لم يخفِ الكيان الصهيوني فرحته بنهاية حكم الدكتور الشهيد محمد مرسي، بل لقد شارك الانقلابيين فرحتهم علنا، وكشف عن تورطه في الانقلاب في أكثر من مناسبة، ومن ذلك ما اعترف به البروفيسور آرييه إلداد - وهو جنرال في جيش الاحتلال - حول الجهود التي بذلها الكيان الصهيوني للإطاحة بالدكتور محمد مرسي، حيث صرح لصحيفة معاريف الصهيونية بأن "اندلاع ثورة يناير تزامن مع تقديرات أوساط الأمن الإسرائيلي بأن الرئيس المنتخب محمد مرسي كان ينوي إلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل، وإرسال المزيد من القوات
العسكرية المصرية إلى شبه جزيرة سيناء"، وأضاف: "إسرائيل سارعت في تلك المرحلة إلى تفعيل أدواتها الدبلوماسية من أجل إيصال عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مصر، وإقناع الإدارة الأمريكية بعدم معارضة هذه الخطوة".
وبعد الانقلاب عمل الكيان الصهيوني بكل طاقته الدبلوماسية على دعم الوضع الجديد وتثبيته وإضفاء الشرعية عليه؛ فهو يعرف جيدا أن تورط العسكر في السياسة يصب في مصلحته، ويقلل من خطورة الوضع في المنطقة، ويحيّد مصر عن خريطة الصراع العربي الصهيوني، وهي التي تشكل أكبر قوة عسكرية في المنطقة العربية، والإبقاء على حياديتها يُعدّ أكبر مكسب يحصل عليه الكيان الغاصب، وقد تجاوزت مصر الحياد إلى الانحياز في ظل دولة السيسي العسكرية. ويكفي هنا أن نقرأ ما قاله الجنرال الصهيونى رؤفين بيدهتسور؛ لنعرف كيف يفهم الصهاينة آلية الأداء السياسي العربي، ودور الجيوش في السياسة والحكم، يقول: "إن تورط الجيش المصري في السياسة على هذا النحو سيضمن استمرار تفوقنا النوعي والكاسح على العرب لسنين طويلة"..!!
ولنتخيل المعادلة الكارثية التي لم يدركها بعد كثير من أبناء أمتنا أو يدركوها ويتعاموا عنها: "تورط الجيش المصري في السياسة = استمرار التفوق النوعي الصهيوني"..!!
وتلك حقيقة لا تحتاج إلى دليل، فالواقع المشاهد أكبر دليل على صحتها؛ فقد انتقلت مصر شيئا فشيئا من الدور الوطني إلى دور المحايد ثم إلى دور المؤيد والمنافح عن الكيان الصهيوني، وما عشرات المواقف والتصريحات للسيسي وغيره من الساسة المصريين بخافية في هذا الإطار، ويكفي دليلا على ذلك موقفه من حرب 2014 على قطاع غزة والانحياز التام للكيان الصهيوني؛ فقد أطال السيسي ومعه بعض الزعماء العرب أمد الحرب، وكانت تصريحاتهم عبر القنوات الإعلامية ضد المقاومة باعثة على الغضب وهي تترجم معنى الخيانة لإرادة الأمة وتوجهاتها الوطنية النبيلة، فبين لحظة وضحاها صار الكيان الصهيوني مظلوما، وحركات المقاومة ظالمة، وهي التي تروّع الأطفال والمدنيين بصواريخها كما كانت تبث أجهزة الإعلام المصرية والسعودية والإماراتية آنذاك. وقد كانوا حينها يراهنون على سقوط قطاع غزة وانهيار المقاومة فيها، ولم تتوقف الحرب إلا حين استغاث الكيان الصهيوني بالقاهرة..!!
ولكي نعرف مزيدا عن خيانة العسكر؛ فلنراجع عشرات الملفات المتعلقة بسيناء وقتل مئات المدنيين الذين لقوا حتفهم بغير جريرة تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وذلك بالتعاون مع الآلة العسكرية الصهيونية التي لا يَرُوعها قتل المدنيين، بل لعلها تمعن في قتلهم بحجة القضاء على الإرهاب. وقادة العسكر يكذبون كما يتنفسون حين يدّعون بأن ما يقومون به مرتبط وثيقا بإدارة ملفات الأمن القومي، بينما يمارسون الإجرام في سيناء وفي أنحاء مصر كلها بصفته منهجا فكريا وسلوكيا..
وكان مما يثير الدهشة والاستغراب ما قاله - حرفيا - لواء متقاعد من الجيش السوداني في لقاء تلفزي: "ما فيش حاجة اسمها الحكم المدني.. العالم الغربي هو فقط الذي يصر على الحكم المدني.. في كل العالم الثالث القوات المسلحة جزء من العملية السياسية". والحالة السودانية أكبر دليل على الخراب الذي تحدثه الجيوش حين تصر على السيطرة على المشهد السياسي رغم أنف الشعوب وإرادتها المهدور دمها بين عشائر الشرطة وقبائل العسكر ودباباتهم الكسيحة التي تعمل على سحق الشعوب وتدمير روحها المعنوية وإلجائها إلى اليأس الباعث على تحطيم إنسانية الإنسان ودفعه إلى تمني الموت، بدل أن يتمنى الحياة الكريمة التي نسيها، فصارت من أحلام الطفولة المعذبة..!
وفي الشأن السوري حدث ولا حرج.. نحو مليون شهيد، ونحو 10 ملايين لاجئ يوجد منهم في تركيا وحدها ما يقرب من أربعة ملايين، فقد قتل العسكر مئات الآلاف، واعتقلوا ما لا يقل عن 150 ألفا وأذاقوهم صنوف التعذيب والبطش والإهانة، ولم يفرقوا بين رجل وامرأة وطفل، وشتتوا الملايين حول العالم؛ فأي وطن ذلك الذي تحكمه القبضة الأمنية والعسكرية، ولا شيء غير ذلك..!!
انتظر البسطاء من العسكر أن يعضوا كل شيء إلا رغيفهم؛ غير أن العسكر عضوا قلوبهم وأرواحهم ورغيفهم وشربوا دمهم وأكلوا أكبادهم، ولم يبقوا في وطن الجياع سوى الخوف والوجع الصعب
وفي ليبيا استطاعت قوى الشر أن تخلق شخصية حفتر العسكرية الفاشلة، وهي أسوأ من شخصية القذافي نفسها، وقد ارتبطت باسمه جرائم الإبادة والقتل خارج القانون والمقابر الجماعية وإثارة الفتن وتقسيم الليبيين، وجلبت بمعاونة الإمارات مليشيات الفاغنر والمرتزقة من أكثر من دولة، لتمعن في تمزيق البلاد وجرها إلى مستنقع الفوضى والموت والدمار.. وهو ما تسعى إليه الإمارات تحديدا، وهو إطالة أمد الفوضى ليصل الناس إلى قناعة بأن الثورات العربية لم تجلب لهم سوى الموت والعذاب وعدم الاستقرار..
وفي اليمن لعبت الإمارات ومعها السعودية أخبث لعبة في تاريخ المنطقة، حيث استغلت الأولى الفاقة والحاجة، وبأموالها استطاعت شراء الذمم وتكوين تحالفات صغيرة هنا وهناك، واستطاعت أن تفكك البنية الاجتماعية للبلاد وقتلت واعتقلت وعذبت كما يحلو لها ذلك، دون رادع من دين أو خلق.. وقام الحوثيون بما لا يقل سوءا عن الفحش الإماراتي، فقد اجتمع على اليمن سلاح الإمارات ومرتزقتها من اليمنيين، وسلاح السعودية الذي بطش بالمدنيين، وسلاح الحوثيين الذي قسم البلاد بناء على خطة سيطرة إيرانية لم تزل تدور حول نفسها منذ سنوات..
ومؤخرا شاع المثل المستحدث الذي يقول: "عَضَّ قلبي ولا تعَضَّ رغيفي"، وانتظر البسطاء من العسكر أن يعضوا كل شيء إلا رغيفهم؛ غير أن العسكر عضوا قلوبهم وأرواحهم ورغيفهم وشربوا دمهم وأكلوا أكبادهم، ولم يبقوا في وطن الجياع سوى الخوف والوجع الصعب..
استبشرنا بالثورات العربية بادئ ذي بدء، إلا أن هذا الاستبشار لم يدم طويلا؛ فلم نكن نفهم جيدا المعنى الحقيقي للدولة العميقة، ولم نكن نتخيل - بما أوتينا من طيب قلوبنا وحسن نوايانا - أن تنقلب الأمور رأسا على عقب، بتحريض صهيوني وخليجي، ولم نكن نتوقع أن قطاعا كبيرا من أبناء هذه الأمة المنكوبة بعارها - ينحاز لحكم العسكر
وأغرب ما في الأمر أن تجد شخصا مداهنا مدعيا لا قيمة حقيقية له يدافع عن الدكتاتورية من أمثال المدعو يوسف علاونة الذي قال مؤخرا: "الوطن العربي بحاجة لحاكم مجرم لا يسمح للي بيلعبوا بذيلهم"، ثم يطالب العسكر في السودان باعتقال كل المتظاهرين.. لأن
الديمقراطية تدمر البلاد..!! ومع أن علاونة وغيره لا يستحقون الذكر، إلا أننا نذكُرهم لأن خلفهم أمثالهم من السياسيين الذين يوجهون خطاباتهم ويملون عليهم ما يقولون؛ بما يدفعنا لتقريعهم؛ ليسمع أسياد ألسنتهم..
لقد استبشرنا بالثورات العربية بادئ ذي بدء، إلا أن هذا الاستبشار لم يدم طويلا؛ فلم نكن نفهم جيدا المعنى الحقيقي للدولة العميقة، ولم نكن نتخيل - بما أوتينا من طيب قلوبنا وحسن نوايانا - أن تنقلب الأمور رأسا على عقب، بتحريض صهيوني وخليجي، ولم نكن نتوقع أن قطاعا كبيرا من أبناء هذه الأمة المنكوبة بعارها - ينحاز لحكم العسكر، وفي لقاء لي مع فضائية النيل الثقافية كنت متفائلا جدا بمصر، فقد قلت بأنني أتوقع أن تكون مصر خلال أعوام قليلة في مصاف الدول التي يحسب لها ولاقتصادها وقوتها العسكرية ألف حساب.. كان ذلك إبان حكم الشهيد د. محمد مرسي، ولم يكن يخطر ببال كثير من الطيبين أمثالي أن ثمة مؤامرة تحاك في الخفاء؛ أبطالها العسكر وخلفهم دول خليجية وكيان غاصب..
لكن على الرغم مما كان من إجهاض للثورات العربية إلا أن القادم لن يكون كسابقه؛ فالشعوب لا تنسى، وربما كان إصرار الشعب السوداني على مواصلة التظاهر أحد الأدلة على أن الشعب السوداني قد وعى الدرس، وفهم خطورة ألاعيب العسكر ومن يقف وراءهم من الدول التي تمارس الكيد السياسي في سبيل القضاء على الثورات العربية ووأدها في مهدها، إذ ربما أدرك الشعب السوداني ما اقترفه العسكر في دول الربيع العربي الذي أحاله خريفا ذابل الروح؛ فخرج من ربقة القطيع إلى فضاء الوعي والرفض المؤدي إلى الحرية، ولا يراودني أدنى شك في بلوغ الشعب السوداني غاياته التي يصبو إليها إذا واصل التظاهر بعيدا عن ضغوط السياسيين التوفيقيين من أمثال رئيس الوزراء حمدوك وغيره؛ فعلى الشعوب ألا تستمع إلى السياسيين، وأن تنسجم فقط مع صوت حناجرها المدوية في وجه القتلة وقطاع الطرق وأن تتجاهل عبارة "الحكمة تقتضي..."!
ينبغي ألا يصيب اليأس شعوب أمتنا لقاء ما كان، فلعل ما حدث كان درسا ضروريا لبذل مزيد من الوعي والفهم لطبيعة التفكير الخبيث للعسكر، وضرورة تحييدهم عن المشهد في أية ثورة قادمة، مهما كانت الصعوبات وقسوة المواجهة وحجم التضحيات
ينبغي ألا يصيب اليأس شعوب أمتنا لقاء ما كان، فلعل ما حدث كان درسا ضروريا لبذل مزيد من الوعي والفهم لطبيعة التفكير الخبيث للعسكر، وضرورة تحييدهم عن المشهد في أية ثورة قادمة، مهما كانت الصعوبات وقسوة المواجهة وحجم التضحيات، والأمل لا ينقطع وبلوغ المجد يحتاج إلى عناد وإعداد وتضحية. فالشعوب تمتلك الحقيقة حين تمتلك الجيوش القوة، ولا شك بأن الحقيقة أكثر نجاعةً من القوة وأبلغ منطقا، مهما أصاب الشعوب من ظلم وعنت.. وحين تدرك الشعوب أنها ليست قطيعا من الخرفان؛ ستنتصر على جلاديها وستتقهقر قوى الظلام، وسيكون الانكفاء الثوري القهري أثرا بعد عين.. تلك هي الحقيقة، وذلك هو منطق التاريخ..
حكم العسكر لا يمكن أن يأتي بخير لأية أمة؛ فهو الخراب على كل صعيد.. وإن أقسى ألم يقع على نفوس الأحرار أن نسبة لا يستهان بها من الشعب لم تفهم بعد معنى أن تحكم الدبابة، وتنتصب بديلا عن أحلام الندى والسنابل والقصائد..!