بعد التصفية الدامية التي استهدفت ثورات الشعوب خلال العقد المنقضي من تاريخ الثورات العربية بقيت الأنظار متجهة نحو التجربة التونسية التي تعيش اليوم أخطر أطوارها بما أنها آخر الثورات كما كانت أوّلها. فإثر انقلاب 25 يوليو جويلية الأخير تقدمت البلاد خطوات نحو مربّع الاستبداد من جديد بعد إغلاق البرلمان ومصادرة السلطة التشريعية وخنق حرية التعبير وسجن المعارضين السياسيين وصولا إلى خطفهم واحتجازهم دون مسوّغ قانوني.
عاد مؤشر الخوف الفردي والجماعي إلى مستواه القديم وسط أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة لم تعرفها البلاد طوال تاريخها الحديث بعد أن اختفت السلع الأساسية من رفوف المتاجر وارتفعت الأسعار وهيمن التوجّس على كل طبقات المجتمع. سقطت البلاد في فخ الخطاب الشعبوي للرئيس الجديد، فيما تؤكد تسريبات عديدة عن تواجد أجهزة أجنبية تشرف على إجهاض الثورة ومسار البلاد الانتقالي بتواطؤ ومشاركة قوى داخلية.
بعد الوعود الكاذبة وأساطير الإنقاذ والتصحيح والإصلاح ومحاربة الفساد بدأ يتكشّف للمشككين أن ما سُمّي حركة تصحيحية لم يكن في الحقيقة سوى انقلاب مكتمل الأركان على الثورة أولا وعلى التجربة الديمقراطية الوليدة ثانيا وعلى حرية شعب تونس ثالثا.
انقلاب بقناع ثوري
اللافت في المشهد التونسي أنه استنسخ جزءا من المنوال المصري عندما وسم أحداث 25 جويلية (تموز/ يوليو) بالثورة في تسمية محتشمة تحاول محاكاة انقلاب 30 جويلية في مصر. ففي مصر تقاليد قديمة في تزييف الثورات والانقلابات فقد سمي الانقلاب على الملكية ثورة الضباط الأحرار وبقي كذلك في ذاكرة المصريين وهو الأمر الذي نسج عليه قائد الانقلاب في مصر محاولا طمس ثورة 25 يناير الأصلية.
أما في تونس فقد كان مخطط الانقلاب مكشوفا وقد سرّبت عديد المصادر الإعلامية المعروفة خطة الانقلاب بتفاصيلها الدقيقة موثقة بالدليل والأسماء لتلحق بها مؤخرا وثائق سرية جديدة عن غرفة الانقلاب المشتركة المصرية التونسية الإماراتية خلال زيارة قائد الانقلاب في تونس إلى مصر.
إن أعظم ما حققه الانقلاب في تونس هو الفرز الكبير للنخب السياسية والفكرية إذْ فصل بين عشاق الاستبداد من الجامعيين والسياسين والإعلاميين الذين تسللوا إلى صدارة المشهد فكانوا أول من بارك الانقلاب ودعمه وبين النخب المبدئية التي تسامت عن خلافاتها الأيديولوجية وطالبت بإسقاط الانقلاب.
صبيحة يوم الانقلاب كان لابد من إعلان حركة الانطلاق عبر قيام مليشيات محلية بمهاجمة مقرات حركة النهضة وحرقها زاعمة أن الشعب قد سئم حكم الإخوان وأن الثورة التصحيحية قد انطلقت. تزامن الحدث مع عيد الجمهورية لكي يقنع الانقلابيون الشعب بأن المسار مسار تصحيحي لبناء جمهورية جديدة بعد أن شاركت السلطة الانقلابية نفسها في تأزيم الوضع الاجتماعي مستفيدة من حالة الشلل التي تسببت بها موجة الجائحة في تونس.
لا يمكن لأي منقلب أن ينعت مغامرته بالانقلاب بل يصفها دائما بالثورة أو الحركة التصحيحية كما فعل أغلب المستبدين العرب في مصر وسوريا والعراق. لكن من سوء حظ المنقلب التونسي أنه لم يكن يملك شيئا من أدوات الانقلاب التي كان يملكها غيره من المنقلبين العرب بل كان هو نفسه أداة من الأدوات التنفيذية للمشروع الكبير.
لم تمرّ أشهر قليلة حتى بات الجميع بمن فيهم من وقف معه داعما ومساندا ومشجعا على المغامرة واثقا من فشل التجربة ومن حتمية انهيارها بعد أن بدأت آلة الانقلاب تلتهم من حولها. فالوضع الحقوقي اليوم يُعدّ الأسوأ منذ الثورة وحتى قبلها والوضع الاقتصادي أكثر من كارثي في دولة على حافة الإفلاس أما الوضع الاجتماعي فيوشك على الانفجار.
من الثورة إلى الدكتاتورية الجديدة
كان المسار التونسي ككل مسارات الثورات العربية ملغما قابلا للانفجار لأسباب عديدة منها ما هو متعلق بأداء النخب السياسية التي تسلمت السلطة ومنها ما هو مرتبط بمعطيات خارجية وبغرف الثورات المضادة في الخليج. لم تخفِ الأطراف العربية الداعمة للانقلابات خاصة في مصر والإمارات انزعاجها من إمكان نجاح الثورة التونسية وترسيخ المسار الديمقراطي. وهو الأمر الذي ظهر جليا في أذرعها الإعلامية التي شنّت على البلاد حملة ممنهجة بهدف شيطنة الأحزاب السياسية الثورية واتهام البلاد بتصدير الإرهاب والفوضى.
نجحت هذه القوى في ضرب استقرار البلاد عبر أذرعها في تونس سواء في الإعلام أو في السلطة أو في الأمن أو في غيرها من المفاصل الحساسة للدولة وكان موعد 25 يوليو تتويجا لهذا المخطط الانقلابي. لم ينتظر الانقلابيون طويلا حتى بدأت أنياب الاستبداد الجديد في الظهور عبر تحجير السفر والاعتقال العشوائي وسجن النواب وتلفيق التهم وخطف المدونين نسجا على الدكتاتورية القديمة.
في الجهة المقابلة بدأت جبهة مقاومة الانقلاب في التشكل عبر تنظيمات مختلفة ومن خلال مواقف فردية لشخصيات وطنية سياسية أو فكرية أو إعلامية أو مدنية. لكن الملاحظ في هذه الجبهة الوطنية أنها ضمّت قوى من مختلف المشارب بل جمعت شخصيات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وحدث الفزز الأكبر الذي لم تكن الثورة قادرة على إنجازه فأنجزه الانقلاب.
كشف الانقلاب بشاعة ما يسمى التنظيمات القومية التي كانت وفية طوال تاريخها الدموي للانقلابات عسكريةً كانت أم مدنية فباركت قمع الشعوب باسم محاربة الرجعية. لم يبق مع قائد الانقلاب إلا شراذم القوميين من "حركة الشعب" التي كان قياديوها بالأمس القريب عسس الاستبداد في الجامعات والمعاهد والإدارة يتدثرون بغطاء الوحدة العربية والتقدمية ومحاربة الظلامية.
إن أعظم ما حققه الانقلاب في تونس هو الفرز الكبير للنخب السياسية والفكرية إذْ فصل بين عشاق الاستبداد من الجامعيين والسياسين والإعلاميين الذين تسللوا إلى صدارة المشهد فكانوا أول من بارك الانقلاب ودعمه، وبين النخب المبدئية التي تسامت عن خلافاتها الأيديولوجية وطالبت بإسقاط الانقلاب.
كشف الانقلاب بشاعة ما يسمى التنظيمات القومية التي كانت وفية طوال تاريخها الدموي للانقلابات عسكريةً كانت أم مدنية، فباركت قمع الشعوب باسم محاربة الرجعية. لم يبق مع قائد الانقلاب إلا شراذم القوميين من "حركة الشعب" التي كان قياديوها بالأمس القريب عسس الاستبداد في الجامعات والمعاهد والإدارة يتدثرون بغطاء الوحدة العربية والتقدمية ومحاربة الظلامية.
غدا تضرب تونس الشعبية والسياسية موعدا مع التاريخ بمناسبة عيد الثورة الحادي عشر في جولة جديدة لإسقاط الانقلاب واستعادة الشرعية واستكمال المسار الثوري. إن نجاح الحشود في إسقاط الانقلاب بعون الله سيكون طورا مفصليا في تاريخ تونس المعاصر لأنه سيكون فرصة ذهبية لتصحيح حقيقي يعيد بوصلة الثورة إلى اتجاهها الصحيح. دون ذلك فإن الانقلاب سيعيد البلاد إلى مربّع الاستبداد الذي سيُدخلها في متاهات ومنزلقات مرعبة قد تنتهي بإنهاء الدولة نفسها وانزلاقها في أتون الصراعات الأهلية الدامية حيث سقطت تجارب عربية أخرى لا سمح الله.