كتاب عربي 21

هل أزمة تونس دستورية أم اجتماعية؟

1300x600
تبدو الأوضاع الاقتصادية والسياسية في تونس الانقلاب هشة؛ إلى درجة أنه لو نفخ عليها أحدهم لطارت كالهباء المنثور، لكن هذا الظاهر يخفي باطنا مختلفا.

يملك الانقلاب أسبابا كثيرة للبقاء؛ أهمها وأقواها تأثيرا حيرة الطبقة السياسية في ما يكون بعده. وإذا كان الانقلاب قد مر من الفجوة الاستئصالية المفتوحة بين مكونات هذه الطبقة، فإنه يستمر الآن بالخوف من تحمل كلفته الاقتصادية والاجتماعية اللاحقة. الجميع يتابع الخراب الذي يجري ويطرح السؤال: بماذا يمكن إصلاح ما فسد؟ هنا تطرح السيناريوهات الكثيرة والأسئلة التي لا تجد إجابات شافية أو محفزة للخروج النهائي ضد الانقلاب. أليس الإغراق في النقاش الدستوري والشرعية والمشروعية هو هروب منظم من مواجهة الأزمة الفعلية؟

العودة إلى الوضع الدستوري هي أيضا عودة الفاشية إلى البرلمان

"مواطنون ضد الانقلاب" هم التعبير الأكثر وضوحا وشجاعة ممن عارض الانقلاب في الشارع، وقد وضعوا خارطة طريق محورها استعادة الوضع الدستوري السابق (الشرعية) عبر فتح البرلمان، أي عودة السلطة التشريعية برئيس البرلمان نفسه (ولو لمدة زمنية تسمح له باستقالة قانونية حسب القانون الداخلي للمجلس)، ووضع قانون انتخابي جديد (طبقا لمشروع سبق تقديمه يقر العتبة الانتخابية ولم يمضه الرئيس الباجي ورفض قيس سعيد النظر فيه). في هذه الخطة التي تبدو متوافقة مع الدستور تعود الفاشية للبرلمان أيضا، كما يعود كل نواب الأحزاب التي ناصرت الانقلاب وطالبت بحل البرلمان ولم تتحرك في الشارع لاستعادته بعد أن يئست من الانقلاب (نواب الكتلة الديمقراطية). هذه الخطة تعني عودة الوضع الدستوري لما قبل 25 تموز/ يوليو كأن الانقلاب لم يقع، لكن دون حديث عن الوضع الاقتصادي.
يملك الانقلاب أسبابا كثيرة للبقاء؛ أهمها وأقواها تأثيرا حيرة الطبقة السياسية في ما يكون بعده. وإذا كان الانقلاب قد مر من الفجوة الاستئصالية المفتوحة بين مكونات هذه الطبقة، فإنه يستمر الآن بالخوف من تحمل كلفته الاقتصادية والاجتماعية اللاحقة

هذه العودة تبدو لنا غير منتجة لحل فعال ومقبول شعبيا للوضع البرلماني المخرب من الداخل بواسطة الفاشية والمتخفين وراءها (الكتلة الديمقراطية بالاسم الفاشية بالفعل). بل إن الإلحاح عليها دون بدائل اقتصادية يعني إكساب الانقلاب حجة إضافية على صواب ما فعل، ومن غير المجدي هنا الإلحاح على أن هناك تنسيقا مضمرا ومفضوحا بين المنقلب والفاشية مهّد للانقلاب، لقد صار هذا معطى تاريخيا ثابتا ولا يمكن جبره باستعادة الوضع السابق.

ونعتقد أن تحرك يومي 17 و18 كانون الأول/ ديسمبر 2021، والذي حاول تثبيت اعتصام دائم حتى سقوط الانقلاب لم يكن من القوة بحيث يثبت أقدامه طبقا لهذه الخطة، ولذلك خضع للتهديد وأجّل الحسم إلى تحرك لاحق (وهذه ليست مزايدة على من تكبد برد الشتاء التونسي تحت سماء مفتوحة على بعد أمتار من البحر). لكن نعتقد أن هناك حيرة تدور حول السؤال: هل سيفضي الوضع البرلماني السابق إذا تمت استعادته إلى حل حقيقي والفاشية تتربص بالبرلمان طبقا لخطتها الأولى التي دخلت من أجلها؟

لقد ألقيت جملة جديدة في ساحة التحرك (نسقط الانقلاب ثم نقاوم الفاشية)، وهذا وعي جديد بأن الحل الدستوري (الشرعية) لن يكون فعالا ما دام يسمح للفاشية بالعمل من داخل الوضع المستعاد. لكن من أين نبدأ دون أن تختلط الأولويات؟ شن معركة ضد الفاشية أولا ينقذ الانقلاب، وشن المعركة ضد الانقلاب أولا ينقذ الفاشية ويعيد لها دورها التخريبي.
من أين نبدأ دون أن تختلط الأولويات؟ شن معركة ضد الفاشية أولا ينقذ الانقلاب، وشن المعركة ضد الانقلاب أولا ينقذ الفاشية ويعيد لها دورها التخريبي

أجندة النهضة الخاصة من داخل المعارضة

سؤال كبير يتردد بشكل مضمر: ما فائدة حزب النهضة من إسقاط الانقلاب الآن؟ الوضع مكشوف لكل ذي بصيرة، فالحزب هو القوة السياسية الوحيدة التي تملك شارعا منظما يمكن تعبئته في أية لحظة رغم وجود مشاكل داخلية تجلت عبر استقالات متتالية لقيادات وازنة (علما أن القيادات المستقيلة تقف في قلب الشارع إلى جانب الحزب).

كما أن الجميع يعرف أن القيادات الظاهرة لمواطنين ضد الانقلاب هي قيادات، رغم صدقها وشجاعتها، لا تملك جمهورا كافيا يزن ضد الانقلاب، وصوتها الصريح ونضاليتها لا تبلغ مبلغ إسقاط الانقلاب دون جمهور منظم يقف خلفها ويحميها. لكن السؤال الذي شق الشارع يومي 17 و18: هل هناك إجماع حقيقي حول تحرك جذري وحاسم ينهي الوضع الاستثنائي؟

حزب النهضة أول من يعرف أن الساحة السياسية ما بعد الانقلاب لا تزال منقسمة حول دور الحزب ومكانته في المشهد السياسي، وقد جاءتها (الساحة) الأدلة تترادف من تحرك الحزيبات التي سارت مع الانقلاب بغاية استئصالية ثم ارتدت عنه، ولكنها رفضت تنسيق تحركها مع النهضة في الشارع، بما يعني أن "ما بعد الانقلاب" سيعيد إنتاج الحرب على الحزب من داخل البرلمان وخارجه، وهذا وضع مريح للانقلاب يسمح له بالبقاء والاطمئنان على مساره إلى حين. فما الجدوى إذن من إسقاطه؟ لماذا تحرك الشارع إذن يومي 17 و18 بتلك الطريقة المترددة أو غير الحازمة؟

إننا نقرأ مطاولة الحزب للانقلاب خاصة وللساحة السياسية عامة، في انتظار المزيد من غرق الانقلاب في أزمته الاقتصادية ومطاولة الساحة المعارضة، لتتيقن أنه لا قدرة لها دون النهضة، وأن مواقفها الاستئصالية تكشف ضعفها وهوانها على الانقلاب وعلى الشارع المتأزم. والجملة التي سمعت بوضوح رغم أنها لم تقل علنا: "لا قدرة لأحد دون النهضة، والانقلاب يأكل من أرصدة الجميع أكثر مما يأكل من أرصدة النهضة، فتعالوا لكلمة سواء نحكم بها معا بعد الانقلاب". لقد سمع الجميع هذه الجملة المضمرة، ولذلك يستمر الهروب دون أفق.
"ما بعد الانقلاب" سيعيد إنتاج الحرب على الحزب من داخل البرلمان وخارجه، وهذا وضع مريح للانقلاب يسمح له بالبقاء والاطمئنان على مساره إلى حين. فما الجدوى إذن من إسقاطه؟ لماذا تحرك الشارع إذن يومي 17 و18 بتلك الطريقة المترددة أو غير الحازمة؟

نعتقد جازمين أن النهضة مشغولة بما بعد الانقلاب لا بالانقلاب نفسه، ولذلك لا نأخذ بجدية حديث الحزب عن عودة البرلمان بدوره القديم وبشكله الذي تخترقه الفاشية. أما التحرك الآن فلمنع الانقلاب والمنقلب من نوم هادئ، إنه إزعاج تكتيكي يقسط جهده على مرحلة ستطول. لكن لنحذر هنا، إن انشغالات النهضة سياسية أولا، فهي هاربة مثل البقية من الغول الاقتصادي والاجتماعي الذي يتربص خلف النقاش السياسي.

أما الحزيبات التي كانت تستقطب جمهورا من لعن النهضة فلم تعد تجد جملا مفيدة، وهذه الحرفة لم تعد تدر أرصدة لا مالية ولا بشرية ولا حتى ظهورا إعلاميا للمغرمين بصورهم على الشاشات. لقد أفقدها الانقلاب كل دور وكل مكانة، وهذه أرصدة مضافة للنهضة كلما صبرت على الانقلاب استزادت منها. أما ترديدها لخطاب الدولة الاجتماعية وراء النقابة فيكشف جهلها بعمق الأزمة، ولذلك سينسفها في القريب.

إعادة توصيف الأزمة التونسية؟

الظاهر السياسي للأزمة عرَض لا جوهر، فالأزمة الحقيقية هي الأزمة الاجتماعية القادمة كتسونامي بلا رحمة. وواهم من يعتقد أن الوضع سيعود إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو، لقد غير الانقلاب المعطيات على الأرض، وأفقد الجميع مواقعهم ومرتكزات فعلهم بمقادير متقاربة. هذا لا يعني أنه ينجح في أكثر من إرباك الوضع العام، لكنه يعيش من هذا الوضع المرتبك.

وإذا كان هناك ثوريون حفظوا تلك الخريطة التقليدية للثورات التي تتحول فيها القوة الصلبة (الجيش والأمن) إلى جانب الشارع بتأثير الشارع المنتفض نفسه، فإننا نرى الوضع المرتبك يبقي القوة الصلبة إلى جانب الرئيس حتى الآن، وأي تراجع منها باسم حماية المسار الثوري (هذه جملة غير ذات معنى الآن وهنا) يعني تسليم البلد من جديد لنفس الحرب الاستئصالية التي مهدت للانقلاب، ولا نرى العقل العسكري/ النظامي يقبل بذلك.
ماذا ستقول المؤسسة العسكرية والأمنية للشارع إذا تحرك تحت تأثير الأزمة الاقتصادية؟ وبعيدا عن الطبقة السياسية المشغولة بالنقاش الدستوري، فالمعطى الثابت حتى الآن أن الانقلاب لا يجد حلولا للأزمة الاقتصادية والاجتماعية

النقاش الدستوري لم يكن هم الشارع منذ بداية الثورة، بل هو نقاشات النخبة المستريحة لوضعها الاجتماعي، حيث رواتب الدولة المحمية نقابيا. لكن ماذا ستقول المؤسسة العسكرية والأمنية للشارع إذا تحرك تحت تأثير الأزمة الاقتصادية؟ وبعيدا عن الطبقة السياسية المشغولة بالنقاش الدستوري، فالمعطى الثابت حتى الآن أن الانقلاب لا يجد حلولا للأزمة الاقتصادية والاجتماعية، بل إنه يغرق وتبدو الخيارات الليبرالية (المملاة) هي أفقه الوحيد. وقد ظهر الرعب في خطاب النقابة لقد وصلتها رسالة واضحة من حكومة ضعيفة لكن محمية دوليا (عبر الترحيب الدولي بإجراءات الرئيس الأخيرة).

المشهد يتغير والفاعلون يفقدون أدوارهم المعتادة، لقد حول الانقلاب النقابة إلى هدف ولن يسمح لها بوضع العائق الأبدي لإصلاح ليبرالي جذري.

لقد قطعت النقابة التي غرقت في المعركة السياسية ومارست الاستئصال بعناد منذ انطلاق الثورة؛ على نفسها طريق العودة إلى الشارع الاجتماعي، وستتحمل كلفة موقفها مع الانقلاب عندما يبدأ الانقلاب في فرض قانون مالية بمرسوم لا يمكنها الاعتراض عليه (وقد انطلقت التسريبات حول الزيادات الضريبية).

في الأفق أزمة اجتماعية ماحقة (مختلفة عن الأزمة السياسية التي لا تزال تستغرق الجميع)، ولا قدرة للانقلاب على ردعها ولا قدرة للنقابة على تأطيرها ولا قدرة للأحزاب على ركوبها. ولا قدرة للأصدقاء في الخارج على رشوتها بالمساعدات الظرفية. لقد كانت السنوات الإحدى عشر الماضية هي تمويه الأزمة الحقيقية التي خلقت الثورة، وقد أنهى الانقلاب دون وعي منه عملية التمويه. والبلد يتقدم نحو تغيير جذري بثمن لا يمكن تخيله (بعض الثمن هو تحويل مشروع الرئيس بتغيير النظام السياسي إلى مسخرة).

من قال إن الأزمة سيئة؟ إنها حتى الآن تصحح مسارا خاطئا، لقد قامت الثورة ضد منوال تنمية فاشل، فإذا الفقراء يخوضون في نقاش دستوري في الوقت الذي كانوا محتاجين فيه إلى تغيير وضعهم الاقتصادي. دولة الرشوة الاجتماعية تصل مداها على يد انقلاب بلا خطة.

لقد أجل التونسيون دفع ثمن التغيير الاقتصادي الذي وضعه الفقراء على الطاولة، ووجدوا متعة في خوض النقاشات المرفهة للنخبة وهم الآن أمام حقيقة فاجعة. البلد يفشل، والنقاش الدستوري بين الرئيس وخصومه سيقضي عليهما، وليجزي الله الشدائد كل خير.