يمر العالم العربي بحالة فوران داخلية نتيجة طول فترة التردي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وكانت شعلة الفوران هي ثورات الربيع العربي مطلع العقد الثاني من هذه الألفية، ثم خَفَتَ النضال الشعبي على وقع الانتكاسة
المصرية عام 2013، وهو ما كان يذكره د. رفيق حبيب بقوله: "المنطقة مثل أحجار الدومينو، إذا سقط منها حجر سقط الباقي"، ويعني بذلك ارتباط المنطقة ببعضها في
التغيير والانتكاس، وهو توصيف مناسب لمصير المنطقة المشتبكة وحداتها.
وسط الانتكاسة خرجت هبّات شعبية في لبنان والجزائر والسودان، وقد نجح الجزائريون والسودانيون في إزاحة رأس نظاميهما، بينما لا يزال لبنان متعثرا بسبب زعماء الطوائف، ونرجو له الخلاص قريبا.
أصبحت السمة العامة في دول الربيع العربي (تونس، ومصر، وليبيا، واليمن)، والدول المنتفضة لاحقا (الجزائر، والسودان)؛ وجود صراع أشد ضراوة مع الأذرع الداخلية لرؤوس النظم الذين تمت إزاحتهم. وكان الإخفاق الأساسي من نصيب مصر بانقلاب دموي، بينما تصارع ليبيا واليمن في دوامة اقتتال أهلي، وتصارع تونس والجزائر لئلا تدخلان في دوامة الانقلابات العسكرية، بينما يقف
السودان الآن على منعطف قد يودي به إلى انقلاب عسكري دموي، حال اكتماله، أو يستمر السودانيون في نضالهم ضد البرهان وحميدتي لانتزاع حريتهم، ومع نجاحهم ننتظر سقوط باقي "أحجار الدومينو" في المنطقة.
أتصور أن كل من شارك في تظاهرات الربيع العربي، يدعم الآن السودانيين وهم يستكملون مسيرة النضال في منطقتنا
أتصور أن كل من شارك في تظاهرات الربيع العربي، يدعم الآن السودانيين وهم يستكملون مسيرة النضال في منطقتنا، ورغم الفِصام الذي أحدثه زعيم الهزائم عام 1956 عندما أعلن انفصال مصر عن السودان، فإن المصريين المتطلعين إلى الديمقراطية قلوبهم متعلقة بإخوانهم وأخواتهم في النصف الثاني من "
وادي النيل"، يرجون سلامة أرواحهم وأبدانهم من جهة، ويرجون نجاح مقصدهم من جهة أخرى. وأبرز ما في الانتفاضة السودانية الحالية أنها وَعَتْ الدرس المصري الكئيب، فرغم إسقاط البشير في نيسان/ أبريل 2019، لم يكتفوا بهذا النصر المرحليّ، وانتفضوا مرة أخرى أمام انقلاب عسكري يريد سرقة نضالهم ضد الحكم العسكري الجاثم على صدورهم وصدر المنطقة منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
ينتفض السودانيون بإصرار لافت، وعزيمة متجددة تستمد المدد من دماء الشهداء الذين بلغ عددهم 62 منذ انقلاب البرهان في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ولا يعبأون بالتغاضي الدولي عن اتخاذ خطوات حقيقية لدعم حراكهم وإنهاء الانقلاب، أو التواطؤ المصري- الإماراتي- الصهيوني، الداعم للانقلاب العسكري. يتظاهر السودانيون في هذه الأجواء المتآمرة حينا والمتخاذلة حينا آخر، وهم مدركون أن مصيرهم بيدهم وحدهم، ولن ينفعهم سوى ائتلافهم، ولن يضرهم اتفاق المستبدين ضدهم إذا ائتلفوا.
لا أهمّ من نصيحة الانتباه إلى الوقت؛ فالسيسي اعتمد على عدة عوامل لإنجاح انقلابه، منها السخط الشعبي على جماعة الحكم، وهذا أقل العناصر أهمية. أما العنصر الأكثر أهمية فقد ارتكز بشكل أساسي على بوابة الاحتلال، إذ أدرك أن قلب واشنطن في تل أبيب
وإذا جاز لمن عاشوا الانتكاسة المصرية في 2013 أن ينصحوا أشقاءهم في السودان، فلا أهمّ من نصيحة الانتباه إلى الوقت؛ فالسيسي اعتمد على عدة عوامل لإنجاح انقلابه، منها السخط الشعبي على جماعة الحكم، وهذا أقل العناصر أهمية. أما العنصر الأكثر أهمية فقد ارتكز بشكل أساسي على بوابة الاحتلال، إذ أدرك أن قلب واشنطن في تل أبيب، ومن أراد الوصول إلى رضا الولايات المتحدة الأمريكية فلا بد له من الوصول عبر بوابة الاحتلال الصهيوني، كما عمد إلى دفع المليارات لاقتصادات الدول الكبرى لإسكات الأصوات المنتقدة له في المحافل الدولية، وفعل ذلك وهو يسابق الوقت إلى أن أصبح زعيما طبيعيا أمام كل القيادات الدولية والأفريقية رغم دمويته وقمعه الشديدين. وكان قد سبق للاتحاد الأفريقي أن علّق عضوية مصر بعد الانقلاب، ثم أعادها بعد مرور وقت كافٍ سمح للانقلابيين أن يتحركوا في العواصم الدولية لانتزاع الاعتراف بمسارهم.
نظرا لعلاقة عبد الفتاح المصري بنظيره السوداني، فعامل الوقت مع المال الخليجي الداعم للاستبداد في المنطقة سيحكمان استراتيجية البرهان؛ سيسعى إلى استقطاب قوى سياسية مدنية تسانده، وحَسَناً فعل حمدوك باستقالته التي أبعدت أي تواجد مدني تحت ظل سلطة عسكرية مطلقة. وسيربط البرهان التخلف الاقتصادي بطول فترة الاحتجاج، وهذا أخطر ما قد يواجه الاحتجاجات، فمعايش الناس هي أولويتهم، ومن ستضيق به الحياة لن يستمر في تعطيل مقوماتها.
الفَوْرَة التي تموج بها المنطقة ستصبح مقدمة لتغير كبير فيها، فمَشاهد التاريخ كلها تحكي أن كل تغيير كبير يسبقه اضطراب كبير، ونحن أمام مشاهد تشي بأننا مقْدِمون على تغيير واسع في طريقة حكم المنطقة
كذلك عليهم أن يحذروا من سكون حميدتي وعدم ظهوره، فالمستبدون والفاسدون لا يصمتون أمام الاحتجاجات إلا لفترة مؤقتة، فإذا انزاح داعي السكوت أصبحوا أكثر شراسة لئلا يرتفع عليهم صوت مرة أخرى. أخيرا عليهم ألا يأمنوا لقادة الإمارات ومصر وإسرائيل، ولا للمروجين لهم، فقيادات هذه الدول لا تأتِ بخير أبدا، وإذا دخلوا أرضا أفسدوها.
إن الفَوْرَة التي تموج بها المنطقة ستصبح مقدمة لتغير كبير فيها، فمَشاهد التاريخ كلها تحكي أن كل تغيير كبير يسبقه اضطراب كبير، ونحن أمام مشاهد تشي بأننا مقْدِمون على تغيير واسع في طريقة حكم المنطقة. قد تحدث هذا العملية خلال أشهر وقد تمتد لسنوات، وسيبقى النجاح مرهونا بإذكاء الشعوب لجذوة الحرية في نفوسهم، مهما طالت مدة نضالهم، وقد آن لهذه الشعوب أن ترتاح من الفساد والاستبداد.
twitter.com/Sharifayman86