جثته، لم يعثر عليها يوما، وتقول شهادات أخذت من متهمين بأنها أذيبت بحامض الكبريت على يد عناصر من الجيش البلجيكي.
بعد 60 عاما على اغتياله، وقبل أيام قليلة، أعلن رئيس النيابة الفدرالية البلجيكية أن عائلته ستستعيد "أثرا" منه يعتبره الكونغوليون "مباركا"، في إشارة إلى إحدى أسنانه التي احتفظ بها من قبل القتلة كنوع من "الذكرى".
وهي سن صادرها القضاء البلجيكي من ابنة أحد مفوضي الشرطة البلجيكية ساهم في إخفاء الجثة.
كان أول رئيس وزراء منتخب في تاريخ الكونغو في آخر أيام الاحتلال البلجيكي لبلاده وأول أيام الاستقلال.
ولد باتريس لومومبا عام 1925 في إقليم ستانليفيل في الكونغو التي كانت تحتلها بلجيكا وقتئذ، لعائلة من النخبة الكونغولية التي حظيت بالتعليم.
عمل بعد أن أنهى دراسته الثانوية في قطاع المناجم لفترة من الزمن، لكنه تركها من أجل إكمال دراسته بمعهد متخصص في البريد والبرق والهاتف، في الوقت نفسه درس القانون والاقتصاد واجتاز عدة دورات دراسية.
قاوم لومومبا الاستعمار البلجيكي على نحو مبكر من حياته وأسس الحركة الوطنية عام 1958 وحظي بشعبية واسعة حينما قاد مظاهرات ومواجهات ضد الاستعمار البلجيكي لبلاده.
كما رأس تحرير جريدة الاستقلال، وقام بالاتصال بعدة أطراف إقليمية ودولية لتأييد حق بلاده في الاستقلال، وكان يحث الجماهير بخطبه النارية وبمقالاته الحماسية في الصحف المحلية والخارجية ما أدى إلى اعتقاله لستة أشهر.
أفرج عنه لاحقا لإنجاح المفاوضات التي كانت تجري في العاصمة البلجيكية بروكسل لبحث مستقبل الكونغو، ونقل من السجن إلى بروكسل بالطائرة، وتم الاتفاق على استقلال الكونغو وإنهاء 80 عاما من الاستعمار البلجيكي.
أجريت انتخابات نيابية عام 1960 وحققت الحركة الوطنية بقيادته انتصارا جيدا.
وحاولت بلجيكا التي كانت تدير البلاد إخفاء النتائج وإسناد الحكم إلى حلفائها، لكن الضغط الشعبي أجبرها على تكليف لومومبا بتشكيل الحكومة، وشكلت أول حكومة كونغولية منتخبة وقام ملك بلجيكا بودوان بتسليمه الحكم رسميا.
وحدثت أزمة سياسية أثناء حفل التسليم، فقد ألقى لومومبا خطابا لا يُنسى ضد الاستعمار، أغضب البلجيكيين، وسمي بخطاب "الدموع والدم والنار"، تحدث فيه عن معاناة الكونغوليين وما تعرضوا له من ظلم واضطهاد.
وكان الملك بودوان قد سبق لومومبا بحديث أغضب الكونغوليين واعتبروه مهينا ويفتقر إلى اللباقة حذر فيه الوطنيين الكونغوليين من "عدم اتخاذ إجراءات متسرعة أو غير مدروسة تؤدي إلى تدمير المدنية التي خلفها البلجيكيون لهم". الأمر الذي أغضب لومومبا واتجه إلى المنصة فقاطع الملك البلجيكي بخطابه المذكور أعلاه.
وهنا ساد صمت مطبق ما عدا همس بين ملك بلجيكا ورئيس وزرائه.
ولم تنعم الكونغو بالاستقلال سوى أسبوعين، فقد دخلت في سلسلة من الأزمات، ووجدت حكومة لومومبا نفسها تواجه أزمات كبرى، تمرد عسكري في الجيش، وانفصال إقليم كتانغا أهم إقليم في الكونغو بدعم من بلجيكا، واضطرابات عمالية.
وقرر لومومبا دعوة قوات الأمم المتحدة للتدخل لمساعدته على توحيد الكونغو وتحقيق الاستقرار، ولكنها تدخلت ضده، وانفض عن لومومبا عدد من حلفائه الأساسيين بدعم أمريكي وبلجيكي، وساءت علاقته مع رئيس الجمهورية الذي أقال الحكومة، ولكن مجلس الشيوخ صوت بأغلبية كبيرة ضد القرار.
بقي لومومبا في المعركة وحيدا، فاضطر إلى اللجوء إلى معقل أنصاره في شمال البلاد قرب الغابة الممطرة ولكن العقيد موبوتو سيسيكو رئيس هيئة الأركان الذي كان حليفا للومومبا سابقا، وتحت التأثير القوي لسفير بلجيكا في الكونغو آنذاك، قد انقلب ضده، واتهمه بأنه متعاطف بل مؤيد للشيوعية، وبخطابه هذا كان موبوتو يبحث عن التأييد والدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
وتواصلت الفوضى بعد إعلان مقاطعة كازائي انفصالها عن الكونغو ودخولها في اتحاد مع كتانغا، ورغم ذلك لم ييأس أنصار لومومبا الذين شنوا حربا ضد موبوتو فاحتلوا بسرعة ثلثي الكونغو، واستغل موبوتو هذه الفوضى فاستولى على السلطة عام 1961 في انقلاب عسكري هو الأول من نوعه في أفريقيا في ذلك الوقت، وألقي القبض على لومومبا واثنين من رفاقه وأعدموا على يد كتيبة إعدام يقودها ضابط بلجيكي يوم 17 كانون الثاني /يناير عام 1961.
وكان ستة جنود سويديين تابعين لقوات الأمم المتحدة حاضرين لحظة الاعتقال.
وتم التخلص نهائيا من الجثث بعد أربعة أيام بتقطيعها إلى قطع صغيرة وإذابتها في حامض الكبريت كان في شاحنة مملوكة لشركة تعدين بلجيكية، وقد اعترف الضابط في لقاء تلفزيوني أجري معه لاحقا بأنه احتفظ باثنتين من أسنان لومومبا "تذكارا" لسنوات عدة، ثم تخلص منهما بإلقائهما في بحر الشمال.
وكادت عائلة لومومبا تواجه نفس المصير لكن وجود الجيش المصري ضمن قوات الأمم المتحدة وفر الحماية لعائلة لومومبا فقد ساعدهم المصريون على الهرب إلى مصر بأوامر من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وبقيادة سعد الدين الشاذلي قائد الفوج المصري في الكونغو، والذي سيصبح فيما بعد رمزا قوميا لانتصار الجيش المصري في حرب عام 1973 ضد الجيش الإسرائيلي.
كان ينظر إلى لومومبا بأنه مؤيد للسوفيات ويمثل تهديدا للمصالح البلجيكية حتى إنه وصف من الحكومة البلجيكية بـ"الشيطان" والرجل الذي "يجب تصفيته".
لم يتبن لومومبا موقفا شاملا في السياسة أو في الاقتصاد، إنما كان أول كونغولي يقدم رواية لتاريخ الكونغو تعارض الآراء البلجيكية الاستعمارية التقليدية، كما أنه أظهر معاناة السكان الأصليين تحت حكم الأوروبيين. وقدم هوية قومية أساسها الصمود في مواجهة الاستعمار إضافة لكرامة الناس الطبيعية وإنسانيتهم وقوتهم ووحدتهم.
وبعد 60 عاما عاد ملف اغتيال لومومبا إلى دائرة الحدث من جديد، فقد وصل التحقيق القضائي الذي فتح في بلجيكا بتهمة "جريمة حرب" مرحلته الأخيرة، ويعتقد أن القضاء البلجيكي في طريقه حاليا إلى جلسة استماع هذا العام لمعرفة ما إذا يمكن أن يؤدي الملف إلى محاكمة في محكمة الجنايات.
ولم يبق على قيد الحياة سوى اثنين فقط من 10 أشخاص تستهدفهم الشكوى، هما الدبلوماسي السابق إتيان دافينيون (88 عاما) والموظف الحكومي الكبير السابق جاك براسين دي لا بويسيير (91 عاما).
وتتهم الشكوى التي اطلعت عليها وكالة "فرانس برس" إدارات عدة في الدولة البلجيكية بأنها "شاركت في مؤامرة واسعة لتصفية لومومبا سياسيا وجسديا". وهي تذكر بأن الجيش البلجيكي نشر 200 ضابط للإشراف على قوات الأمن في إقليم كاتانغا الانفصالي حيث وقعت "جريمة الحرب".
وذهبت محكمة الاستئناف في بروكسل أبعد من لجنة التحقيق للبرلمان البلجيكي التي توصلت في 2001 إلى الإقرار "بالمسؤولية الأخلاقية" لبلجيكا.
في العام التالي قدمت الحكومة البلجيكية "اعتذارا" باسم البلاد للشعب الكونغولي الذي ينتظر "أثرا مباركا" لرجل صنع استقلال بلاده ودافع عن كرامة شعبه ودفع حياته ثمنا لذلك.