قضايا وآراء

نَظرةٌ إلى.. خطابٍ ثَقافي نَحتاجُه..

1300x600

إذا كانت الثقافة في المحصِّلة وعياً معرفياً ناضجاً يشكل حاملاً حضارياً، على أرضية من وضوح الهوية والانتماء والأصالة، وفق معيارية خُلقية عقائدية إنسانية، فإن أداءها الناجز النافع المنقذ لا بد أن يتجلى في سلوك وفعل وإنجازات تعبر عن ذلك بما يتجاوز التخلف والتعصب ويرتاد للمستقبل بروح العصر. 

ولا يتم ذلك إلا بالإنسان بوصفه هدفاً وغاية ووسيلة. والخطاب الثقافي، بالمفهوم الشامل للثقافة " الفكر والأدب والفن والتراث والموروث..إلخ.."، قادر على التأثير والتغيير في آن، وعلى تعزيز الثقة والإرادة الحرة، وعلى مجاوزة الصعوبات والتصدي للتحديات، كما أنه قادر على استنبات أجنحة في الأرواح المُثقلة بأحمالها، تمكّنها من ارتياد عالم الكشف والابتكار والاختراع والإبداع، بثقةٍ واقتدار وأمل، وعلى ولوج عوالم الممكن باندفاع واقعي، والاستثمار في الحلم والأمل بوصفه أحد المداخل المشروعة لتغيير الواقع المُعترَض عليه والوصول إلى واقع أفضل ومستقبل منشود.

إن خطابنا الثقافي الراهن فيه الكثير مما يعدّ إعادة إنتاج للمنتَج الثقافي السابق ـ عربياً كان ذلك المنتَج أم غير عربي ـ بأسلوب قد لا يكون فيه من الجديد والتجديد ومسؤولية المنتمي لوطن وأمة وعقيدة ما يسوِّغ بذل الجهد فيه. وفي خطابنا الثقافي تضاد يضعف المحصلة النهائية أو يلغيها، وفيه من الانفعالية والشعاراتية والعصبية ـ العُصابية والعاطفية ما قد يسدل أمام كاتبه ومتلقيه غلالة قاتمة أو ضبابية تشوه الرؤية أو تحرّفها، ويُغشِّي المنطق بما لا يتلاءم مع الوضوح العقلاني المنهجي الذي ينبغي أن يؤسَّس له ويتبع، ومع الواقعية والموضوعية التي ينبغي السعي إليها.

"وانكفاء هذا الخطاب في حضن القديم وانزواؤه أحياناً في ركن من أركانه بتقديس ظاهر يضفي قداسة على ما ليس مقدساً"، وتعلُّق خطابنا بخطاب آخرين وثقافتهم ومعتقدهم بنوع من التبعية تجعله يعاني من الانبهار وينظر إلى المتبوع بأكثر من الرضا ـ وعين الرضا عن كل عيب كليلة ـ ويتلقى ما يتلقاه منه بحماسة تغيّب العقل النقدي، والتمحيص الدقيق، وملكة الحكم، وخصوصية التذوق السليم، وتجعله مُجْهَضاً أو شبه مُجْهَض من حيث الغايات والنتائج.. وتحرمنا من تلق واعٍ، ومن استقلالية وموقف نقديّ هما أحوج ما يحتاج إليهما الخطاب المؤثر والمتلقي الواثق ليكوّنا وعياً بالذات وبالآخر، وليخوضا مثاقفة بناءة، وتفاعلا إيجابياً مع النَّسغ القادم عبر الثقافة والتاريخ والحضارة بحيوية وفاعلية وغائية.

وبُعد خطابنا أو ابتعاده عن المعطى العلمي والعملي، وعن حركة تدفق المعلومات وتسارع تقدم علوم العصر وتقنياته، يجعله مرشحاً للهَجر ممن يتواصلون مع معطيات العصر بأدواته ووسائله وأساليبه، أو مؤسساً للخذلان والتخلف والتقوقع إذا ما أخذت به فئات وأجيال لا يصلها نور العصر عبر ذلك الخطاب. وتأكل جسد خطابنا وفاعليته في أحيان كثيرة غيبةُ الموضوعية أو تغييبها أو التنكر لها بمسوِّغات أو من دون مسوِّغات، ويكاد الذاتي ـ الأناني ـ التعصبي في أشكال الخطاب وألوانه وأجناسه وأصنافه يلف في عباءته الموضوعيَّ ويخفيه ويضل الطريق إلى الهدف والمُستَهدَف بالخطاب.. ومن ثم لا يساهم في أن تقوم الثقافة بتقديم تشخيص، ورؤية، ومواقف، وحلول، على أسس منهجية سليمة تؤهل لتقدم عام واستنهاض فنهضة.

وكل ما سبق وأشرت إليه مما يعتوِر خطابنا الثقافي، إضافة إلى تسييس مدروس فتاك، ومَلَقٍ سياسي رخيص ضار، وغلوٍّ ذي شُعَب وتشعبات في التوجهات.. يشكِّل مُعوّقات ومُثقِلات ومُمْرِضات ومُجْهِضات لذلك الخطاب، تجعله منقوص التأثير والفعالية والنفع والانتفاع به. 

وهذا يلقي على أهل الخطاب الثقافي العربي قبل سواهم، مسؤولية كبيرة لا يستطيعون مواجهتها من دون إقرار بوجود عيوب في الخطاب وسعي لتدارك تلك العيوب. وهي عيوب في الأداء والهدف والتلقي الواعي الفاعل الناضج في النهاية.. ومدخلنا إلى ذلك، بعد الاقتناع بضرورته وأهميته، وقفة جريئة مع الذات ومراجعة دقيقة لها ولما في خطابنا من تناحرية وعصبوية وتبعية واجترار، وانجرار وارء ما لا ينفع ولا يبني، من معطيات يراها العقل النقديُّ السليم عيباً فيه و حجباً له عن الواقع والعصر وعن رؤية دروب التقدم والسير فيها، وضعفاً أو انعدام قدرة على التأثير في مجريات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لإحداث التغيير المطلوب، بعلمية وقدرة استشرافية ومستقبلية.. وقفة تجعل المتلقي العربي على درجة من التواصل والتفاعل البنائين مع المعرفة والعلم والعصر، وتعزز ثقته بنفسه وبالخطاب الثقافي المعبر عن الواقع الذي يعيشه والتطلع الذي يرنوا إليه. 

إن خطاباً لا يمتح من واقع الناس، ولا يعبر عنهم، ولا يرتاد لهم، ولا يستخدم المعرفة والعلم وأدوات العصر في معالجة أمورهم، ولا يغني وعيهم بذواتهم، ولا يساهم في تعزيز العدل والحرية والأمن من جوع وخوف، ولا يدفع الإنسان إلى الثقة بقدرته على الدفاع عن نفسه وووطنه وأمته وعقيدته وهويته بوجه الاحتلال والاستعمار والاستلاب والظلم والاستبداد والقهر، ولا يمنح الإنسان القدرة على التفاؤل والأمل.. هو خطاب لا ينقذ بل يحتاج إلى إنقاذ، خطاب قاصرٌ مسكون بالشعاراتية والإدعاء والانتهازية وتورّم الأنا، مريض لا يصنع الصحة ويحتاج إلى مِصح، مشوب بانفعال سلبي وفتعال منفعي، مصاب بالغلو والفتنوية والشعبوية الفاسدة، يُراد له أن يثير زوابع حماسية تصنع غوغائية.. 


إنه خطاب لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يسد الحاجة المعرفية والروحية والمادية لأناس عصره في واقعهم وبيئتهم وتطلعاتهم، ولا يؤسس لتحرير العقل والإرادة وتأصيل المنطق وإنضاج الرؤية وتوسيع الأفق، وتعميق الانتماء، والعمل بمسؤولية ووعي للخروج بالناس من مآزق الضيق ودائر الأزمات.

 

رباط العصر الذي نرهِب به عدوّ الله وعدونا، هو رباط إيمان وعلم ومعرفة وقوة منقذة، مُتَرْجَم إلى مادة مصنّعة وإنجازات متقدمة شاملة لكل مجال من مجالات الحياة..

 



إننا إذا أدركنا أهمية الخطاب الثقافي الواعي المنتمي الناجز الشافي وأهميته وضرورته لنا الآن أكثر من أي وقت مضى، ووظفناه التوظيف الأمثل بتظافر الجهود، وأحسنّا تشخيص العلة ومعالجتها.. نضع أنفسنا وإنساننا وأمتنا في الطريق التي توصلنا إلى امتلاك العلم والتقانة والمعلوماتية على أرضية الاقتدار والمهنية العالية والإيمان والأصالة، وهو ما يقودنا إلى امتلاك قوة، بالمعنى الشامل للقوة: "علمية وعملية واقتصادية وعسكرية إلخ.."، تستطيع أن تحمينا وتحررنا وتنقذنا من كل ما يؤرقنا وينهكنا ويهلكنا، وتجعل المتطاولين على الأمة والتاريخ والثقافة والحضارة العربية والدين/الإسلام يحسبون ألف حساب قبل أن يخطوا خطوة في طريق العنجهية والغي والعدوان والتآمر والتجارة بالأوطان والإنسان والقيم.. 

فرباط العصر الذي نرهِب به عدوّ الله وعدونا، هو رباط إيمان وعلم ومعرفة وقوة منقذة، مُتَرْجَم إلى مادة مصنّعة وإنجازات متقدمة شاملة لكل مجال من مجالات الحياة.. (يَٰا مَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٖ) (33) ـ سورة الرحمن.

وتقود إلى ذلك الرباط وتلك الحالة استقلالية قرار سياسي تصنعها إرادة شعبية واعية، وإرادة قوية قادرة على تحقيق ما تخطط لتحقيقه، واقتصاد يحمل عبء التنمية وتطلعات الإرادة والبقاء، وإدارة قادرة على التنظيم والتوثيق وتوظيف الأموال والثروات والطاقات باقتدار وتدبير وصلاح وعزم وحزم. 

ولا يكون ذلك إلا بتحرير الإنسان من ربقة العبودية لإنسان، واتباع سياسة العدل والمساواة، ووضع الكفاءات في مواقعها، وتوطين العلم والتقانة، وتشجيع الأبحاث والتجارب، وفتح آفاق واسعة أمام الإبداع والاختراع وتقديم كل ما يلزم لذلك، وتفعيل الحرية المسؤولة، واحترام المواطِن وحقوق المواطَنة وحقوق الإنسان وإشعاره بالكرامة وبمعاني الكرامة والمواطَنة وواجباتهما وحقوقهما، ومشاركته في القرار، وإشاعة الأمن في نفس كل مواطن حيث يأمن في وبيته وسربه ومحيطه.. فبالإنسان ننمي ونبني ونحرر ونتقدم، وفي البشر ينبغي أن نستثمر.. والإنسان يساهم في تكوينه وتنويره وتحريره وسعادته: نهجٌ سياسي يحترمه ويقدره ويحميه وينمي قدراته، ومنهج تربوي سليم، وخطاب ثقافي واعٍ منتمٍ أصيل سليم منفتح على الآخر الإنسان بإنسانية متبادَلة.. 

فهل نلتفت إلى ذلك، ونولي خطابنا الثقافي خاصة الأهمية التي تليق به وتجعله منقذاً مُحرّراً رائداً يساهم في تكويننا وتحريرنا ونهضتنا؟! 

نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى ما فيه خيرنا وخير غيرنا في الدنيا والآخرة.. إنه سميع مجيب.


الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع