للوهلة الأولى يبدو المشهد السوداني بملامح سياسية عادية ومكررة، حيث تصطرع القوى السياسية التقليدية في ما بينها دون النظر بعمق إلى أن للصراع السياسي الذي خلفته الثورة الشبابية التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير، والتي انطلقت في كانون الأول (ديسمبر) 2018م، يحمل بعدا ثقافيا وفكريا واجتماعيا يتجلى كلما خرج الثوار إلى الشوارع منددين بذات القوى السياسية قبل أن يلعنوا النظام القديم..
يبدو الأمر وكأنما هو في جوهره صراع بين جيل جديد مشرئب للحداثة ومعاصرة تمثلاتها وجيل قديم عاجز عن تلبية طموحات الجديد وما يزال ينظر إلى السياسة بأدوات قديمة في مقدمتها آلية وصاية "الأخ الأكبر"، وربما يلخص ذلك ما بات يسمى بالصراع بين النادي الجديد ونادي السودان القديم.
ربما مثلت تداعيات الانقلاب العسكري الذي قاده القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان على الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، مؤشرا أكثر بروزا لشكل الصراع السياسي الفكري القائم في السودان حاليا، فقد رفض الثوار الشباب الانقلاب وما ترتب عنه بما في ذلك استمرار أيقونة ثورتهم الدكتور عبد الله حمدوك في منصب رئاسة الوزراء، بل إن ذات الثوار خرجوا إلى الشارع منددين بالقوى السياسية التي تحالفت مع العسكر قبل وبعد الإجراءات التي اتخذها قائد الجيش في موقف جديد لم تشهده السياسة في البلاد رغم إرث الثورات المتراكم في تاريخ السودان القديم والحديث.
الأحزاب مطالبة أثناء الفعل الثوري، وكجزء من العملية النضالية اليومية، مطلوب منها أن تحدث ثورة داخلها، تراجع كل طرقها وأساليبها القديمة من أجل خلق واقع جديد داخلها، حتى ترتقي لمستوى الفعل الثوري.
في هذه الحالة الملتبسة، يعتقد المتشائمون بأن الأفق قد انسد، وأن البلاد تسير في طريق المجهول في ظل غياب للقيادة بمفهومها التقليدي، وعجز التنظيمات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في استيعاب طموحات الشباب الثائر وقيادته، بينما ينظر المتفائلون إلى الوضع بأنها ولادة متعسرة لجيل جديد بمفاهيم جديدة ورؤى ترفض القديم وترى في الثورة فرصة للقطيعة، وأن لهؤلاء طموحا يتخطى الأيدولوجيات وينخرط في العولمة بخاصة وأن غالبيتهم من الشباب المطلع على العالم وتطوراته الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي خضم ذلك يلحظ المراقب في هذا التيار الثوري الجارف قومية وانتماء للوطن بمعناه الجغرافي وخصوصياته الثقافية والروحية، ويأمل الكثيرون أن يتمخض هذا التيار تنظيما سياسيا يحمل استراتيجية واضحة وقابلة للتحقق في رهانات المستقبل.
يلاحظ الدكتور حسن محمد صالح أستاذ الاعلام في الجامعات السودانية غياب صور صناع الاستقلال في تظاهرات 19 كانون الأول (ديسمبر) 2021، وهو التاريخ الذي صادف إعلان استقلال البلاد من المستعمر الإنجليزي العام 1956م، وهو ما يعده صالح فجوة معرفية لدى جيل ثقافته مستمدة من وسائل التواصل الاجتماعي ولم يدرك أو يقدر ما فعله القادة السياسيون التاريخيون مثل الأزهري والمحجوب ولا مؤتمر الخريجين ولا الاتحاديون ولا الاستقلاليون ولا وردي ولا كابلي ولا العثمانيين الشفيع وحسين وحسن عطية ولا المناضل علي عبد اللطيف ولا عبد الفضيل الماظ ولا طلاب كلية غردون والمعهد العلمي ولا عمال السودان ولا المزارعون ولا الادارة الاهلية ولا الطرق الصوفية ولا المرأة السودانية.
ويشير صالح في حديث مع لـ "عربي21" إلى وجود أزمة تواصل أجيال معرفية، لكنه لا ينكر حق الأجيال الجديدة في المطالبة بالحقوق المشروعة وفي أي زمان ومكان، ولكن وضع الأشياء في غير موضعها كوضع السيف في موضع الندي مفسدة وأي مفسدة، على حد قوله.
لكن ميسون عبد الحميد الباحثة الشابة في مجال الفلكلور والمسرح تقول لـ "عربي21": إن هذا الصراع موجود وأزلي لكن يلاحظ ظهوره علي السطح بشكل واضح متمثلا أولا في رفض هذا الجيل لشكل التنظيمات الحزبية بشكلها القديم عبر البناء الهرمي المعروف الذي يكرس لفكرة الزعيم أو القائد الواحد وما كفر به هذا الجيل الذي صنع الثورة هو جيل التشبيك والـnetwork بامتياز.. فهو لا يؤمن بفكرة القائد الواحد ويؤمن بتعدد الرؤى.. وهذا ما تفقده الأحزاب التقليدية وهم جيل أشبه بعنكبوت البحر يصعب السيطرة علية حتى وإن فقد عدد من أعضائه.. تلاحظه ينبت من اتجاه آخر ويواصل المسير ولا يلتفت إلى الوراء في الغالب، لذا يلاحظ أن أول شعارات الثورة كانت ملخصة في كلمة "حنبنيهو" ويقصدون بوضوح فكرة البناء من جديد.
بالنسبة للباحث والمنظر السياسي المعروف الدكتور النور حمد فإن هذه الثورة، تبشر بحقبةٍ جديدة كليًا. فهي ليست من صنع أي من القوى السياسية التي نعرفها، فقد انطلقت من مجاميع الشباب، مختلفي المشارب، وهذا هو جوهر تميزها. كما أن الفتيات اشتركن في هذه الثورة، بصورة لافتة للغاية. فهي ثورة سياسية اجتماعية. وهي ثورة لاستعادة الهوية السودانية المستبدلة قسرا. بين هؤلاء الشباب المنخرطين في هذه الثورة، حزبيون، وبينهم من هم غير حزبيين. وحتى الحزبيين منهم، فإنهم تجاوزوا رؤى وتطلعات أحزابهم. لكن، ما من شك في أن هذه الثورة لا تزال في بداياتها الأولى.
هذه الثورة، تبشر بحقبةٍ جديدة كليًا. فهي ليست من صنع أي من القوى السياسية التي نعرفها، فقد انطلقت من مجاميع الشباب، مختلفي المشارب، وهذا هو جوهر تميزها. كما أن الفتيات اشتركن في هذه الثورة، بصورة لافتة للغاية. فهي ثورة سياسية اجتماعية. وهي ثورة لاستعادة الهوية السودانية المستبدلة قسرا.
ومن الخير، وفق النور، أن تكون ثورة بطيئة، تمارس الضغط الشعبي، وتحقق الإنجازات خطوة خطوة. فهي بالحراك الواعي الراسخ، البارئ من الانفعال، تحقق الاستدامة. فالثورة الحقيقية عمل مستدام وليست فورة مؤقتة. وعبر المسار سوف تصنع الثورة قادتها الجدد، وهذا ضروري في نظري. وسوف يقوى عودها، وينعجم، وتمتلك آليات التغيير.
ويعتقد النور أن هناك قطاعا من الكبار الذين لا يزالون منحبسين، عقليًا، في نموذجي ثورتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م. وأوضح أن ؤلاء هم من يظنون أن الهبة الجارية الآن، سوف تسير على ذات النسق، الذي سارت عليها ثورتا أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وأنها سوف تمضي وفق ذات السيناريو. ولو هي سارت على نسق أكتوبر وأبريل، فإن حالنا سيصبح "وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جئنا".
هذه الثورة، مكتوبٌ عليها أن تنتصر (كان على ربك حتمًا مقضيا)، لكنها لن تنتصر على المنظومة القديمة، بالضربة القاضية الفنية، وإنما بالنقاط. وسيجري ذلك عبر أمد زمني، ذي مراحل، وقد يطول ذلك المدى الزمني، وقد يقصر، حسب بذل الجهود، وحسب مواتاة الظروف المختلفة، التي ليس للثوار يدٌ فيها، وليس للنظام المستهدف بالإزالة، تحكُّمٌ فيها.
بالنسبة للباحث الإسلامي الشاب معمر موسى فإن ما تعبر عنه الثورة في تمظهرها في الحكومة الانتقالية أكثر من مجرد سلطة انتقالية وإنما تطرح تصورا ثقافيا محددا يتضمن محاولة لإعادة هندسة اجتماعية للسودان ويشمل تبعية أو نيو ليبرالية وهي القضايا التي لا يمكن الاتفاق حولها، كما لا يمكن تجاوز الأيدولوجيات لأن أي مشروع سياسي قائم على مدرسة فكرية ويحدث اختلاف حوله والتناقض أصلا موجود، وأردف هو "تدافع بالمصطلح الإسلامي وتناقض جدلي بالمصطلح الماركسي".
هذه الثورة، مكتوبٌ عليها أن تنتصر (كان على ربك حتمًا مقضيا)، لكنها لن تنتصر على المنظومة القديمة، بالضربة القاضية الفنية، وإنما بالنقاط. وسيجري ذلك عبر أمد زمني، ذي مراحل، وقد يطول ذلك المدى الزمني، وقد يقصر، حسب بذل الجهود، وحسب مواتاة الظروف المختلفة، التي ليس للثوار يدٌ فيها، وليس للنظام المستهدف بالإزالة، تحكُّمٌ فيها.
واعتبر أنه من الضروري تشخيص الواقع بأن هنالك أزمة مزمنة تتعلق بهشاشة بنية دولة ما بعد الاستعمار الذي أورث البلاد مشكلات وظلت الرؤية الوطنية غائبة، ما أتاح المجال للخطاب الإثني والقبلي، موضحا أن إشكالية الخطابات العنصرية تحولت من سلوك فردي إلى فلسفة أيديولوجية مثل مدارس التحليل الثقافي والتي عدها معمر موسى أكبر مهدد للبلاد والمجتمع المحافظ.
بالنسبة لعلاء الدين محمود الكاتب المنحاز للثورة السودانية فإن قوة الشارع تظهر ضعف القوى السياسية، مبينا أن وجود الأحزاب مهم، لكن مطلوب منها التعرف أكثر على مفهوم الحزب، إذ أن هنالك أحزابا محكومة بدكتاتورية عسكرية يعني منظومة قائمة على أن الهيئات السفلى تخضع للأعلى وهو ما يؤدي إلى أن يختزل الحزب في قيادته، وقيادته في شخص الرئيس القائد، فضلا عن وجود أحزاب محكومة بديكتاتورية مدنية، أي أنها تعلي من قيم المظاهر الديموقراطية بينما خياراتها محدودة فيما يتعلق بقيادة الحزب، وهي التي تتولى أمر الحزب إضافة للشخصيات المؤثرة جوة الحياة الحزبية.
لكن محمود يقول لـ"عربي21": إن النظامين الحزبيين لا يختلفان كثيرا، لكن المفارقة أن النموذج الأول أقوى تنظيما وترابطا بين الهيئات الحزبية، لكن معظمهم يعتريهم الضعف الشديد، ويفتقدوا لروح المبادرة والرؤى الفكرية، وأن ثورة ديسمبر سبقتها محاولات أخرى أفشلها ضعف القوى السياسية، وظلت موجات الفعل الثوري في تراكم وسيرورة وجعلت الجماهير تناضل في شكل تحالفات الأجسام المهنية، وما عرف بالتنظيمات الشبابية، والتي ربما قد تختلف معها، لكنها صيغة أرادت أن تتجاوز الضعف الحزبي والبيروقراطية التنظيمية المتكلسة داخل معظم الأحزاب.، معتبرا أن الأحزاب مطالبة أثناء الفعل الثوري، وكجزء من العملية النضالية اليومية، مطلوب منها أن تحدث ثورة داخلها، تراجع كل طرقها وأساليبها القديمة من أجل خلق واقع جديد داخلها، حتى ترتقي لمستوى الفعل الثوري.
السعودية تحذر من "الدعوة والتبليغ".. ما دلالات ذلك ومآلاته؟
هل يصلح النظام الرئاسي لمواجهة الاستبداد عربيا؟ (2 من 2)
هل يصلح النظام الرئاسي لمواجهة الاستبداد عربيا؟ (1 من 2)