لا تسير معادلات تحولات القوى الاستراتيجية للدول وفق معادلات رياضية، بل تسير وفق موازين تتغير باستمرار وفق معطيات وتغيرات تاريخية واقتصادية وسياسية. وقد كان الوضع الجديد لأفغانستان قد أنشأ سابقة في دول
آسيا الوسطى؛ لم تهدد فقط القوى الكبرى ذات النفوذ التقليدي والتاريخي في هذه المنطقة كروسيا وإيران والصين، بل أيقظت أحلام الاستقلال الكامل المؤجلة ورغبات الوحدة الكامنة تحت الرماد لشعوب هذه المنطقة التي تعرضت ولا تزال تتعرض لأشكال مختلفة من الاحتلال والنفوذ الامبراطوري للقوى الكبرى.
إن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان كان أشبه بالاحتلال السوفييتي للبلد ذاته، وهذا الأخير كان قد بدأ أصلا عام 1979 بسبب انتفاضات وغضب شعبي بدأ عام 1978 وعرف باسم ثورة ثور، وأشبه ما يكون بما
يحدث اليوم في كازاخستان.
لم يكن السؤال الرئيسي طوال الأشهر الماضية هو هل
ستتدخل روسيا في آسيا الوسطى مرة أخرى بعد الواقع الجديد في أفغانستان؟ بل كان متى وأين سيحدث هذا التدخل؟ فلم يكن من المتوقع في ظل السياسة الروسية في عهد بوتين أن تترك موسكو حدودها الجنوبية ذات النفوذ التاريخي. لا يتعلق الأمر إذا بمحاولات
تركيا التمدد شرقا وتسريع أطر الوحدة والتعاون بين أنقرة وبلدان العالم التركي ومنها
كازاخستان، بل يتعلق بعدم ترك أي ثغرة في المجال الحيوي الاستراتيجي الروسي يمكن أن تنفذ منها أية قوى كبرى وخاصة الولايات المتحدة.
لا يتعلق الأمر إذا بمحاولات تركيا التمدد شرقا وتسريع أطر الوحدة والتعاون بين أنقرة وبلدان العالم التركي ومنها كازاخستان، بل يتعلق بعدم ترك أي ثغرة في المجال الحيوي الاستراتيجي الروسي يمكن أن تنفذ منها أية قوى كبرى وخاصة الولايات المتحدة
لقد كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن محقا حين حذر كازاخستان من مغبة الاستدعاء العسكري الروسي للبلاد قائلا: "إذا استدعيت الروس لمنزلك، فمن الصعب عليك أن تطلب منهم المغادرة"، ولكنه كان تحذيرا في الوقت الضائع بعد أن وقعت الفأس في الرأس؛ ولسان حال النظام الكازاخي يقول ما رماني على المر سوى الأمر منه.
وستكون لهذا الوضع الجديد انعكاسات تمتد حتى شرق أوروبا، فليس من المنتظر أن تكثف واشنطن وبروكسل من ضغوطها على موسكو من تغيير هذا الواقع الجديد بعد أن استنفدت كل طاقتها في الحيلولة دون دخول الدب الروسي إلى كييف.
تمسك تركيا العصا من المنتصف حتى الآن، بعد الدروس القاسية في دول الثورات العربية التي كانت أنقرة قد أنفقت كثيرا من الجهد والمال من أجل بناء تحالفات فيها، سواء قبل أو بعد اندلاع الثورات. وليس صحيحا أن تركيا قد خسرت كل رهاناتها في هذه المنطقة بسبب التدخل الروسي العسكري السريع، فروسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي بالأمس، وكازاخستان ليست سوريا.
تدور معظم التحليلات حول النفوذ الخارجي في كازاخستان وآسيا الوسطى كجزء رئيسي من قراءات الواقع ومحددات المستقبل في هذه المناطق، ويجري إهمال للرغبات الشعبية التي كانت السبب الرئيسي في اندلاع شرارة الاحتجاجات والوصول بالبلاد لهذه المرحلة
تدور معظم التحليلات حول النفوذ الخارجي في كازاخستان وآسيا الوسطى كجزء رئيسي من قراءات الواقع ومحددات المستقبل في هذه المناطق، ويجري إهمال
للرغبات الشعبية التي كانت السبب الرئيسي في اندلاع شرارة الاحتجاجات والوصول بالبلاد لهذه المرحلة. إن الحضور القوي للثقافة واللغة الروسية والروابط الحاضرة بين موسكو ونور سلطان ليس شفيعا بأن يجد الروس طريقا مفروشا بالورود في أفغانستان، وهم بدورهم ليسوا مستعدين للمضي قدما في استخدام اليد الباطشة مع الرغبات الشعبية الجامحة في الإصلاح، وبالتالي استنساخ نموذج المستنقع الأفغاني في الثمانينات والتسعينات. يدل هذا على أن هناك طرفا في المعادلة ينبغي الانتباه والاستماع له وهو رأي الشعب الكازاخي، والذي أتصور أن تكون له كلمة عليا في هذا الملف في الفترة المقبلة.
وغني عن البيان أن الاستثمارات
الاستراتيجية التركية في هذه البلاد سيكون لها تأثير على مستقبلها، خاصة في مثل هذه الظروف. وهذا لا يعني استبعاد الروس كليا من المعادلة أو سحب البساط من تحت أقدامهم، ولكن يعني أن أنقرة ستكون شريكا في المسألة بغض النظر عن حجم حصتها.
twitter.com/hanybeshr