"أمرت النيابة اليوم الموافق الثلاثين من كانون الثاني/ يناير
2021 بإحالة المتهم محبوساً إلى محكمة الجنايات لاتهامه بإحراز جوهر الحشيش المخدر
بقصد التعاطي، وتسببه خطأ بإهماله ورعونته وعدم احترازه وعدم مراعاته للقوانين
واللوائح في قتل المجني عليها حال قيادته سيارة تحت تأثير مُسكر ومخدر الحشيش،
وتعمده السير عكس الاتجاه المقرر، وقيادته سيارة بحالة ينجم عنها الخطر".
هذا نص بيان النيابة العامة
المصرية الذي نشرته على صفحتها الرسمية
الفيسبوك في آخر يناير من العام الماضي، والتي أقامت فيه
الدليل علي جريمة "هيثم" حفيد رجل الأعمال الشهير "كامل أبو
علي".
النيابة العامة قامت بعمل مهني احترافي محترم وقدمت للمحكمة قضية
متكاملة الأركان "ما تخرش المية"، أقامت فيها الدليل بشهادة خمسة شهود، وأثبتت
الجريمة بمعاينة موقع الحادث، وأحضرت تقارير تثبت تعاطي المتهم المواد المخدرة
والكحول، وفوق كل ذلك أقر المتهم بجريمته وتعاطيه مواد "مخدرة وكحولية"
قبل الحادث الذي تسبب في مقتل مي إسكندر إسحاق.
المحكمة لها رأي آخر
قبل أن أسرد لك حكم المحكمة العجيب، أود أن أخبرك أن كامل أبو علي
من رجال الأعمال المقربين من سلطة الانقلاب، والذي يقدم الخدمات إليها بسخاء بمشاريعه
المليارية وأبرزها مشاريع جمعية الاستثمار السياحي في البحر الأحمر، مكان وقوع
الحادث، بالإضافة لشراكته الخيالية مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المملوكة
للمخابرات العامة!
المحكمة برأت "هيثم" من معظم التهم، وأدانته بتهمة القتل
الخطأ، وحكمت عليه بالحبس سنة واحدة مع الشغل، مع إيقاف تنفيذ العقوبة لمدة ثلاث
سنوات وألزمته بأداء مليون جنيه كتعويض مدني.
حكم عجيب في تركيبته قلما تصدره محكمة في تحقيقات نيابة تمت بمثل هذه
الاحترافية.
إذن.. كيف تعاملت المحكمة مع التهم الست التي أسندتها النيابة
للمتهم؟ وكيف بررتها رغم ثبوتها من أكثر من وجه؟ بل كيف تجاوزت اعتراف المتهم علي
نفسه؟
حكم فكاهي ممتع يستدعي إلقاء الضوء علي بعض جوانبه لنتبين كيف تدار
الأمور في دواليب الدولة ودهاليز
القضاء.
ليست له سوابق
"المتهم صغير السن ليس له سوابق مماثلة ما يبعث على الاعتقاد
أنه لن يعود إلى مخالفة القانون".. هذه أولى المخارج التي اخترعتها المحكة
لتبرئته، أوجدت بها رأفة في غير محلها حين قالت "إن المتهم قضي أربعة أشهر
محبوساً على ذمة القضية، ومن ثم ترى المحكمة الوقوف عند هذا الحد وإيقاف عقوبة
السنة المقضي بها لمدة ثلاث سنوات".
اعتراف المتهم
كيف تعاملت المحكمة مع اعتراف المتهم بتعاطيه المخدرات والكحول قبل
الحادث؟
أثبتت المحكمة أن المتهم سويسري الجنسية ولا يجيد التحدث باللغة
العربية، ولم يكن على دراية كاملة بالغالب الأعم من الأسئلة الموجهة من النيابة،
وبهذا أسقطت اعترافاته أمام النيابة وأمرت بإحضار مترجم معتمد من السفارة، ولم تنس
التنويه بأنه لا يجيد من العربية سوى التوقيع باسمه لتبرير توقيعه أمام النيابة
على أقواله!
ماذا عن تقارير المعمل الجنائي بتعاطي الحشيش؟
اعتبرت المحكمة أن جريمة تعاطي المخدر قد ارتكبت خارج مصر في دولة
سويسرا، وهو فعل غير معاقب عليه في القانون السويسري الذي يسمح لمن تجاوز الثامنة
عشرة باستهلاك كمية صغيرة من المخدر دون الوقوع تحت طائلة القانون، والمتهم سويسري
تعاطي سيجارة حشيش قبل دخوله مصر بيومين، فيخضع للقانون السويسري وليس المصري!
مواد كحولية
تقرير مستشفى الغردقة أثبت أن المتهم تفوح من فمه رائحة الكحول
وأتي للمستشفى في حالة سكر، إلا أن معمل الشئون الصحية بالبحر الأحمر أثبت سلبية
عينة البول المأخوذة من المتهم وقرر أنه ليس بها مواد كحولية، وهو ما أخذت به
المحكمة في تبرئة المتهم من هذه التهمة، لكن العجيب أن المحكمة استبعدت تقريرا آخر
صادر عن الإدارة العامة للمعامل المركزية في القاهرة (وهي الجهة الأعلى والأوثق) يقضي
بإيجابية العينة وتعاطي المتهم الكحول بداعي أنها - أي المحكمة - تتشكك في الطريقة
التي تم بها إرسال العينة للقاهرة وأنها لم تتم وفق الأصول الطبية!
القيادة تحت تأثير المخدر
برأته المحكمة منها كونه لم يتعاط الحشيش بمصر، كما أنه مضى يومان
علي تعاطيه خارج البلاد، واعتبرت أقوال المباحث التي أثبتت التعاطي مرسلة وتعبر عن
رأي صاحبها وتحتمل الصدق والكذب.
السير عكس الاتجاه
برأت المحكمة المتهم منها رغم معاينة النيابة، مستندة إلى التشكك
في تضارب أقوال الشهود، رغم دعمها بما قدمته النيابة في تسجيلين لكاميرات مثبتة
بموقع الحادث قررت المحكمة عدم وضوحهما! واعتبرت ما أثبتته تحقيقات المباحث في هذا
الشأن مجرد رأي لمجري التحقيق يحتمل الكذب!
الحكم
حكم المحكمة أدان المتهم في ثلاث تهم هي "تسببه في القتل الخطأ
للمجني عليها مي إسكندر إسحاق"، و"عدم مراعاته لمسلكه في الطريق العام"،
و"قيادة سيارته بحالة ينجم عنها الخطر".
لكنها برأته في تهم "تعاطي الحشيش" و"قيادته تحت
تأثير الكحول" و"تعمد السير عكس الاتجاه"، فأخرجته من جريمة العمد
إلي جريمة الخطأ، مستخدمة كل أساليب التلاعب وحيل الهروب من الأدلة، في درس بليغ
لما آلت إليه أوضاع القضاء الذي يأخذ بمجرد الشبهة في
الجرائم السياسية التي لم
تكتب فيها النيابة سطراً صحيحاً، في حين تعدل عن تحقيقات رصينة احترافية للنيابة،
لمجرد أن المتهم حفيد لرجل مهم لدى الجمهورية الجديدة، يملك المال الذي يشتري به
الذمم والحشيش السويسري الذي ربما أعجبت نكهته قضاة المحكمة!