الكتاب: القطائع.. ثلاثية ابن طولون
الكاتب: د. ريم بسيوني
الناشر: دار نهضة مصر، الطبعة الأولى، يناير 2022
صدر في مصر مطلع 2022 أحد أهم الكتب في الأدبيات المصرية والعربية خلال هذه الحقبة: "القطائع.. ثلاثية ابن طولون"، تأليف الباحثة والأديبة القديرة الدكتورة ريم بسيوني (عن دار نهضة مصر للنشر).
وهو من الأعمال المدهشة، المتقنة، التي تجمع بين الدراسة العلمية
التاريخية بمنتهى الدقة، وسرد القص الإبداعي بنهج وأسلوب أخاذ، سلس، ومما يجدر أن ينطبق عليه حقا وصف "السهل الممتنع".
نتوقف في هذه السطور أمام جانب البحث التاريخي في هذا الكتاب الزاخر (الذي بلغ سبعمائة صفحة)، أما الإبداع المتفوق والمتألق الروائي فله حديث آخر.
تذكر المؤلفة: "أحمد بن طولون هو أول من أنشأ دولة مستقلة لمصر في العصر الإسلامي، وجيشا مستقلا لمصر منذ عهد الفراعنة. ستتبعها دول أخرى مثل الدولة الإخشيدية والفاطمية، وستتوجها دولة المماليك التي اتخذت من العصر الطولوني مثالا للنجاح والقوة. انتقلت الخلافة العباسية لمصر بالفعل في عهد المماليك. والسلطان المملوكي حسام لاجين من أهم من اهتم بترميم مسجد أحمد بن طولون وإصلاحه. دولة المماليك استلهمت فكرها من أحمد بن طولون في بناء جيش مستقل وإعطاء الحكم لمحارب قوي وتبجيل المحاربين... أحمد بن طولون سمح للمصريين بالالتحاق بجيشه وأعطاهم العطايا وأسكنهم مدينته. يعتبر أحمد بن طولون أول من كون جيشا يضم جنودا مصريين منذ عهد الفراعنة، وقبل جيش محمد علي بنحو ألف عام".
وتضيف الكاتبة:
"يعتبر مسجد أحمد بن طولون أقدم مسجد لم يزل موجودا في مصر، وأكبر مسجد من حيث المساحة. ومع أن مسجد عمرو بن العاص أقدم منه، إلا أنه تغير بشكل كبير مع كثرة التجديدات وعوامل الزمن، بينما بقى مسجد ابن طولون محتفظا بنفسه على الرغم من مرور الأزمنة والحكام... حار متخصصو العمارة الإسلامية في روعة شرفات مسجد أحمد بن طولون، وفي مغزى العرائس المتشابكة المتضرعة للسماء التي تعلو جدار المسجد. وحتى هذا اليوم، لم يوجد مثلها في أي مسجد لا قبل أحمد بن طولون ولا بعده".
وقد أنشأ ابن طولون مدينة جديدة اختطها شمالي شرق العاصمة المصرية القديمة "الفسطاط"، وأسمى هذه العاصمة الجديدة "القطائع".
المؤلفة: "القطائع.. كمدن الأحلام، ضمت كل أجناس الأرض في سلام، وتفاعلت معها لمدة تزيد على ثلاثين عاما".
لكن للأسف كما تذكر: "لم يبق من "القطائع" سوى مسجد أحمد بن طولون، والبيت الذي اكتشف الأثريون جزءا منه... وبقيت أيضا القناطر التي بناها أحمد بن طولون في حي البساتين في القاهرة وهي من أقدم الآثار الإسلامية... في العهد الفاطمي أمر الولاة ببناء سور حول مدينة القطائع المهدمة حتى لا تؤذي عين المارة المتجهين إلى القاهرة. قال عنها المقريزي: (أعلم أن القطائع قد زالت آثارها ولم يبق لها رسم يعرف)".
سنوات من التاريخ:
ولمزيد من التحديد والتوضيح، ترفق وتذكر المؤلفة هذه التواريخ في خاتمة عملها:
ـ عام 642 ميلاديا، 21 هجريا: فتح مصر على يد عمرو بن العاص.
ـ عام 662 ميلاديا، 41 هجريا: قيام الدولة الأموية.
ـ عام 750 ميلاديا، 132 هجريا: قيام الدولة العباسية.
ـ عام 217 هجريا، تولى مصر عيسى بن منصور، وثار أهل مصر ضده بسبب زيادة الضرائب حتى طردوه من مدينة العسكر ومدينة الفسطاط.
ـ 217 هجريا إلى 218 هجريا: قدوم الخليفة المأمون بنفسه لمصر لقمع ثورة المصريين.
ـ 218 هجريا: تولى مصر نصر بن عبدالله.
ـ عام 254 هجريا: تولى مصر أربعة ولاة من الخلفاء العباسيين: مزاحم بن خاقان، أحمد بن مزاحم، أرخوز بن أولوغ طرخان التركي، ثم جاء أحمد بن طولون.
ـ عام 868 ميلاديا، 254 هجريا: أصبح بن طولون نائبا لوالي مصر من الخليفة العباسي.
هو قائد ولكنه منهم:
الصورة التالية التي تصوغها ريم بسيوني بدقة وبلماحية وجمال (صفحة 228)، تنقلنا إلى أجواء عاشها المصريون مع أحمد بن طولون، عند بداية توليه حكم مصر، وأوان التخلص من جامع الضرائب الظالم "ابن المدبر" (والي الخراج):
"...اختفى ابن المدبر، سافر إلى الشام ربما، أو العراق. لا يأمن بطش أحمد، هلل المصريون وتنفسوا، خرجوا إلى الميدان يهنئون أحمد لأول مرة، على أنه أميرهم، فقد استحق اللقب اليوم ولم يستحقه غيره. زغردت النساء، وصاح الرجال باسمه، دعوا له وانتظروا أن يغير مصائرهم المحتومة. قالوا: الأمير ابن طولون قوي في الخير، كريم في البر، قالوا: بنى قصره، وأنشأ الميدان لاستقبال كل المصريين. قالوا: ما فائدة شيخ يدعو لهم ولا يضرب بسيفه على يد الظالم؟ قالوا: الأمير يفهم لغة القدماء، يحلم بالملوك ويحلم بالصالحين، هو مسلم ولكنه فرعون، هو قائد ولكنه منهم. خرج لهم أحمد ووزع اللحم المغمس بالخبز على الناس بنفسه، حملوه من فوق الأرض كما يحمل الجمل صاحبه، خاف عليه الرجال، ولكنه لم يبال. قال بعربيته الفصيحة، إن ما كان من عهد قد انتهى، وإن مصر من اليوم بلد مزدهر، وعد بأن يبني ويعمر، وأن يقضي عمره يدافع ويصد، وعد بأن الكنوز المطمورة في الأعماق هي لبناء الصروح، قال إن "القطائع" ليست ككل المدن، هي مدينة العدل والرخاء.
ثم نطق بكلمات انتظرها الناس بصبر وتصميم، قال؛ إن كل القوانين التي سنها والي الخراج تعتبر ملغاة. من اليوم لا ضرائب على صيد البحر ولا النطرون ولا الغنائم. ثم نطق كلمات لم يجرؤ غيره على نطقها قال في صوت قوي؛ إن خراج مصر سيكون كبيرا، وإنه هنا ممثل للخليفة، ولكن دنانير مصر لأهل مصر، ولإعمار أرضها، وعندما تعمر الأرض ويعم الخير على أهلها يزيد الخراج ولا يقل. سيبذل المال من أجل مصر، وسيبقى هنا في بلاده التي حلم بها. وعد أيضا بأنه سيطعم الناس يومين من كل أسبوع، وسيقضي معهم هذين اليومين يستمع فيهما إلى شكواهم. من اليوم سيتغير كل شيء. سيبني البيمارستان ويعالج كل ضعيف وقوي، وسيبني المدرسة، ويشيد المسجد".
وعلى لسان "جعفر بن عبدالغفار"، كاتب أحمد بن طولون، متحدثا عنه (صفحة 276): "كنت أصاحب أمير الديار المصرية والشام والحجاز واليمن في جولاته الليلية داخل الفسطاط والقطائع، وأقسم أنه لم ينس ولم يسه يوما عن تفقد حال المصريين طوال ستة عشر عاما. خصص يومين في الأسبوع للاستماع لشكواهم ومقابلة كل أهل مصر. ولع أحمد بن طولون، أيده الله، بالمصريين كان واضحا ليس فقط لي وأنا مصري، بل لجنوده من الأتراك والروم والسودان والنوبة. كل يوم جمعة ينكر في صورة تاجر أو حرفي، ثم يسير في الحارات والطرقات وحده أحيانا، ومعي في أحيان كثيرة".
"يوم عظيم":
مراجع أساسية تعتد بها د. ريم بسيوني، كما تذكر (صفحة 700):
ـ "أبو محمد عبدالله بن محمد المديني البلوى المؤرخ المصري، الذي كتب سيرة أحمد بن طولون بعد موت ابن طولون بحوالي خمسين عاما".
ـ "ابن تغري بردي كتب كتاب: "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة". كتاب من أعظم ما كتب في تاريخ مصر من وجهة نظري. كتبه بأسلوب عالم موضوعي متمرس وبلغة سلسة واضحة".
ـ "عالم آخر من عصر المماليك، جلال الدين السيوطي الذي بلغت مؤلفاته ستمائة مصنف، هو في نظري مصري وطني بجدارة يتكلم عن الهوية المصرية والهوى المصري بإخلاص وصدق، ويذكرنا بعبقريته أننا مهما بلغنا بكتابتنا، فنحن لم نصل بعد".
ومن سيرة أحمد بن طولون التي كتبها البلوى منذ ألف عام أو يزيد، تتوقف د. ريم ـ ونتوقف معها ـ أمام هذه الفقرة، بل ويمكن أن نختم بها حديثنا اليوم. تصف سطورها دعاء المصريين لأحمد بن طولون وقت مرضه، وتذكرها ريم بسيوني في كتابها الخلاب "القطائع.. ثلاثية ابن طولون"، الذي بحق يمزج بسلاسة حقيقية ملفتة، بين البحث العلمي التاريخي الرصين المدقق، والإبداع الروائي الراقي القيم.
نص الفقرة (صفحة 370): "...فخرج المسلمون بالمصاحف إلى سفح الجبل، وتضرعوا إلى الله في أمره بنيات خالصة لمحبتهم له وشكرهم لجميل أفعاله، وكثرة معروفه وإحسانه... فلما رأى اليهود والنصارى ذلك من المسلمين، خرج الفريقان، النصارى معهم الإنجيل، واليهود معهم التوراة، واجتمعت الجماعة كلها في سفح الجبل يدعون الله عز وجل ويتضرعون إليه أن يمن عليه بعافيته، فكان يوما عظيما، وارتفعت لهم ضجة هائلة حتى سمعها في قصره، فبكى لذلك وتضرع معهم إلى الله جل اسمه، والمنية قد قربت".
المؤلفة في سطور:
ـ د. ريم بسيوني أستاذة للغويات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ولها كتب علمية عديدة صدرت عن دور نشر شهيرة أوروبية وأمريكية.
ـ صدرت لها روايات: بائع الفستق ـ دكتورة هناء ـ الحب على الطريقة العربية ـ أشياء رائعة ـ مرشد سياحي ـ أولاد الناس "ثلاثية المماليك" ـ سبيل الغارق.
ـ حصلت على:
جائزة أفضل عمل مترجم في أمريكا عام 2009 عن رواية "بائع الفستق".
جائزة ساويرس للأدب عام 2010 عن رواية "دكتورة هناء".
جائزة نجيب محفوظ لأفضل رواية في 2020 عن رواية "أولاد الناس.. ثلاثية المماليك".
ترجمت أعمالها إلى الإنجليزية والأسبانية والإيطالية واليونانية.