لم تكن فكرة تأميم المجال الديني بعيدة عن الذهن السياسي للنظام السوري منذ وصول حافظ الأسد إلى الحكم، بل كانت إحدى الاستراتيجيات الداخلية الكبرى له.
بيد أن شروط تثبيت حكم الأسد الأب ـ أقلية طائفية ـ يستلزم التحالف مع المرجعية الدينية السنية المعتدلة، بحيث ينشأ عقد اجتماعي ـ سياسي مضمر مفاده تقوية النظام للإسلام السني المعتدل في الساحة الاجتماعية وفتح أبواب السلطة له، مقابل حصول الأسد على دعم قوى الإسلام السني له.
تضمن هذا العقد أيضا مسألة في غاية الأهمية، وهي اعتماد المنهج السني في التعليم الأساسي والجامعي، بحيث لا وجود لهوية علوية أو درزية أو إسماعيلية منفصلة في مناهج التعليم التي تعتمد الإسلام السني، وهكذا أجبر العلويين على التوافق مع الفكرة الإسلامية السنية، وبدلا من تحويل السنة إلى ليبراليين جيدين، تحول العلويون إلى سنة جيدين يقول جوشوا لانديس.
نجحت هذه المعادلة أيّما نجاح، حتى في بداية الثمانينيات مع أحداث حماة، وتوطدت العلاقة بين الطرفين إلى أن بدأت تميل تدريجيا نحو النظام منذ منتصف الثمانينيات، ليتحول منصب الإفتاء ووزارة الأوقاف إلى أدوات مباشرة وطيعة بيد النظام.
ومع انتشار التدين في العالم الإسلامي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، فقد بدأ النظام يوسع دائرة الحركة لبعض الظواهر الدينية الآتية من قواعد اجتماعية داعمة له، مثل القبيسيات في دمشق.
ثورة 2011
مع انطلاق الثورة السورية ووقوف بعض المشايخ ورجال الدين إلى جانبها، سارع النظام إلى تركيز دعمه وتحالفه مع شخصيات دينية سنية مغمورة، لكنه أدرك مع تزايد قوة الثورة وحاملها السني، أنه لا بد من اعتماد استراتيجية بعيدة المدى لإضعاف السنة في سوريا.
بدأ النظام بتنفيذ هذه الاستراتيجية في وقت مبكر من اندلاع الثورة، فقد صدر وزير الأوقاف منتصف عام 2011 قرارا اعتبر فيه عشر مرجعيات شيعية مرجعيات شيعية رسمية في سوريا.
مثلت هذه الخطوة رسالة ليس للطائفة الشيعية قليلة العدد في سوريا فحسب، بل مثلت أيضا رسالة للشيعة في العالمين العربي والإسلامي، بأن البلاد أصبحت ساحة مفتوحة للتشيع بشكل رسمي.
ومنذ ذلك الوقت لم تول إيران جهدا في توسيع عمليات التشييع في عموم البلاد، مستغلة الواقع السوري الجديد لإدخال الفئات المنهكة في المذهب الشيعي الاثني عشري تحت علم النظام وبدعم منه.
استمر هذا الوضع حتى عام 2018، عندما أمر الأسد بتشكيل "المجلس العلمي الفقهي" بهدف إعداد البحوث العلمية الفقهية، ومناقشة الاجتهادات التي تتعلق بالقضايا الدينية المعاصرة، وتحديد المراجع والمؤلفات والتيارات والتوجهات التي تحمل الأفكار التكفيرية والمتطرفة، ومتابعة ما يصدر من فتاوى وأحكام شرعية ومدى تأثيرها على حياة الناس، وترجيح بعض الأحكام الاجتهادية على بعضها الآخر.
النظام يسعى إلى تشكيل منظومة معرفية دينية خالية من التأثير السني، عبر إدخال كافة الطوائف والأديان في صناعة الخطاب الرسمي الديني، وفي إصدار فتاوى تعكس أيديولوجياتهم الدينية، خصوصا المذهب الشيعي الجعفري الذي نال حصة كبيرة لا تتطابق مع التعداد السكاني للشيعة في البلاد.
في عام 2011 كان الأمر مجرد اعتراف رسمي من النظام بالطوائف الشيعية كمرجعيات دينية، لكن في عام 2018، جرى إدخال هذه الطوائف في السلك المؤسساتي الديني مع أديان ومذاهب أخرى، لتصبح متساوية من حيث الشرعية مع المذهب السني الذي يشكل الأكثرية العددية تاريخيا ويشكل الهوية الدينية في البلاد.
لكن على المستوى العملي سيصبح السنة أقلية في التمثيل والمرجعية، على اعتبار أن المجلس مكون من كل الطوائف والمذاهب (يضم خمسة وعشرين عالما من كبار العلماء في سوريا ممثلين عن المذاهب كافة، يضاف إليهم ممثلون عن الطوائف المسيحية كافة)، وبذلك يصبح ممثلو الطوائف والمذاهب أكثر عددا من التمثيل السني، في حين أن عدد السكان السنة في البلاد يصل إلى نحو ثمانين بالمئة من إجمالي عدد السكان.
هنا جرى تحول في مفهوم الأكثرية والأقلية، فلم تعد الأكثرية منوطة بالكثرة العددية، ولا الأقلية بالقلة العددية، بل أصبح مفهوم الأكثرية والأقلية مرتبطا بالقوة والتأثير.
منصب الإفتاء
شكل إلغاء منصب الإفتاء في سوريا تطورا نوعيا اعتبر الأكثر خطورة منذ اندلاع الثورة، فقد نقل النظام الحرب بينه وبين السنة إلى مستوى الهوية الدينية في خطوة لم يكن ليجرؤ عليها لولا حال الانهيار الذي يعيشه السنة في البلاد.
استغل النظام السوري الخطأ الكبير الذي وقع فيه مفتي البلاد أحمد بدر الدين حسون بتفسيره الآية "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ"، ليقرر إلغاء منصب المفتي، موحيا بذلك أن الأمر مجرد مسألة إجرائية تتعلق بتوزيع الصلاحيات الدينية، وبحوكمة مؤسساتية للمجال الديني، على اعتبار أن اتخاذ القرارات في المجال الديني أصبحت منوطة بـ "المجلس العلمي الفقهي"، متعدد الطوائف والأديان.
لكن المسألة ليست كذلك، ولا تتعلق بحوكمة المجال الديني، ولا بعملية نقل عملية الإفتاء من المجال الفردي إلى المجال الديني، وتأسيس ما يمكن تسميته ديمقراطية الإفتاء.
في الـ 20 من تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، حدد "المجلس العلمي الفقهي" في جريدة الثورة أهدافه: حرب الأنترنت، الوحدة والمقاومة، التطرف والوهابية والإخوان والتكفير.
يشير ذلك إلى أن النظام يسعى إلى تشكيل منظومة معرفية دينية خالية من التأثير السني، عبر إدخال كافة الطوائف والأديان في صناعة الخطاب الرسمي الديني، وفي إصدار فتاوى تعكس أيديولوجياتهم الدينية، خصوصا المذهب الشيعي الجعفري الذي نال حصة كبيرة لا تتطابق مع التعداد السكاني للشيعة في البلاد.
وبهذا المعنى، جاء إلغاء منصب الإفتاء، في إطار إزالة الرمزية السنية من الوعي الجمعي، وتحويل السنة إلى مجرد طائفة كباقي الطوائف ضمن منظومة استبداد سياسي وأمني وعسكري وثقافي.
ولو جاءت هذه الخطوة ضمن سياق الحياد المؤسساتي للدولة تجاه المجال الديني، لكنا أمام عملية علمنة، لكن ما يجري هو سطوة سياسية على اتجاه ديني بعينه بغية إضعافه وتذويبه.
* كاتب وإعلامي سوري
معبر "الشارقة-مرسين".. انعطافة استراتيجية إماراتية
هل يطمع أحد بتحصيل فوائد اقتصادية من سوريا؟
قوات "قسد" الانفصالية بين الحسم التركي والتذبذب الروسي