاغا فهو سمكة فرنسية سامّة مزروعة أيضا. والشعوب تميل إلى الدعة والسكون، وتتعب من الفوضى، وتخاف من فتنة تدوم فتحنُّ إلى الملك الغشوم.
يمكن أن نتذكر أسماكا وحيتانا وثعابين كثيرة، مثل بشار الأسد الفائز السوري بلعبة الحبار، والذي ما تزال أمريكا تحتفظ به إلى حين العثور على سمكة أفضل، ولم تجد أفضل منه حتى الآن.
twitter.com/OmarImaromar