الكتاب: المقدس وتوظيفه
الكاتب: مؤلف جماعي إشراف رجاء بن سلامة
دار النشر: المنشورات الجامعية بمنوبة ـ تونس: سلسلة ندوات، ط1 2015.
عدد الصفحات: 160صفحة.
أقصت الفلسفةُ الوضعيةُ الميتافيزيقيَّ من مجالات بحثها وعمل الفكر المعاصر باستمرار على توجيه مقارباته خارج ثنائية المقدّس والمدنّس. دفع العقل الغربي، مستندا إلى خلفيته العلمانية، بالمقدّس إلى الخلف وسيّج مجالاته وفصلها عن اليومي، فتراجع الروّحاني اليوم وانحسر وهيمن المادي على مظاهر الحياة وعمّت سلطة الأشياء وحلّت محلّ القيم. أما العقل الإسلامي فلم يسلّم كلّه بهذه الرؤية المادية الصرف وظلّ يُحلّ المقدّس في المركز من تصوّراته ويعمل على "حمايته". ولعلّ هذه المفارقة بين التصوّرين، الغربي العلماني والشرقي الإيماني أن تكون الباعث على دراسة المقدّس وأدواره في الثقافتين الغربية والإسلامية ضمن المؤلف الجماعي " المقدس وتوظيفه".
1 ـ المقدس والفلسفة
تُبلور المفاهيم الفلسفية المعاني الكليّة، تلك التي لها قابلية الشّمول والكونية والمناسبة لجميع العقول والثقافات والشعوب. وضمن هذا الأفق يتساءل فتحي المسكيني، أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية، عن مدى امتلاك الفلسفة لتصوّر خاص بها لمشكلة "المقدس" له سمة الشمول والكونية، لينتهي إلى أن هذا المبحث لم يكن من المسائل التي انشغل بها الفلاسفة أوّل أمرهم ولم يكن من أسئلتهم وأنه وافد إلى ساحة تفكيرهم بعد أن نشأ في علم تاريخ الأديان وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا.
ومع ذلك يحاول أن يتعقّب العناصر المشكلة له القائمة طيّ الفلسفة الإغريقية. فيقع على ثلاثة عناصر مكونة لفكرته. فمنه ما يقابل في اليونانية [hieros]ويفيد ما هو مهيب وموّقر وذلك لحرمات أو مناسك أو قرابين ارتبطت به ولم يكن كذلك منذ أول أمره. ومنه ما يفيد الحرام والمحرّم ويقابله في اليونانية [hagios] ويرتبط بكل ما هو مقطوع عن الحياة العادية والعالم اليومي لقداسته. ويشكّل المطهّر أو المنزّه عن العيوب عنصره الثالث ويقابله في اللغة اليونانية [hosios]. فمن أصابته نجاسة، لا يمكنه أن يدخل البيت الحرام إلا بعد التّطهر.
ويحلّل مجمل من المفاهيم المتّصلة بالمقدّس من منظور فلسفي لينتهي إلى أن احترام المقدسات "نوع من التأجيل السامي لمعنى الموت، وذلك بتحويله إلى مقام للنجاة من القلق الوثني بواسطة الخشية الإيمانية. وهو اختراع توحيدي فذّ. وهو إلى حدّ الآن ربما أكبر هدية نفسية أخلاقية قدّمها السّاميون للإنسانية حاليّا" وإلى أنه ّبهذا المعنى ليس من مهمّة للفلسفة إزاء المقدّس سوى رفع الدين إلى مفهوم أخلاقي محض لا يمكن لأحد أن يدّعي امتلاكه لنفسه. فهو مكسب كوني للإنسانية بما هي كذلك".
2 ـ في الصلة بين المقدّس والسياسة
يصادر "محمد الشريف الفرجاني" في مقالة ترجمها محمّد الحاج سالم على أنّ "السلطة السياسية كانت على الدّوام تسعى إلى ضمان استمرار نظامها تجاه كلّ المعارضات عبر إضفاء القداسة عليه، سواء باسم مصلحة عليا تدّعي تجسيدها أو للزّعم بأنّ نظامها يقوم على قوانين النّظام الطبيعي للأشياء، أو عن طريق تعبئة أسس ومبادئ هذا الدين أو ذاك". ويعرض طائفة من الأمثلة. فيذكّر برفع معاوية بن أبي سفيان للمصاحف والمطالبة بالتحكيم لوقف جيش علي بن أبي طالب الذي بدأ يحسم المعركة لصالحه في معركة صفّين.
ويورد قول نابليون بونابارت: "إن ما يهمني في الدين ليس معجزة الحلول (بمعنى حلول الذات الإلهية في المسيح) بل معجزة النظام الاجتماعي.. فمجتمع بلا دين، مثل سفينة بلا بوصلة. فلا شيء سوى الدين يعطي دعامة وطيدة ودائمة.. لا يمكن لمجتمع أن يوجد دون دين". بل إنّ ستالين نفسه استدعى رجال الدين لرفع معنويات الجيش المنهارة بعد الهزائم ضد جيوش هتلر في الحرب العالمية الثانية، وهو من اضطهد أتباع الديانات المختلفة في الاتحاد السوفياتي وحوّل أماكن عبادتهم إلى متاحف. ومثله فعل صدام حسين العلماني الذي يعتبره مثله الأعلى. فأضاف مثلا، عبارة "الله أكبر" للعلم العراقي لحشد الدعم لمواجهة قوات التحالف في حرب 1991. ولم يتردّد جورج بوش بدوره في توظيف الدين المسيحي واستمالة الانجيليين خاصة لمناصرته في حروبه على البلدان الإسلامية.
3 ـ تقديس السياسة وتسييس المقدس في الإيديولوجيات الشمولية
يبحث ستيفن أولف، ضمن مقالة ترجمة جهاد الحاج ساسي، في توظيف المقدس انطلاقا من دراسة التاريخ الأوروبي معتمدا مفهومي الدين السياسي والشمولية الدينية. فيجد أنّ مصطلح "الدين السياسي" لا يزال رخوا ولم يستقر بعد على دلالة دقيقة وأنه يظل في حالة تنافس مع مصطلحات أخرى منها "الدين العلماني" و"السياسات الدينية" و"الدين المدني". ومع ذلك يلاحظ أنه يشير إلى ذلك الخلط الواقع بين المجالين السياسي والديني فيجسّد "ضربا من التدين يقدس إيديولوجيا أو حركة أو نظاما سياسيا عبر تأليه كيان دنيوي مؤسطر، واعتباره بؤرة المعنى الأساسية والرئيسية، وهدف الوجود البشري على الأرض".
أما "الشمولي الديني" فيتماثل بين الإيديولجيات المختلفة. إنه ذلك الاعتقاد الذي يضع الإنسان في علاقة بقانون متعال وإرادة موضوعية تجعل منه عضوا واعيا في مجتمع روحي. ويصادر الباحث على أنّ الجماعات الأصولية الدينية لا تقوم على إيديولوجيا مبتكرة وإنما على انتساب مؤصل للمتون النصية وأنّ محفزها الأساسي الارتباطُ الشديد بالاتجاه الصراطي. فهي تدّعي استعادة الموروث والتقليد الصراطي وتعمل ضمن ما يصطلح عليه ب[المعركة في سبيل الرّب] على خلق صيغة جديدة لديانة قائمة على أساس ماض أسطوري ذي مسحة رومنسية . فتشكّل بذلك الأسس التي يحتاجها كل برنامج فاشي.
ويبحث الأسس الدينية العميقة في الإيديولوجيات التي تبدو علمانية منتصرة للتصوّر المادي. فالفاشية عنده تتضمّن اتجاهات دينية مضمرة وتقدّس الجماعة. وتمثل وفق موسيليني نفسه، مفهوما دينيا. فيقول: "المفهوم الفاشي للحياة هو مفهوم ديني، حيث يعتبر الإنسان في علاقة متأصلة بقانون أسمى ومتلازم مع إرادة وضعية تتجاوزه".
ما ينقصنا ليس الإيمان بالله، فذلك حاصل بالقوة، وإنما الإيمان بأنفسنا. فنحن كائنات هشة ومجروحة معطوبة في هويتها. وترى بالمقابل أنّه إذا ما كانت لدينا مشكلة إزاء الفن فذلك يعني أننا شعوب غير قادرة على احتضان مبدعيها، تعاني داخليا الخوف من الإبداع والحرية اللذين يتضمنهما الفن.
ولا تخلو الماركسية اللينينية، باعتبارها تديّنا على نحو مّا، من هذه النزعة الفاشية أيضا. فالشيوعية تدرج الدين في إيديولوجيتها وانطلاقا منه ترسخ فكرة الإنسان في علاقة بقانون متعال وتصله بإرادة موضوعية تجعل منه عضوا واعيا في مجتمع روحي ولكن وفق فهم برتراند راسل الموسّع جدا للدين: يقول "أعني بمصطلح دين مجموعة من المعتقدات مأخوذة كعقائد مغلقة، تهيمن على سير الحياة وتتجاوز الأدلة أو تخالفها، وتلقّن بطريقة تقليدية أو استبدادية، لا فكرية. وتبعا لهذا التعريف فإنّ البلشفة دين". فأساسها نظام قيم وتفسير كلي للكون يعمل على نشر الحقائق الشاملة ويمثل سردية متعالية لتفسير المسار التاريخي وإدراجه ضمن مشروعه العظيم الذي سيحرّر الإنسان. وإجمالا تشترك الإيديولوجيات الشمولية في إعلانها ضرورة تغيير الطبيعة البشرية تمهيدا لخلق جنة أرضية مجيدة.
ويعرض نقاط الالتقاء بين الدين السياسي والأنظمة الشمولية. فكلاهما يدعو إلى الأصالة والموروث ويعتقد بثورة إناسية تخلق إنسانا جديدا وكلاهما يقدّس الجماعة تقديسا يطمس الحقوق الفردية في سبيلها. ثم يعرض نماذج من هذه الحركات الدينية الفاشيستية التي نشأت في أوروبا مؤخرا فيذكر حركة ركسيست البلجيكية التي تدعو إلى نهضة أخلاقية في المجتمع البلجيكي من خلال مجتمع تعاضدي يلغي الديمقراطية وحركة الأوستاشة الكرواتية يندغم فيها الإيمان بالفاشية بالنزعة القومية العنيفة [النقية] إثنيا.
4 ـ توظيف المقدس في العالم الإسلامي على المستوى السياسي قديما وحديثا
يبحث محمد الشريف الفرجاني، في مقالة عرّبها محمد الحاج سالم في التوظيف السياسي للقرآن بداية من الخلافة إلى انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة إلى الخطاب السياسي المعاصر. تنتهي به العينات المختلفة التي عرضها إلى أنّ القرآن كان دائما موضوع وتوظيفات مختلفة وإلى أنّ الفرقاء السياسيين، على اختلاف توجهاتهم الفكرية، كانوا يعثرون على ما يعتبرونه حججا تؤيد اغراضهم. وينتهي إلى أنّ هذا التوظيف كثيرا ما خضع لتعسّف من المؤوّل الذي ينطق النصوص بما يريد هو. وفي الاتجاه نفسه يقدّر الباحث في علم الاجتماع المغربي محمد الصغير جنجار في دراسته لـ"ـلمقدس وتوظيفه السياسي في الحالة المغربية من المهدوية إلى الإسلام السياسي المعاصر" أن المغرب كان دائما ساحة للصراع على احتكار الدين. ففضلا عن السلطة التي تردّ إليه شرعيتها بات اليوم مجال تنافس بين ثلاثة أطراف هي الصوفية والسلفية والأحزاب الدينية.
5ـ الفن والمقدس
وتعرض أم الزين بن شيخة الصلة بين الفن والمقدس. فترصد أطروحة أولى تتبنى الدفاع عن استقلالية الفن وتدعو إلى تحريره من كل هيمنة خارجية وتعتقد أنّ الفنان مناضل مضاد لأي وصاية دينية أو سياسية. ومما ترتب عليها ظهور توتر في العلاقة بين الفنّ والمقدس وهوّة بين الأعمال الفنية والمؤسسات الدينية. وترى أطروحة ثانية يقودها عباقرة الفن أنفسهم، الرومنسيين منهم خاصة، أنّ الفن هو الأقدر على التعبير عن المقدس أو اختراعه بأشكال مغايرة وتعتقد أنّ دوره يتمثّل في إعادة اكتشاف الروحانية العميقة والمقدسة للإبداع الفني. وأفضى هذا الاتجاه إلى استعادة روحانية العلاقة بين الفن والمقدس.
وتحاول بنشيخة اختزال العلاقة بين الفن والمقدس في ثلاثة نماذج. أولها النموذج الوثني الذي لا نكاد نعثر فيه على أثر للتوتر بين المجالين. وتعرض مثل الأهرامات الفرعونية. ففرعون هو الملك والإله وساكن المعمار الفني والمحفّز على تشييده على النحو الذي هو عليه. وتغامر بتقديم مثال ثان يناقش كثيرا. فالتراجيديا عندها تجسيد لهذا التناغم وآلهة اليونان أشبه بالبشر بحيث لا نرصد فاصلا بين المقدس والمدنس. وفات الباحثة هنا أنّ البطل التراجيدي يتمرّد على القوى الغيبية ويواجه سلطتها. لذلك تتكون نهايته المأساوية عقابا له على هذا التوتّر. ويمثل التوحيد ثاني هذه النماذج. وفيه بدأ الفصل بين الفن والمقدس، وفق الباحثة. ومنطوق الوصية الثانية من الكتاب المقدس الذي يقول "لا تتخذ من دون الله شبيها لا في السماء ولا في الأرض" بيّنة على ذلك.
ويمثل الفهم المعاصر للفنّ النموذج الحديث. فالإنسان اليوم أصبح يتحرك في عالم نزعت عنه الفلسفة قداسته حسب الباحثة وأزالت بذلك شرارة التوتر وتعمل على تجاوز البحث في علاقة المقدس بالفن إلى تأمل تصوّرات الإنسان للوجود راهنا فتقدّر أنّ معاناتنا من مشكلة مع المقدس تعني معاناتنا لمشكلة مع أنفسنا. فما ينقصنا ليس الإيمان بالله، فذلك حاصل بالقوة، وإنما الإيمان بأنفسنا. فنحن كائنات هشة ومجروحة معطوبة في هويتها. وترى بالمقابل أنّه إذا ما كانت لدينا مشكلة إزاء الفن فذلك يعني أننا شعوب غير قادرة على احتضان مبدعيها، تعاني داخليا الخوف من الإبداع والحرية اللذين يتضمنهما الفن.
لقد جاءت أغلب مباحث هذا الكتاب الجماعي عميقة رغم اقتضابها. فأتاحت للقارئ تبيّن عنصرين متلازمين في تاريخ الذهن البشري هما الحاجة الشديدة إلي المقدّس وإلى الحياة الروحية من جهة وتعسّف الحكّام في استغلال تلك الحاجة لتبرير سياستهم أو لتأبيد حكمهم.