تحتضن مدينة دير البلح وسط قطاع غزة واحدا من أقدم الأديرة التي عرفها التاريخ والذي يعود تاريخ إنشائه إلى القرن الثالث ميلادي وبقي حتى يومنا هذا، شاهدا على جزء من هوية فلسطين، ليتحول إلى مكتبة للأطفال منذ 6 سنوات.
ويعتبر "مقام الخضر" أحد المباني الأثرية المهمة في مدينة دير البلح، حيث يقع على بُعد حوالي 200 متر من مركز المدينة الحالي، ولا يزال يحافظ على بنائه دون أن يتعرض لأي أضرار.
ويُنسب المقام بحسب الباحثة في التاريخ والآثار إسلام حبوش إلى "القديس جرجس ـ Sanit Georg"، واسمه باللغة العربية يعني (الخضر).
وقالت حبوش لـ "عربي21": "يبدو أن مقام الخضر قد أقيم فوق دير مسيحي أقدم منه وهو دير القدّيس هيلاريون أو هيلاريوس، والذي يعود للقرن الثالث الميلاديّ ليكون مسجدًا صغيرًا للصلاة، ويؤكد ذلك بعض النقوش اليونانية والتيجان الكورنثية والأعمدة الرخامية الموجودة فيه إلى يومنا هذا".
وأضافت: "هذه النقوش هي دلائل واضحة تؤكد أنه تم بناء مقام الخضر فوق دير القديس هيلاريون الذي اشتهرت فيه غزة".
وأكدت حبوش أنه يوجد في المقام محراب يحتوي على عدة قباب وساحةً، ومن تحته غرفة تحت أرضية (قبو)، كانت تعد عند العامة بأنها مزار لأحد الأولياء الصالحين يتباركون به".
وأوضحت أنه يتم النزول إلى الغرفة السفلية بعشر درجات، وفيها قبر يتجه من الغرب إلى الشرق، قيل أنه لأحد الأساقفة اليونان، ويوجد عليه بلاطة بها كتابات باللغة اليونانية، وأخرى عليها أثر لصليب.
وأشارت حبوش إلى أن المبنى ينقسم إلى قسمين، الأوّل بمثابة المكتبة، والثاني القبو الذي يقع أسفل المبنى بثلاثة أمتار تقريبًا، يربط بينهما دهليز ضيّق ذو أدراج.
وأكدت الباحثة في التاريخ والآثار أن وزارة السياحة والآثار الفلسطينية اهتمت بشكل كبير في مقام الخضر، وحصلت على تمويل صيانة وترميم له من منظمة (اليونسكو ـ UNESCO)، وذلك في العام 2015م، حيث تمت أعمال الصيانة والترميم للمقام من قبل مركزي "إيوان" في الجامعة الإسلامية، و"رواق" في الضفة الغربية، مقابل استفادة جمعية "نوى" للثقافة والفنون" من المقام كمكتبة أطفال.
ومن جهتها أكدت فرح أبو قاسم، مسئولة العلاقات العامة في جمعية "نوى" التي تشرف على المقام على أهمية موقع مقام الخضر كونه من أقدم الأديرة القائمة حتى يومنا هذا، مشددة على أهمية الحفاظ عليه لحفظ تاريخ فلسطين وهويتها.
فرح أبو قاسم، مسئولة العلاقات العامة في جمعية "نوى"
وقالت أبو قاسم لـ "عربي21": "جاءت فكرة ترميم مقام الخضر الأثري في أواخر عام 2014 باقتراح من مجموعة شبابية في دير البلح، بأن تقوم الجمعية بتأمين الدعم المالي والإداري والفني للقيام بأعمال الترميم".
وأضافت: "بعد الموافقة على فكرة الترميم أخذنا على عاتقنا التواصل مع المهتمين والممولين لتوفير الدعم المالي لترميم مقام الخضر الأثري وإعادة تأهيله كمكتبة للأطفال، حيث استطاعت الحصول على موافقة وزارة السياحة والآثار، واستمرت أعمال الترميم حتى شهر اشرين ثاني/ نوفمبر 2016".
وأوضحت أنه تم بعد ذلك تأهيل وتأثيث مكتبة الخضر للأطفال وتجهيزها إدارياً وفنياً ومالياً، واعتماد نظام محوسب لإدخال بيانات المواد المكتبية من كتب وقصص ومراجع بعدة لغات، وتم تزويدها للمكتبة لتلبية الاحتياجات التعليمية والثقافية والتربوية للأطفال بما فيهم ذوي الإعاقة، مشيرة إلى وجود 6000 مادة مكتبية في المكتبة.
وقالت: "في نيسان/ إبريل 2016 نجحت الجمعية في الحصول على تمويل لمدة 3 سنوات في البداية لتشغيل مكتبة الخضر، وتقديم الأنشطة القرائية والفنية للأطفال والأهالي في دير البلح لتمكينهم ثقافياً، واستمرت المكتبة بتقديم خدماتها الفنية الثقافية والتعليم الغير رسمي الجامع حتى يومنا هذا"، مشيرا إلى أنها تعمل على صيانة ومكتبة الخضر مرة سنوياً للمحافظة على المكتبة ومرافقها.
وتتكون المكتبة بحسب أبو قاسم من طابقين علوي يضم قاعة المكتبة والفنون والساحة الخارجية وطابق سفلي يضم قاعة رواية القصة.
وقالت: "افتتحت جمعية نوى المكتبة الأولى من نوعها في دير البلح بهدف تمكين مجتمع دير البلح ثقافياً، وفنياً، وتعليماً ، حيث تستقبل المكتبة يومياً المئات من الأطفال، يتلقوا فيها برامج التعليم غير الرسمي وخدمات المكتبة من أجل زيادة المعرفة والنفاذ إلى المعلومات من خلال القراءة، والكتابة، والبحث العلمي، وأنشطة الفنون والبيئة".
وأضافت: "كما وتعمل المكتبة مع الأطفال والأهالي والشباب من خلال الحفاظ على الموروث الشفوي لدير البلح والتوعية المجتمعية والثقافية، حيث تم في عام 2019م تطوير المكتبة لتصبح بيئة تعليمية جامعة لتسهل وصول أشخاص ذوي الإعاقة من حيث المبنى والكتب بالإضافة إلى توفير ما نسبته أربعة في المائة من مقتنياتها بلغة برايل (لغة الصم).
وعن الخدمات التي تقدمها المكتبة أكدت أبو قاسم أن المكتبة تقدم "المطالعة الحرة"، مشيرة إلى أن المكتبة تضم قاعة المطالعة الحرة المليئة بالأجواء الشيقة والمشجعة على القراءة، ويوجد على رفوفها آلاف الكتب والقصص المناسبة لجميع الفئات العمرية، بالإضافة إلى قسم مستقل يضم كتب بلغة برايل.
كما تقدم المكتبة بحسب أبو قاسم خدمة "الإعارة" وذلك من خلال إتاحة خدمة استعارة عشرة كتب أسبوعياً متنوعة لحاملي بطاقة العضوية، وذلك لمدة ثلاث أيام قابلة للتجديد.
وأوضحت أنها أن المكتبة تقدم خدمة "الاستماع إلى رواية القصص"، وتصوير المستندات وأوراق عمل للمدرسة، وحل الواجبات المدرسية، والأنشطة المتنوعة، من دورات متنوعة، كرواية القصة، البحث العلمي، و دورات الكتابة الإبداعية و الخط العربي دورات تدريبية في لغة الإشارة، الأمسيات الثقافية، بالإضافة إلى الرحلات الترفيهية والثقافية، والأيام المفتوحة، و الأنشطة الفنية مثل الفنون والرسم الحُر وغيرها من الأنشطة.
ومن ناحيته أكد الصحفي والمدون أسامة الكحلوت على أهمية دور الإعلام في كشف الكثير من المواقع الأثرية التي لم تكن معروفة لدى العالم وتاريخها وتحديدا مقام الخضر في دير البلح.
وأشار الكحلوت وهو من سكان مدينة دير البلح في حديثه لـ "عربي21" إلى أن مقام الخصر لم يلقى في البداية اهتمام حيث كانت تسيطر عليه سيدة تسكن بجانبه تحافظ وتسيطر عليه بالكامل لكن مع تسليط الإعلام الضوء على هذا المقام وبعد وفاة تلك السيدة تم الاهتمام به بشكل أكثر من السابق.
أسامة الكحلوت.. صحفي ومدوّن فلسطيني
وأوضح انه تم توكيل مهام الموقع إلى مؤسسة مهتمة بالآثار تعمل حاليا على تصدير هذا المعلم الأثري إلى العالم الخارجي.
وقال الكحلوت: "يحاول الاحتلال طمس التاريخ الفلسطيني كافة سواء أكان آثار أم غير ذلك، كما حدث في الموقع الأثري في منطقة تلة أم عامر المعروف باسم دير القديس هيلاريون والواقع غربي مخيم النصيرات وسط قطاع غزة".
وأضاف: "أن بعض الروايات التاريخية تقول أن موشي ديان (وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق) كان يأتي بالطائرة لنقل حجارة من دير القديس هيلاريون وينقلها إلى داخل الأراضي المحتلة عام 1948م لإثبات أحقيتهم بالأرض ويحاول تزوير ذلك بان هذا تاريخ إسرائيلي إلا أن ما قام به الإعلام من دحض وتكذيب لتلك الرواية عمل على إعادة الاعتبار للآثار الفلسطينية وإظهار محاولات الاحتلال في سرقتها".
وتابع: "الإعلام الآن مطالب أكثر من أي وقت بإبراز هذه المعالم الأثرية وأهميتها لتكون محط اهتمام للزوار المقيمين داخل البلد أو الوافدين إليها".
واعتبر الكحلوت مقام الخضر رمز من رموز مدينة دير البلح، ويحتضن فعاليات مختلفة للتراث والتاريخ لم تكن تقام في وقت سابق.
ويرى الصحفي والمدون الفلسطيني أن الاهتمام الشعبي بالآثار أصبح أعمق من قبل بكثير وذلك بسبب زيادة الوعي لدى أبناء الشعب الفلسطيني بأهمية الحفاظ على تلك الموروثات التي تخلد الوجود الفلسطيني على الأرض والتي تعتبر من طرق مواجهة الاحتلال.
جبل الكرمل ذاكرة المبدعين الفلسطينيين و"قدسية" المكان
الدبكة الفلسطينية.. الوحدة الوطنية والتشبث بالهوية
محمود الأفغاني.. المقاوم في الثورة واللاجئ المسكون بالعودة