الكتاب: طه حسين: تجديد ذكرى عميد الأدب العربي
تأليف: إيهاب الملاح
الناشر: الرواق للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، أبريل 2021
لماذا يكره تيار الإسلام السياسي طه حسين؟
تحت هذا العنوان للفصل، بادر المؤلف إيهاب الملاح بالقول: "بلا شك يمثل الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي عقدة تاريخية ومعرفية مزمنة للمنتمين إلى تيار الإسلام السياسي، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، وما تفرع عنها من جماعات التشدد والتطرف والإرهاب، يكرهونه كراهية التحريم، وركزوا (ويركزون) عليه هجومهم.." (ص 223).
وفي خصوص هذه المسألة ـ والهجمة الظالمة المستمرة الممنهجة، والمتعمد استمرارها ضد الرجل، والمقصود بطبيعة الحال مشروعه الثقافي التنويري وما يمثله ـ يمكننا أن نختار بعض "خلاصات" وفقرات معبرة كاشفة بهذا القسم من الكتاب:
"لقد كان حقد الجماعات الظلامية التكفيرية المتعصبة على طه حسين نابعاً من أفكاره الإنسانية النبيلة، وفلسفته العقلية المنفتحة، ورؤيته الحضارية الرحبة والمشرقة للتراث العربي الإسلامي التي لا تنال إعجابها ولا تروق لها، ولأنه كان نصيراً مثابراً وداعياً إلى التمازج والتلاقح الثقافي بين الحضارات العالمية كلها، ومدافعاً عن حرية التعبير والتفكير التجديدي والديمقراطي، واحترام كرامة الإنسان، ومعتقده الديني والمذهبي وحريته الشخصية، الأمر الذي يتناقض مع الطرح الديني المتعصب والمنغلق، فكان لزاماً أن يلقى جزاءه الرهيب على أيدي هؤلاء طيلة حياته وحتى بعد مماته!" (ص 227).
"كانت المشكلة الكبرى أمام جحافل المتأسلمين، وأتباع تيار الإسلام السياسي، معرفة طه حسين الموسوعية المبهرة، وقدراته العقلية والثقافية التي لا تبارى، لقد كانوا يتصيدون أخطاء الإملاء والنحو في كتابات بعض الليبراليين واليساريين، فصدمهم طه حسين بتبحره وتمكنه من العربية وأسرارها وإجادته المذهلة لها، وحافظته التي أعجزت كبراءهم.." (ص 231).
"كانوا يحتكرون المعرفة الدينية، ويقولون: نحن أهل التفسير والحديث والفقه والسيرة، فجاء من برع في كتابة السيرة والتراجم والإسلاميات والتاريخ الإسلامي بنظر منهجي ورؤى نقدية وكتابة معاصرة تجمع بين الدقة والإبانة والجمال، يحقق ويدرس ويخرج نصوصاً لا يعرفونها ولم يسمعوا بها ولم يقرأوها، وأثبت لهم أن القراءة الجادة الرصينة لا تكون إلا مقرونة بالفهم والتحليل والربط والمقارنة بغيرها من النصوص.. أذهلتهم قدراته الاستقصائية وشمول الرؤية ودقة العبارة، كانوا يقولون: نحن أدرى الناس بالقرآن، فجاء من جابههم بأنهم لا يعرفون شيئاً عن القرآن ولا جماله ولا روعة صوره وألفاظه، وبهرهم بتحليلاته وكشوفاته الجمالية.." (ص 233).
"وكانوا طبعاً يحتكرون المعرفة التاريخية، ويعتبرونها شأناً دينياً خالصاً، ويضفون عليها قداسة غير حقيقية، ويحكمون حولها حصاراً حديدياً رافعين شعار "ممنوع الاقتراب أو التفكير أو التحليل أو النقد!"، وإذا بهم يفاجأون بطه حسين يخرج عليهم بسلسلة كتبه الإسلامية الرائعة "الشيخان"، و"مرآة الإسلام"، و"الوعد الحق"، ويتوج هذه السلسلة من الأعمال في الأربعينيات بكتابه المرجعي الرصين "الفتنة الكبرى"... وقد كانت مرحلة الفتنة الكبرى في الوعي الإسلامي المعاصر نموذجاً لما يسميه (هيجل) "الوعي الشقي" (وكما يلاحظ د. أنور مغيث).. وهو الوعي الذي يريد أن يقنع نفسه بشيء يدرك أنه ليس حقيقياً. هكذا كان علينا أن نرى كل المتخاصمين على حق، وأن نغفل رؤية الصراعات والسياسة، ولكن طه حسين يبادر بأن يدرس، من خلال منظور علمي، هذه الفترة التي ظلت محاطة بسحابات كثيفة من التبجيل والتقديس تجعلنا نعمى عن الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء الظواهر التاريخية. وها هو طه حسين يفتح لنا باباً جديداً (ويكسر الحصار المطبق الذي فرضه الجاهلون وضيقو الأفق والجامدون المنغلقون على هذا التاريخ وهذا التراث)، ويجعلنا ننظر إلى تاريخنا البشري ليس على أنه فريد في نوعه واستثنائي، وإنما يخضع لكل القواعد التي تحكم تطور التاريخ البشري بوجه عام" (ص 234).
"دأب د.محمد عمارة على اتخاذ منحى مغاير من أعلام التنوير والاستنارة من التيار الليبرالي أو غير المنضوي عموماً تحت راية الإسلام السياسي "الصحوي"، وقرر خلافاً لما كان عليه أقطاب تيار الإسلام السياسي كله وعلى رأسهم أنور الجندي من مهاجمة وتشويه بل محاولة هدم كل من رأوه يكتب حرفاً من منظور نقدي عقلاني... أقول: قرر عمارة أن يلعب بطريقة عكسية، وأن يختطف منجز هؤلاء الكبار لحساب التيار الإسلامي.." (ص 235).
وسأضرب مثالاً حديثاً منذ سنوات قليلة، حينما كتب فهمي هويدي مقالاً عنوانه "طه حسين أواباً" بجريدة (الشروق).. يدعي فيه ـ اعتماداً على ما كتبه محمد عمارة ـ أن طه حسين قد تراجع عن أفكاره وآرائه وتاب وأناب إلى الله، وعاد إلى حظيرة الإسلام راكعاً نادماً باكياً، كما لو كان طه حسين "كافراً" أو "زنديقاً" بالفعل! وهو عند غالبية المنتمين والمؤيدين لتيارات الإسلام السياسي كذلك فعلاً!... أقول: إن ما فعله (هويدي)، ومن قبله (عمارة)، يندرج تحت ما أسماه المرحوم نصر أبو زيد "تلويث خطاب النهضة" (في كتابه "الخطاب والتأويل").. (ص ٢٣٧).
وأخيراً ... ماذا يبقى من طه حسين؟:
يختم المؤلف فصول كتابه وتحليلاته تحت هذا العنوان. ويشير (ص ٢٥١) إلى أن المفكر د. غالي شكري توجه بالسؤال في كتاب له بالعنوان ذاته إلى طه حسين قبيل رحيله عام ١٩٧٣ (في حوار وداعي أخير)، حيث نطالع أن طه حسين أجابه "بصوت واهن":
"يخيل إلي أن ما كافحنا من أجله، هو نفسه ما زال يحتاج إلى كفاحكم وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم... إنني في آخر أيامي، أودعكم بكثير من الألم، وقليل من الأمل.. أين أبناء جيلي؟ لقد عشت لسوء الحظ بعدهم، ثق أن جميعهم ماتوا وفي قلوبهم حسرة" (من حوار غالي شكري مع طه حسين قبل وفاته.. في كتاب "ماذا يبقى من طه حسين؟" ـ الطبعة الأولى ١٩٧٤).
أيضا فقبل وفاته بقليل ـ كما يذكر المؤلف (ص ٢٥٠) ـ طرح السؤال على تلميذته الأثيرة والمقربة منه، سهير القلماوي، سألها محاورها مباشرة: ما الذي يبقى من طه حسين؟. فأجابته فوراً:
"يبقى منه الكثير والكثير، وأهم ما يبقى منه فضله على كل الأجيال، حينما جعل التعليم مجاناً، وأطلق شعاره: "التعليم حق للجميع، كالماء والهواء". ولما وافقوا على تطبيق شعاره تحت ضغط جهاده وكفاحه، قالوا له: من أين تأتي الفلوس لنشر مجانية التعليم؟ قال: أنا علي أن أنشر المبادئ والوعي، أما الفلوس فليست مشكلتي، وعليكم أن تدبروها، لأنني لست اقتصادياً... وقد استطاع طه حسين أن ينشئ ثلاث جامعات إلى جانب جامعة القاهرة، وسط عاصفة من الهجوم عليه، سموه وزير التيسير، وسموه ـ تهكماً ـ وزير الماء والهواء، ورغم ذلك ظل في عمله يفتتح الفصول، ويؤمن المعلمين ويزيد عددهم، ويفتتح الجامعات، ويربط ـ في وضوح ـ بين مطلب الحرية والديمقراطية من جهة، وبين التعليم من جهة أخرى، وما زالت كلماته ترن في آذاننا إلى اليوم، وما زلنا نرددها آملين أن يتحقق ما كانت تدعو إليه كاملاً، إنه يقول: يجب أن يتعلم الشعب إلى أقصى حدود التعليم، ففي ذلك وحده الوسيلة إلى أن يعرف الشعب مواضع الظلم، وإلى أن يحاسب الشعب الذين يظلمونه ويذلونه ويستأثرون بثمرات عمله" ـ (من حوار أجراه إبراهيم عبد العزيز مع د. سهير القلماوي، راجع: طه حسين وثائق مجهولة، منشورات "بتانة"، القاهرة، ٢٠١٩).
هنا يضيف الأستاذ إيهاب الملاح مؤلف هذا الكتاب المتميز النافع حقاً (ص ٢٥٠):
"سيكتب نصر أبوزيد، وهو واحد من أنبغ تلاميذ سهير القلماوي، في سيرته الذاتية المعنونة "صوت من المنفى ـ تأملات في الإسلام": "إن ناصر (يقصد جمال عبد الناصر) قد دشن نظاما اجتماعياً جديداً في البلاد، نظاماً أتاح التعليم للجميع. طه حسين كان يحمل نفس الفكر في بداية القرن، لقد آمن بأن التعليم لا بد أن يتاح للجميع كالماء والهواء. ولم أكن لأجرؤ على الحلم بالالتحاق بالجامعة، دون هذا التحول الاجتماعي، فمصاريفها كانت مرتفعة، وعلى الرغم من هذا أصبحت في النهاية منتقدا لنظام ناصر (بفضل ما تعلمته في الجامعة)... ". (نصر حامد أبو زيد: "صوت من المنفى ـ تأملات في الإسلام" ـ ترجمة نهى هندي، دار الكتب خان، الطبعة الأولى، القاهرة، ٢٠١٥).
إقرأ أيضا: رؤية جيل جديد لمشروع العميد طه حسين في كتاب (1من 2)
كريشان.. شهادات عن السياسة والإعلام والإسلام السياسي
لماذا تعثّرت ثورات الربيع العربي في الإنجاز الديمقراطي؟
لماذا يجب الوصول إلى تعريف متفق عليه للإرهاب؟ كتاب يجيب