لم يكن أحد يتوقع أن قرية "إمغارن"، الواقعة في سلسلة جبال الريف الشامخة، البعيدة بحوالي مائة كيلومتر عن المدينة الأندلسية الموريسكية "شفشاون"، ستجذب أنظار العالم، وتُصبح في زمن قياسي متداولة بكثافة في كل أصناف وسائل الإعلام. فالطفل "
ريان"، الذي لم يتجاوز سنّه الخمسة أعوام، حوّل قريته ووطنه إلى نقطة ارتكاز، وقبلة للنظر والمتابعة، ومدار حديث على الألسن والأفواه.
والحقيقة أن ما حظي به "ريان" و
فاجعة سقوطه في بئر عميقة، من تعاطف الملايين من كل بلاد المعمورة، لم يحظ بمثله كبار الساسة، ولاعبو كرة القدم المحبوبة، وغيرهم ممن شغلوا عقول الناس باختراعاتهم وإنجازاتهم الإنسانية، وحتى جائحة كورونا التي أجبرت ثلثي البشرية على الحجر المنزلي، وفقد الناس ذويهم وأحباءهم، ومن هم أقرب إلى قلوبهم، لم تنل التعاطف والدعوات التي نالها ابن قرية "إمغارن"، المنسية في تضاريس جبال الريف الشاهقة.
تابعنا فاجعة الطفل الصغير "ريان" بالعقل والقلب، وفي لحظات كثيرة لم نتمالك دموعنا، بل لم نستطع الاستمرار في رؤيته ممددا وحيدا في قاع الجبّ، يكابد عتمة الظلام، وقساوة الرطوبة، وضيق التنفس، وانعدام متطلبات البقاء. كنا نتضرع إلى الله أن يشمل برحمته طفلا لا حول له ولا قوة، ذنبه أنه ولد في قرية متناثرة المساكن ومتباعدة المنازل، وانتسب إلى مغرب الظل، حيث ضيق العيش، وضعف الوعي، وعسر الإمكان.
ما حظي به "ريان" وفاجعة سقوطه في بئر عميقة، من تعاطف الملايين من كل بلاد المعمورة، لم يحظ بمثله كبار الساسة، ولاعبو كرة القدم المحبوبة، وغيرهم ممن شغلوا عقول الناس باختراعاتهم وإنجازاتهم الإنسانية، وحتى جائحة كورونا التي أجبرت ثلثي البشرية على الحجر المنزلي، وفقد الناس ذويهم وأحباءهم
والحال أن لفاجعة "ريان" نظيراتها في بقاع عديدة من ربوع
المغرب.. أتذكر، وأنا طفل في سن ريان أو أكبر بقليل، مأساة امرأة كفيفة في بلدتنا سقطت في بئر، لكن ليس بنفس عمق البئر التي سقط فيها ريان، وبعد يومين من البحث عُثر عليها في قاع بئر بعد أن فاحت رائحة جسدها. وقد كنت برفقة بعض أقراني متحلقين حول أفراد عائلتها وهم يجهدون من أجل إخراجها بطرق ووسائل تقليدية.
تدفع فاجعة الطفل "ريان" إلى
طرح الكثير من الأسئلة، كما تُحفز على البحث عن أسباب الاهتمام منقطع النظير الذي حظيت به، والتعاطف الذي احتله "ريان" في قلوب الملايين من الناس، من أديان مختلفة، ولغات وأجناس متنوعة، ومن مجمل بقاع العالم، علما أن حال
الأطفال في واقعنا ليس على أحسن حال، فالعديد منهم يلقون حتفهم بسبب الحروب الداخلية والدولية، وبعضهم يموتون من جراء الأمراض والجوع والهشاشة، ومنهم من هُجروا عنوة وبالقوة فابتلعتهم بطون البحار، وأصبحوا أطعمة للحيتان والأسماك المفترسة.
تدفع فاجعة الطفل "ريان" إلى طرح الكثير من الأسئلة، كما تُحفز على البحث عن أسباب الاهتمام منقطع النظير الذي حظيت به، والتعاطف الذي احتله "ريان" في قلوب الملايين من الناس، من أديان مختلفة، ولغات وأجناس متنوعة، ومن مجمل بقاع العالم
لا شك أن المساحات الكبيرة التي تفتحها الثورة الرقمية ووسائلها سمحت بتدويل صورة الطفل ريان وهو يقبع في قلب جبّ يتجاوز عُمقه 32 مترا، وحيدا لا مؤنس له ولا رحيم، سوى رحمة خالقه. وقد لعبت وسائل الاتصال الحديثة دورا واضحاً في نقل صورته وهو يتململ في مكان سقوطه، ويجهد بجسمه النحيف من أجل التفاعل مع إمدادات الأوكسجين الموجهة إليه وقليل من الماء عسى أن يبقى حيا. غير أن طول مدة بقائه سجين البئر أضعف قواه، والله وحده يعلم نوع الإصابات التي ألمت بمفاصل جسده.
فالصورة المأخوذة من قاع البئر، المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، شكلت مصدر التعاطف الفريد الذي عبر عنه الناس في كل مكان، فقد أبكى وضعُه وهو سجين في قاع البئر كل من شاهده.. أبكى الأطفال واليافعين والبالغين والمسنين، وأكلم الأمهات وخلق فيهن إحساسا بالرحمة، وحرض المواطنين في بقاع الدنيا وفي أرض المسلمين على الإكثار من الدعاء له، والتضرع لخالقه كي يشمله برحمته. وكثيرا ما شاهدت وعّاظا ومرشدين دينيين يجهشون بالبكاء وهو يتوسلون الله أن يقويه ويشد عضده، وينور عتمة مكانه، ويخرجه سالما لوالديه، ولوطنه ولأمته.
وبذلك أيقظت فاجعة الطفل "ريان" ضمير الإنسانية جمعاء، ونبهت الناس إلى قيم الإخاء والتسامح والرفق والتعاطي مع المشترك الإنساني. ولعل اللافت للانتباه أن ما خلقته فاجئة الطفل "ريان" من تجاوب واهتمام و
تآزر وتضامن لم تخلقه أحداث كبرى ألمّت بالإنسانية خلال عقود عديدة.
اللُّحمة التي خلقتها فاجعة الطفل "ريان"، لا سيما في العالم العربي الإسلامي. ففي زمن قياسي أصبح الجميع يتحدثون بلسان واحد، ويعبرون عن شعور موحد، ويشتركون في الدعاء والرجاء نفسه. فهكذا زالت فروقات اللغة، واختلاف المذاهب، وذابت الحساسيات
تتكامل مع الملاحظة أعلاه ملاحظة أخرى تتعلق باللُّحمة التي خلقتها فاجعة الطفل "ريان"، لا سيما في العالم العربي الإسلامي. ففي زمن قياسي أصبح الجميع يتحدثون بلسان واحد، ويعبرون عن شعور موحد، ويشتركون في الدعاء والرجاء نفسه. فهكذا زالت فروقات اللغة، واختلاف المذاهب، وذابت الحساسيات، وتبددت الأحقاد والضغائن، وهو الوضع الذي يُفترض أن يسود ويكون القاعدة المشتركة بين الناس.
وحين أُعلن عن رحيل "ريان" صلى الأطفال الفلسطينيون من أجله، وأقيمت
صلاة الغائب في القدس، وتم نعيه في العديد من مساجد بلاد المسلمين ودور عبادتها، وما زالت فصول الحسرة والتعبير عن الأسى مستمرة في بقاع المعمور.
عكست فاجعة الطفل "ريان"، من جهة ثالثة، القوة الكامنة في نفوس المغاربة ووعيهم الجمعي. والمتابع الموضوعي لسيرورة البحث عن إنقاذ الطفل ريان يلمس - دون شك - درجة التلاحم بين المواطنين من كل مدن المغرب وقراه، والسلطات العامة، فقد أقاموا بتكاتفهم، وصبرهم وتآزرهم ملحمة كبرى قل نظيرها.. لقد حفروا جبلا بكامله، في طبيعة معروفة بطبيعتها الجيولوجية المعقدة، من أجل إنقاذ طفل صغير كان موعده وقدره أن يسقط في بئر عميقة، وأن يكابد الألم والوحدة والظلام، وأن يلقى ربه وحيدا.. فكأن "ريان" جاء ليوقظ ضميرنا الجماعي ويرحل.. لروحه السلام ولذويه وأهله جميل الصبر والسلوان.