يبدو أن طريق
الانهيار في لبنان متسارع لحدود لم تعد تنفع فيه لا المسكنات ولا الادوية ولا المعالجات، ببساطة اللبناني يموت كل يوم ألف مرة ومرة: مرة عند شراء ربطة الخبر التي تجاوز ثمنها 10 آلاف ليرة لبنانية، ومرة عند تعبئة خزان الوقود في سيارته عندما يستمع إلى أرقام فلكية لم تعتدها أذنه من قبل، ومرة وهو يمضي برحلة البحث عن الدواء المفقود تارة والحاضر بعد رفع الدعم عنه مما جعل الكثيرين يفضلون الموت على شراء حبة الدواء التي لم تعد بالمتناول، فأضحى اللبناني أسير أمرين أحلاهما مرُ، ومرة جديدة يذوق طعم السم كلما دخل السوبرماركت يدور فيه باحثا عن سلع تتماشى مع الظروف البائسة، ولكن لا جدوى فكل شيء غالي غالي غالي.. والحالة من سيئ إلى أسوأ.
الحقيقة تقول إن الأسباب تعددت ولكن الموت واحد، والموت اليوم يجسده سعر صرف
الدولار الذي يحلق بعيدا جدا، ضاربا حياة الناس ونحن منهم؛ في لعبة موت حتمية إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه. وللمناسبة هي مرشحة لذلك.. كيف لا وكل التقارير المحلية والدولية تصرح بما لا يقبل الشك بأن السفينة اللبنانية باتت تغرق أكثر وأكثر منذ كلام السيد لو دريان، وزير الخارجية الفرنسي، عندما تحدث بأن لبنان إلى زوال منذ عامين. ولكن يبدو أن المسؤولين في غير عالم وغير دنيا لا بل منفصلين عن الواقع، كما وصفهم أكثر من مسؤول دولي.
لقد ضرب الدولار رقم قياسيا جديدا فوق 25250 ليرة أثناء كتابة هذه المقالة، والله وحده يعلم أين يستقر سعره، فكل المؤشرات تؤكد أن الذي يصعد في بلاد الأرز لا يعود. وعليه بلغة الأرقام التي لا تخطئ، من أين يأتي الدولار لكل من التجار وأصحاب محطات المحروقات وكل السلع في السوق البيضاء والسوداء، والتي استنزفت خلال عامين منصرمين 18 مليار دولار من الدعم الذي لم يحقق المرجو منه إلا في جيوب التجار الجشعين.
من لا يسمع صوت التاريخ لن يبني المستقبل، لذلك أعيد على حضرتكم رائعة من روائع ابن خلدون رائد علم الاجتماع العربي، فقد كتب في مقدمته الشهيرة في القرن الرابع عشر الميلادي مجموعة من الأفكار التي باتت عنوان المرحلة؛ ربما ليس في لبنان بل في أكثر من بلد في الوطن العربي.
لقد قال ابن خلدون بوضوح: عنـدمــا تـكثــر الجبــايـة تشرف الدولة على النهاية.. وعندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون.. والكتبة والقوّالون.. والمغنون النشاز والشعراء النظّامون.. والمتصعلكون وضاربو المندل.. وقارعو الطبول والمتفيهقون (أدعياء المعرفة).. وقارئو الكفّ والطالع والنازل.. والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون، ومعهم بالتصرف الخبراء والاقتصاديون والمتفلسفون على وجع الناس الذي بات يبكيك يوميا وأنت عاجز عن فعل أي شيء. لقد أضاف صاحب المقدمة التاريخية في تلك اللحظات تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط.. يضيع التقدير ويسوء التدبير.. وتختلط المعاني والكلام.. ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف.. وتظهر العجائب وتعم الإشاعة ويتحول الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق.. ويعلو صوت الباطل.. ويخفق صوت الحق.. وتظهر على السطح وجوه مريبة.. وتختفي وجوه مؤنسة.
أما أخطر ما ورد في النص، فقوله: عندها تشح الأحلام ويموت الأمل.. وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه.. ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقا.. والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء.. والمزايدات على الانتماء.. ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة.. وتسري الشائعات عن هروب كبير.. وتحاك الدسائس والمؤامرات.. وتكثر النصائح من القاصي والداني وتطرح المبادرات من القريب والبعيد.. ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته.. ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار.. ويتحول الوضع إلى مشروعات مهاجرين ويتحول الوطن إلى محطة سفر.. والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب.. والبيوت إلى ذكريات والذكريات إلى حكايات. (انتهى الاقتباس من مقدمة ابن خلدون).
إن واقعنا الحالي وربما الآتي عبر حالة العجز الحكومي والقضائي والاقتصادي والمالي والنقدي لا يشي إلا بما قال ابن خلدون، فهل من يتعظ قبل فوات الأوان ووصول لبنان إلى خبر كان؟