دامت "أحداث يناير" عشرة أيام سقط خلالها آلاف الجرحى والقتلى. لا يوجد إحصاء موثوق ومتفق عليه حول حجم الأضرار، سوى تقديرات تشير إلى أرقام تتراوح بين 5 و16 ألف شهيد فضلا عن آلاف الجرحى، ومن غير المعروف أيضا حجم الذين هاجروا إلى شمال اليمن. ثمة من يتحدث عن 12 ألف جندي وضابط، وحديث آخر عن 250 ألف جنوبي معظمهم من أبين وشبوة، انسحبوا إلى صنعاء مع الرئيس علي ناصر محمد. للتذكير كان حجم سكان جنوب اليمن يُقَدّرُ حينئذ بمليوني نسمة.
يميز معظم الشهود الأيام الثلاثة الأولى من المعارك، بوصفها الأكثر دموية وبشاعة، إذ كانت الجثث تنتشر في الشوارع و"تدوسها الدبابات أو تنهشها الكلاب". وقعت تصفيات على الهوية و"قُتِلَ سربٌ من الطيارين لأنهم ينتمون إلى أبين" وسُجِنَ 7 آلاف مواطن، سقط بعضهم تحت التعذيب وأُعدِمَ عدد منهم. وقضى 52 قياديا من الحزب الاشتراكي من الطرفين المتصارعين، وهلك 58 عضوا من اللجنة المركزية من أصل 107 أعضاء. وجرى إجلاء أكثر من أربعة آلاف أجنبي بواسطة الأسطول البريطاني وقد تحسنت نفسية بحارته الذين غادروا عدن مهزومين، دامعين ومهانين قبل 18 عاما.
(ستتحسن نفسية البريطانيين أكثر فأكثر عندما يتولى سفيرهم في صنعاء الإشراف على "الحوار الوطني" في سياق "الربيع العربي" عام 2012، فيما السفير الفرنسي يشرف على كتابة دستور يمني جديد، والسفير الأمريكي ينسق مع القوات اليمنية الحملة على الإرهاب).
كانت خسارة الجيش فادحة، إذ سقط سلاح البحرية الذي لجأ إلى أثيوبيا ودُمِّرَ القسم الأكبر من سلاح الطيران، وقسمٌ مهم من الآليات العسكرية، فضلا عن تلك التي رحلت إلى الشمال مع أنصار علي ناصر. أما قيمة الخسائر، فقُدِّرت بمليارات الدولارات. في المحصلة يمكن القول إن ما بنته الدولة الجنوبية خلال 18 عاما من الاستقلال، تحطم القسم الأكبر منه في عشرة أيام.
أكد لي جارالله عمر عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، والشاهد على المجزرة أن نسبة الخسائر بين فريق الرئيس علي ناصر محمد وأنصار خصمه ونائبه علي عنتر، كانت أربعة قتلى مقابل واحد للمجموعة المنتصرة في الحرب. الواضح أن المناطق الخاسرة هي أبين وشبوة ولحج والضالع، فضلا عن عدن في حين كانت حضرموت الأقل تضررا على غير صعيد، ولم تَغِبْ قياداتها الحزبية وعلى رأسها علي سالم البيض القيادي التاريخي الأبرز الذي بقي على قيد الحياة.
سيؤدي البيض ومعه قيادات حضرمية دورا مهما في تشكيل سلطة ما بعد المجزرة، وستنتشر من الآن فصاعدا أسماء حضرمية كانت شبه مجهولة مثل حيدر أبو بكر العطاس (رئيس مجلس الدولة)، صالح أبو بكر بن حسينون (وزير النفط) صالح منصر السييلي (نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية).
يروي جارالله عمر البدايات الأولى لإعادة تشكيل السلطة بطلب من علي سالم البيض: "...اتصل بي محمد سعيد عبد الله (محسن) مساء يوم المجزرة، وقال لي لا تصدق بيان علي ناصر محمد. لم يُقتل علي البيض وهو بجانبي، يمكنك التحدث معه. قال لي البيض وضعنا صعب وبعض الإخوة أصيبوا، يمكنكم أن تشكلوا قيادة سياسية وتتصرفوا إن استطعتم" (فيصل جلول ـ مختصر أخبار اليمن في مرويات جارالله عمر ـ المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان ـ جنيف 2021).
بادر جارالله عمر في 18كانون الثاني/يناير إلى عقد اجتماع ضم 18 عضوا من اللجنة المركزية، بينهم عضوان من المكتب السياسي هما جارالله عمر وسالم جبران، وذلك في منزل أحمد عبد الله المجيدي عضو اللجنة المركزية وعضو مجلس الشعب.
تم الاتفاق بين المشاركين على أن يكون علي سالم البيض (الناجي الوحيد من القادة التاريخيين) أمينا عاما للحزب، وأن يكون نائبه سالم صالح محمد (سيغير البيض المنصب ليصبح مساعد الأمين العام؛ لأن دستور الحزب لا ينص على منصب نائب الأمين العام)، على أن يتولى حيدر أبو بكر العطاس رئاسة مجلس الدولة وياسين سعيد نعمان رئاسة الحكومة، وأن يكون صالح عبيد أحمد وزيرا للدفاع وهيثم قاسم طاهر رئيسا للأركان، وصالح منصر السييلي وزيرا للداخلية وسعيد صالح وزيرا لأمن الدولة ووزراء آخرين. تم الاتفاق على هذه الصيغة التي ناقشها جارالله مع قادة آخرين، كانوا يجتمعون في معاشيق فأُقِرّتْ من دون صعوبات كبيرة.
كان علي البيض يرغب بتعديل أساسي على هذه الصيغة، إذ اتصل بالمجيدي الذي روى مؤخرا تفاصيل الاتصال: "...قال لي بلغني أنكم اجتمعتم في بيتك وخيرا فعلت يا أبا عمرو من أجل وقف نزيف الدم. كنت أوَدُّ لو اقترحتم صالح أبو بكر بن حسينون وزيرا للدفاع لما يمتلك من خبرة طويلة في القيادة العسكرية وهو رجل عاقل. قلت له أتفق معك، ولكن لا تنسى الأمانة العامة للحزب ورئاسة الدولة، وهي الأهم ناهيك عن أن بعض الإخوة قد لا يقبلون ذلك، وتقع مشكلة فقال لي: أنت محق" (جريدة كريتر 6 أيلول ـ سبتمبر 2021).
تبقى إجراءات البيض الإصلاحية في الحزب الاشتراكي، مركز السلطة في جنوب اليمن، وهي الحلقة الأساسية في سياسته الانفتاحية. فقد أصدر الحزب بعد نقاشات مستفيضة دامت شهورا طويلة وثيقة نقدية حملت اسم (مشروع اتجاهات الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل).
يتضح من كلام المجيدي أن سلطة ما بعد المجزرة انتقلت إلى الحضارم (رئاسة الدولة والأمانة العامة للحزب)، وهم الأقل تورطا في النزاعات الجهوية الموروثة بين مناطق "أبين" و"شبوة" من جهة و"لحج" و"الضالع" من جهة أخرى. ولعل هذا الانقسام مازالت ذكراه الأليمة تتفاعل حتى اليوم.
لن يجد علي سالم البيض متسعا من الوقت ليرسم استراتيجية طويلة الأمد لدولته الخارجة من بين أنقاض المجزرة. كان عليه أن يعيد إعمار بلد ضربته أحداث فظيعة ويعيد بناء جيش تقوضت كل أسلحته، وأن يعيد ترميم نفوس أهلكتها أعمال القتل المباشر: جندي مقابل جندي في ثكنة واحدة وموقع عسكري ومركز شرطة وجهاز حراسة واحد. وكان عليه أن يعيد بناء حزب مات نصف قادته قتلا خلال ثلاثة أيام. ذلك كله وسط ضغوط من كل صوب.
كان الحليف السوفييتي الذي اعترف بالمنتصرين في يناير يعاني هو نفسه من عناصر تفكك ستؤدي بعد أقل من أربع سنوات إلى انهياره، وكانت الدول التي تسير في فلكه قد بدأت بتحدي الإرادة الروسية، واشتعلت حركات التمرد في عواصمها، وصولا إلى انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1989، أي قبل عشرين يوما من توقيع اتفاق الوحدة الاندماجية بين علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض في عدن.
حاول البيض التعرف بدقة على الموقف الروسي فزار غورباتشوف الذي قال له: "لا يهمني أن يكون كلامك ماركسيا. يهمني رضى الشعب عنك وعن حزبك. نحن نعتبر أن المنطقة المحيطة بكم هي منطقة نفوذ أمريكي؛ لأن مصالح أمريكا مكثفة فيها. والشعب يرضى عنكم إذا أصلحتم الأمور مع جيرانكم، سواء تم ذلك بالتنسيق أو بالوحدة، ونحن لن نعارض ولن نتدخل" (فيصل جلول. اليمن: الثورتان. الجمهوريتان الوحدة. دار الجديد بيروت عام 2000). سمع البيض كلاما في موسكو كان علي ناصر محمد قد نقله إلى رفاقه قبل أحداث يناير 1986، وكانت الأوساط الشيوعية العربية تتداوله وتتحدث عن إصلاحات داخلية مواكبة لـ "البيريسترويكا والغلاسنوست" التي تتفاعل في العاصمة السوفييتية.
رغم ذلك، لم يتخل الروس عن جنوب اليمن. ساعدوا علي البيض في إعادة بناء الجيش والقوات الأمنية وحذروا الرئيس علي عبد الله صالح من أنهم لن يقفوا على الحياد إذا ما تجاوزت قواته الحدود، أو إذا وفرت التغطية لقوات علي ناصر التي كانت تجري تدريبات في معسكرات علنية في صنعاء؛ تمهيدا للعودة إلى الجنوب.
رسم البيض سياسة خارجية متناسبة مع هذا التطور الخطير ومع نتائج كارثة يناير وتداعياتها المستمرة، فقام بجولة عربية قادته إلى الجزائر وسوريا وليبيا، وهي دول حليفة أو مقربة من جنوب اليمن في حينه، وطمأن هذه الدول إلى استقرار الأوضاع في عدن واستمع من قادتها إلى تفاصيل التطورات التي يشهدها الاتحاد السوفييتي، وإلى وجوب الحفاظ على محور عربي كان معروفا من قبل بـ (جبهة الصمود والتصدي)، وسيطوي البيض صفحة الشائعات التي تحدثت عن اشتراك المعسكرات الفلسطينية في عدن في القتال إلى جانب علي ناصر محمد، وذلك عبر مشاركته في جلسات "المجلس الوطني الفلسطيني" التوحيدي في الجزائر (عام 1987).
وفي السياق نفسه، أقرتْ الأمانة العامة للحزب الاشتراكي التي يتزعمها البيض إرسال حيدر أبو بكر العطاس رئيس مجلس الدولة، تكنوقراطي الحزب الاشتراكي، في جولتين إلى الخليج للحصول على مساعدات بعد طمأنة الجيران إلى أن القيادة اليمنية الجديدة تريد علاقات طبيعية معهم، وأن زمن تصدير الثورة قد انتهى. وكانت هذه الجولة ضرورية أيضا للقول للخليجيين أن الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني طوى الصفحة السابقة، وأنه هو نفسه يريد علاقات جيدة مع أنظمة سياسية مختلفة. والتقى العطاس المهاجرين اليمنيين في الخليج وحثهم على الاستثمار في عدن.
على الرغم من لهجته الحادة إزاء حكومة اليمن الشمالية في بداية تسلمه زمام الأمور في عدن، فقد دعم البيض إجراءات انفتاح وتعاون مع الشمال في مجال أمن الحدود، حيث بات التنقل بين البلدين يتم بالبطاقة الشخصية،
حاول البيض أن يفتح منافذ اقتصادية مع الغرب، فأرسل صديقه وزير النفط صالح أبو بكر بن حسينون إلى باريس، للتفاوض مع شركة (ألف أكيتان) الفرنسية حول خطط للاستكشاف النفطي في جنوب اليمن. كان هذا الاختيار محبذا في أوساط اليسار اليمني والعربي الذي رحب بوصول الاشتراكيين الفرنسيين إلى الحكم مع فرنسوا ميتران، فضلا عن سمعة فرنسا الديغولية الإيجابية في العالم العربي، وفي هذا التوجه افتراق عن شمال اليمن الذي فضل التعاون مع شركة هنت الأمريكية، لكن الوقت ما كان متاحا لكي يتمكن البيض من تطبيق شعاره الشهير ( النفط في خدمة الاشتراكي).
تبقى إجراءات البيض الإصلاحية في الحزب الاشتراكي، مركز السلطة في جنوب اليمن، وهي الحلقة الأساسية في سياسته الانفتاحية، فقد أصدر الحزب بعد نقاشات مستفيضة دامت شهورا طويلة وثيقة نقدية حملت اسم (مشروع اتجاهات الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل). وإذا كان صحيحا أن الوثيقة لا تنحرف باتجاه الليبرالية، إلا أنها تحررت من الخطاب الراديكالي المقفل وفتحت الباب على تفسيرات مرنة للاشتراكية، علما بأن المجتمع في جنوب اليمن هو خليط من الفقراء والبورجوازية الصغيرة في إطار جهوي ـ قبلي، ومن ثم لا وجود لقوى تمثيلية للبورجوازية أو الإقطاع تضغط باتجاه اقتصاد السوق والليبرالية، كما هي الحال في شمال اليمن.
وعلى الرغم من لهجته الحادة إزاء حكومة اليمن الشمالية في بداية تسلمه زمام الأمور في عدن، فقد دعم البيض إجراءات انفتاح وتعاون مع الشمال في مجال أمن الحدود، حيث بات التنقل بين البلدين يتم بالبطاقة الشخصية، وفي تسهيل التنقيب عن النفط بين محافظتي شبوة ومأرب، والأهم من ذلك كله استئناف بحث الخطط الوحدوية بين البلدين. وللإنصاف لا بد من القول إن البيض لم يجد سبيلا آخر غير مواصلة سياسة الانفتاح الخارجية، التي اعتمدها الرئيس علي ناصر محمد منذ العام 1982.
في هذا الوقت، كان شمال اليمن قد وصل إلى مرتبة في العلاقات العربية غير مسبوقة. فقد خرج "منتصرا"مع العراق في الحرب العراقية ـ الإيرانية، وصار عضوا في "مجلس التعاون العربي" إلى جانب مصر والأردن والعراق، ومن ثم بات أمامه هامشا واسعا للمناورة في علاقته مع المملكة العربية السعودية، وباتت لديه تغطية عراقية مهمة وعلاقات ثنائية متطورة مع واشنطن، التي كانت تتعاطى مع صنعاء عبر القناة السعودية، فضلا عن علاقات جيدة مع موسكو بعد الإنذار السوفييتي بعدم التعرض للجنوب.
وسط هذه الأجواء قرر علي سالم البيض أن يطوي الفصل الأخير في النظام الاشتراكي في جنوب اليمن، وأن يسبح في مياه الوحدة الاندماجية مع شمال اليمن. وقد استند في حساباته ليس فقط إلى حلمه العربي الذي تحدث عنه في أكثر من مناسبة، وإنما أيضا إلى معطيات كانت كلها تدفع بهذا الاتجاه، وهي ما سنتناوله في الحلقة المقبلة.
اقرأ أيضا: سالم البيض.. اشتراكي يمني اختبر أفكاره السياسية ودفع ثمنها
اقرأ أيضا: البيض.. هاشمي جذبته القومية والاشتراكية والوطنية الديمقراطية
اقرأ أيضا: البيض.. هكذا انتصرنا على بريطانيا ووحدنا 22 مشيخة وسلطنة
اقرأ أيضا: البيض.. راديكالي بحكومة ثورية هدفها نفط الخليج وتحرير فلسطين
اقرأ أيضا: علي سالم البيض.. فقد مناصبه السياسية بسبب زواجه ثانية
اقرأ أيضا: كيف نجا البيض من مجزرة التواهي ووصل إلى السلطة في معاشيق؟
الأحمر: حذرني السلال من الفقهاء ولست ديك رمضان زمن الأرياني
الأحمر.. مشيخة معمرة في بيئة إسلامية لم تخترقها الكولونيالية
القصة الكاملة لإخفاق التفاهم بين علي سالم البيض والحوثي