بعد ستة أيام من إعلان الجمهورية اليمنية الموحدة في 22 أيار (مايو) عام 1990 انعقدت القمة العربية في بغداد برئاسة صدام حسين، الرئيس العراقي الذي أراد القمة مناسبة لعرض انتصاره في الحرب الإيرانية ـ العراقية. كان اليمن شريك العراق في الحرب وعلي سالم البيض نجم القمة الأبرز. صفق له الجميع بحرارة لا تخلو من النفاق، وكأنهم يعوضون عن تخاذلهم في السير على خطاه. كانت شجاعته موضع ترحيب بصوت عال من العقيد الراحل معمر القذافي، الذي عرفه وزيرا للخارجية بُعيدَ تسلمه السلطة في ليبيا.
استمع أهل القمة إلى حديث لم يعتادوا سماعه إلا في خطب المعارضة. قال في كلمته: لقد جربنا في جنوب اليمن أن نبني نظاما اشتراكيا وجرب إخواننا في الشمال بناء نظام رأسمالي، فلا الاشتراكية بنينا ولا الرأسمالية. بنى كلّ منا جيشا ضد الآخر وأمنا ضد الآخر واقتصادا ضد الآخر ودولة ضد الدولة الأخرى، ولو أخرجنا النفط سيكون سلاحا لكل منا ضد الآخر.
لذا اتفقنا على الاحتكام إلى الشعب الذي يعتبر أن الوحدة اليمنية مصيره. اتفقنا على توحيد اليمن استنادا إلى الأفضل بين نظامي التشطير، وأن يكون الدستور دليلنا فلا يعلو أحدٌ فوقه، وأن تكون المشاركة وسيلتنا للحكم، واعتبرنا أن النفط يجب أن يكون نِعمة بدلا من أن يكون َنقمة. المرء يكون كبيرا بقدر ما تكون أعماله كبيرة. وحتى نكون كبارا، لا بد أن يكون تفكيرنا استراتيجيا، وأتمنى التفكير الاستراتيجي لكل القادة العرب.
تحتاج تلك اللحظات في خطاب البيض في قمة بغداد إلى اختصاصي في علم النفس لتحليل نظرات وردود فعل القادة العرب، الذين يتربعون على عروش وكراس صنعتها اتفاقيات "سايكس بيكو" في المشرق والقوى الأوروبية في المغرب. معظم القادة لا أثر لهم لولا تلك الصناعة، فإذا بهم يسمعون من يروي لهم أنهم يبنون دولا بعضهم ضد بعض، واقتصاديات بعضهم ضد بعض، وجيوشا بعضهم ضد بعض، وأنهم ليسوا كبارا لأن أعمالهم صغيرة وتفكيرهم جزئي يتناسب مع مباني دولهم.
كان كلام البيض في القمة بمنزلة هجاء للقادة العرب في معرض مديح الوحدة اليمنية. منذ تلك اللحظة ستستقر في النفوس معادلة ضمنية، مفادها أن البيض تخلى طوعا عن رئاسته لدولة عربية مستقلة من أجل مشروع الوحدة.
كان من المفترض أن يكون الرئيس علي عبد الله صالح في الموقع نفسه، أي أن يكون هو الآخر قد تخلى عن الجمهورية العربية اليمنية من أجل دولة الوحدة، لكن أحدا لم ينتقص من موقعه السابق، وذلك لأنه ما زال رئيسا ولأن الدولة الجنوبية تستقر في عاصمته وتحل وزاراتها في وزارات حكومته السابقة، وتسكن الطبقة السياسية الجنوبية في عاصمته بدلا من عاصمتها التي أصبحت في مرتبة ثانية، فضلا عن أن ميزانية الجمهورية هي ميزانية جمهوريته، وسيُعتَمدُ ريالها وليس الدينار عملة الدولة الجنوبية السابقة، فضلا عن أن حجم سكان الجنوب يوازي عشر سكان الشمال، وأن الجيش الشمالي بات الأقوى بعد إنهاك الجيش الجنوبي في أحداث كانون الثاني/يناير 1986؛ لذا صار بوسعنا الاستنتاج بأن دولة الجنوب كانت تندمج في دولة الشمال، وأن ما يجري ليس بالضرورة حاصل جمع الأفضل من الدولتين، وإنما دخول دولة صغيرة في تضاعيف دولة كبيرة.
كان زعماء الشمال يتصرفون ضمنا على الأقل، بأنهم الأصل وأن زملاءهم "يتطهرون" من الماركسية إذا جاز التعبير، ويفعلون ذلك كي يليق بهم الاندماج في الدولة الجديدة.
لم يكن الحال في الشارع الصنعاني مختلفا. ما زلت أذكر عبارة علق بها مرافقي السائق على هذا الحدث السعيد قائلا: "سار علي عبدالله صالح إلى عدن بالليل وجاب الوحدة معه إلى صنعاء، وانتهى الأمر بلمحة بصر". هذا الوصف الشعبي البطولي لسياسة الرئيس اليمني الراحل في الشارع، ما كان يُسهِّلُ نقاش الاعتراضات الجنوبية الناشئة عن صعوبات الاندماج والتعايش في مؤسسات الدولة.
قصارى القول أن دينامية الدمج كانت تسير باتجاه يوحي بأن "الفرع عاد إلى الأصل". وكان زعماء الشمال يتصرفون ضمنا على الأقل، بأنهم الأصل وأن زملاءهم "يتطهرون" من الماركسية إذا جاز التعبير، ويفعلون ذلك كي يليق بهم الاندماج في الدولة الجديدة.
وحتى لا نظلم اليمنيين، لا بد من الاعتراف بأن ألمانيا الشرقية اندمجت هي الأخرى بألمانيا الغربية، فبقيت الغربية وزالت الشرقية، بل دفعت الغربية عشرات مليارات اليوروهات لتسهيل عودة الفرع المفلس والمنهك إلى الأصل، ولا أحد يذكر اليوم ملامح ألمانيا الشرقية في الجمهورية الألمانية الموحدة.
هذه النظرة التي تتناقض مع الاتفاق الاندماجي بين الطرفين، سيكون لها نتائج شديدة السوء، وستفضي إلى ردود فعل جنوبية غاضبة، وستنعكس في تصريحات علنية تفسد تدريجيا أجواء الوئام الوحدوي، وصولا إلى الانشقاق ثم الحرب.
أذكر بعض المشاهد التي لا تبعث على الاطمئنان، والتي عاينتها منذ العام الوحدوي الأول، لفتني حضور شخصيات قبلية جنوبية في مقيل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر. قال لي الشيخ من بعد؛ إن هؤلاء "تخلصوا من القمع وعادوا إلى عاداتهم اليمنية الأصيلة". كانت العودة إلى "الأصول" طبيعية بالنسبة إليه؛ لأن الجنوبيين تحرروا من أجهزة دولتهم السابقة، حيث كانت الألقاب القبلية محرمة ويعاقب عليها القانون.
الشيخ عبد الله الأحمر ضد الوحدة مع الماركسيين
وما زلت أذكر تفاصيل لقاء في أحد فنادق المدينة احتج فيه مثقف كبير ينتمي إلى المناطق الوسطى في النظام الشمالي السابق، إذ قال حرفيا: "هؤلاء الناس حكمونا في العهد الأمامي وفي العهد الجمهوري، واليوم يحكموننا في عهد الوحدة ولن نسمح لهم بذلك"، وكان يقصد الزيود بطبيعة الحال.
لم يكن الحال أفضل بكثير في منزل المهندس حيدر أبو بكر العطاس رئيس الوزراء الجديد، الذي كان يمرر بين الحين والآخر تفاصيل تشير الى أن التوحيد بين الدولتين في غاية الصعوبة، وأن بعض الوزارات تشهد اصطداما "حضاريا" بين موظفين جنوبيين "حداثيين" وموظفين شماليين يعبثون بالنظام والقانون.
طلب منا العطاس (بلال الحسن رئيس تحرير اليوم السابع وأنا) أن نضع عدن على الدوام في مقدمة التغطيات الإعلامية اليمنية "لا تنسوا عدن. لا تهملوا عدن"، الأمر الذي حملنا على الشعور بأن رئيس وزراء الوحدة لا يراهن على اندماج طويل الأمد، وهو الذي أبدى حماسا كبيرا أمام وسائل الإعلام للمصادقة في "مجلس الدولة الأعلى" في الجنوب على الاتفاق الوحدوي بين العليين، في حين كانت الدموع تترقرق من عيون سالم صالح محمد عضو مجلس الرئاسة في أثناء رفع علم الجمهورية اليمنية.
حيدر أبو بكر العطاس كان يقول لي في أول أيام الوحدة: لا تهملوا عدن.
يبقى موقف التيار الإسلامي الذي لم يكن ظاهرا على مقدمة المسرح أقله في شهور الوحدة الأولى. كنت قد طلبت حينذاك من صحفي صديق أن يستدرج دعوتنا لـ "مقيل إسلامي"، وقد تم ما أردنا. وبعد الترحيب بنا من صاحب المقيل، أصرّ على القول؛ إن "الشريعة الإسلامية" تُطبّقُ في صنعاء، وإن "يد السارق تُقطعُ في ظل وجود علي سالم البيض في الحكم. في تاريخ لاحق سيؤكد لي الشيخ عبد الله الأحمر أن الحزب الاشتراكي ليس علمانيا، وأنه صار مع "الشريعة الإسلامية" بعد الوحدة وأن الحكومة اليمنية لن تكون علمانية. وختم بالقول: "لن يحكم علماني اليمن ولو فُنِينا". لا بد من التذكير مجددا بأن الشيخ الأحمر كان يرفض "الوحدة مع الماركسيين"، كما أشرنا في الحلقة السابقة.
ما من شك في أن الحزب الاشتراكي ليس حزبا ملحدا وعلمانيته ليست ضد الإسلام، لكنه في ذلك الوقت وفي كل حين، كان يعتبر أن إدارة الدولة وقوانينها تستمد من الشرائع الحديثة، وأن الشريعة الإسلامية هي أحد مصادر التشريع وليست المصدر الوحيد للقوانين. هذه المفارقة على أهميتها ما كانت تؤخذ بالحسبان في السجال السياسي اليمني ـ اليمني حينذاك.
كانت الأحزاب القومية واليسارية في شمال اليمن منتشية بالوحدة التي تشكل هدفا وحلما كبيرا من أحلامها، لكنها لم تغير خطابها السياسي ولم تغير استراتيجيتها، وكأن الوحدة وفرت لها الفرصة للخلاص من النظام الذي تناهضه على الرغم من دوره في إنجاز الوحدة، بل سمعت أحاديث تقول إن النظام الشمالي هرب إلى الوحدة "للخلاص من أزماته"، وأن ما فعله ليس إنجازا تاريخيا. في حين كانت الوحدة بالنسبة لأنصار علي ناصر محمد، هزيمة إضافية دفعت رموز هذه الجماعة إلى الاندماج من دون شروط في "المؤتمر الشعبي العام"، الذي صار حاميها الوحيد.
ما من شك في أن الحزب الاشتراكي ليس حزبا ملحدا وعلمانيته ليست ضد الإسلام، لكنه في ذلك الوقت وفي كل حين، كان يعتبر أن إدارة الدولة وقوانينها تستمد من الشرائع الحديثة، وأن الشريعة الإسلامية هي أحد مصادر التشريع وليست المصدر الوحيد للقوانين. هذه المفارقة على أهميتها ما كانت تؤخذ بالحسبان في السجال السياسي اليمني ـ اليمني حينذاك.
الواضح أن النظامين الشمالي والجنوبي لم يبذلا جهودا تربوية من أجل تأهيل الرأي العام وتأطيره باتجاه وحدوي، يعطي لكل ذي حق حقه في هذا الإنجاز ويحذر من مغبة أخذه في اتجاه "الأصل والفرع" أو "الفيد والفيد" أو "الأقوى والأضعف" أو ما شابه ذلك. وعندما أدرك الطرفان وجوب تصحيح الأخطاء كان الوقت قد تأخر، فيما التطورات المحيطة باليمن تضفي تعقيدات خطيرة على الوحدة الاندماجية، وتدفع الوضع الداخلي نحو الانفجار.
قادة التيار الإسلامي في اليمن محمد اليدومي وعبد الوهاب الأنسي ونصر طه مصطفى .
في آب ـ أغسطس عام 1990 اجتاح العراق الكويت وأحدث صدمة عربية وإقليمية وعالمية غير مسبوقة. ما كان بوسع اليمن حليف العراق والمستفيد من التغطية العراقية في مواجهة الضغوط الخليجية أن يقف على الحياد، رغم محاولاته الحثيثة لرأب الصدع. وقد وصل الأمر إلى أن يقترع مندوب اليمن في الأمم المتحدة عبد الله الأشطل صديق علي سالم البيض، ضد "حرب تحرير الكويت"، فجاء رد الفعل الخليجي صاعقا، إذ طردت السعودية وحدها حوالي مليون عامل يمني من أراضيها.
حول هذا الجانب، ينقل الدكتور عبد الكريم الإرياني عن جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي في حينه أن اقتراع الأشطل في مجلس الأمن هو الصوت الأغلى في التاريخ؛ إذ كلف اليمن ليس فقط طرد مواطنيه من الخليج، وإنما أيضا حرمانه من المساعدات وتعريضه للعقوبات، فضلا عن خسارته الدعم السياسي والاقتصادي العراقي.
ستترتب عن هذا الحدث نتائج بالغة السوء في اليمن: ارتفعت أسهم التيار الإسلامي الذي عارض احتلال الكويت وأيد المملكة العربية السعودية، وانخفضت أسهم الرئيس علي عبد الله صالح، وانحسر هامش المناورة لديه في العلاقة مع دول الخليج، وصار موقفه أضعف من ذي قبل في موازين القوى الداخلية، فضلا عن الأزمة الاقتصادية الناجمة عن عودة العمالة اليمنية وانحسار وسائل الشمال الاقتصادية، وقدرته على تغطية تكاليف الاندماج ومتطلباته.
يحسب لعلي سالم البيض أنه لم يلعب ورقة الخارج ضد الوحدة اليمنية في تلك الفترة، بل ظل يراهن على الاندماج الذي يحمي صالح في مواجهة التيار الإسلامي من جهة وفي مواجهة الخارج من جهة ثانية. لذا طرح مشروع دمج الحزبين الحاكمين "المؤتمر الشعبي العام" و"الحزب الاشتراكي" ودمج الجيشين، وبذلك يكون الاندماج تاما ومن بعده لا عودة إلى الوراء. (تختلف الآراء حول صاحب المبادرة، فالبعض ينسبها لصالح والبعض الآخر ينسبها للبيض).
ثلاثة أطراف اعترضت على الاندماج بين الحزبين: الأول هو التيار الشمالي في الحزب الاشتراكي اليمني، الذي خلص إلى استنتاج غير معلن مفاده أن الدمج سيلغي أثر هذا التيار في الحياة السياسية اليمنية، التي ستتمحور بعد الدمج على المحاصصة بين شماليين وجنوبيين، لكل منهما الحق الحصري في اختيار ممثليه في الحكم. والثاني هو "التجمع اليمني للإصلاح" الذي اعتبر أن دمج الحزبين يمكن أن يؤدي إلى نظام شمولي فيعود اليمن القهقرى نحو "الديكتاتورية أو الشمولية"، ويصبح "التجمع" بمواجهة كتلة كبيرة في الحكم من الصعب مواجهتها بنجاح. أما الطرف الثالث، فتمثله المجموعة الجنوبية في المؤتمر الشعبي العام التي سيحكم عليها الدمج بالإعدام، وستصبح عرضة للانتقام أو العزل.
الملفت أن الراحل جارالله عمر كان الوجه الأبرز في التيار الشمالي المناهض للدمج داخل الحزب الاشتراكي، وقد تمكن من جمع المتضررين من الوحدة داخل الحزب، ومن ثم تحقيق الأغلبية التي رفضت عرض الاندماج، في حين أن "المؤتمر الشعبي العام" كان مرحبا بالدمج، وكان الرئيس صالح يملك سلطة القرار داخله، ومن ثم حمله على التصويت لصالح الاندماج. سيذهب جارالله إلى أبعد من ذلك في وقت لاحق، إذ أكد لي أنه يدعو البيض وصالح للتخلي عن الرئاسة، وأن ينتخب الشعب اليمني رئيسا ونائبا للرئيس بالاقتراع المباشر.
سيؤدي الموقف الاشتراكي الرافض للدمج إلى اتساع الخلاف بين الحزبين اللذين سيواجهان ضغوطا في الشارع من التيار الإسلامي، ممثلا بـ "التجمع اليمني للإصلاح" الذي يضم الإخوان المسلمين ومعهم جماعة من التجار وأخرى من القبائل، وقد صاروا يمثلون القوة الثالثة في الساحة السياسية اليمنية، هذه القوة التي بات صالح بأمس الحاجة إليها لدعم سلطته التي صارت مكشوفة بعد فشل الدمج وتوجه الحزب الاشتراكي بعيدا عنه.
لا بد من القول إن السنة الثانية من الوحدة كانت تحمل في طياتها إمكانيات عديدة لحماية النظام الجديد، لكن ضغوط الخارج وضغوط الإسلاميين في الداخل وضغوط الجماعة الجنوبية في المؤتمر الشعبي العام، خلقت أجواء احتقان وتشرذم فاقمتها الطرق الارتجالية في إدارة الدولة قيد إعادة البناء.
هكذا وجد البيض نفسه مجردا من كل هامش للمناورة وغير قادر على المشاركة الفعالة في إدارة الدولة المندمجة. في هذا الوقت انطلقت سلسلة من الاغتيالات الشنيعة التي طالت شخصيات جنوبية معروفة، كانت أخطرها محاولة اغتيال رئيس مجلس النواب ياسين سعيد نعمان الذي نجا بأعجوبة في محاولة اغتياله الثانية، وقد نسبت هذه العمليات لمتطرفين إسلاميين كانوا يرددون علنا أنهم لا يريدون الوحدة مع الماركسيين (1992 ـ 1993).
إن السنة الثانية من الوحدة كانت تحمل في طياتها إمكانيات عديدة لحماية النظام الجديد، لكن ضغوط الخارج وضغوط الإسلاميين في الداخل وضغوط الجماعة الجنوبية في المؤتمر الشعبي العام، خلقت أجواء احتقان وتشرذم فاقمتها الطرق الارتجالية في إدارة الدولة قيد إعادة البناء.
في مواجهة محاولات الاغتيال التي وصلت حسب تقديرات الحزب الاشتراكي إلى 150 محاولة، كان البيض يطرح السؤال حول دور أجهزة الأمن الشمالية السابقة في تنظيمها أو على الأقل التكتم على أصحابها أو العلم المسبق بها، الأمر الذي كان الشماليون ينفونه تماما ويقولون إن أجهزة الأمن مختلطة، وأن الجنوبيين صاروا جزءا منها، وأن بوسعهم التحقق من هوية الفاعلين.
وسط هذه الأجواء الصعبة، تمت انتخابات العام 1993 النيابية التي فاز فيها المؤتمر الشعبي العام بالمرتبة الأولى، من دون أن يتمكن من اختراق أي من المحافظات الجنوبية. وحل "التجمع اليمني للإصلاح" في المرتبة الثانية، وجاء ترتيب الحزب الاشتراكي ثالثا، لكنه تمكن من الفوز بكل مقاعد المحافظات الجنوبية.
هذه النتيجة التي تمخضت عن انتخابات ديمقراطية أملتْ تعديلا حتميا في التمثيل الحكومي، الذي اقتضى أن يكون عدد المقاعد الوزارية متناسبا مع حجم التمثيل النيابي. الأمر الذي أطاح بقاعدة المناصفة بين الاشتراكي والمؤتمر، فقد صارت الحكومة ثلاثية التمثيل بدلا من المناصفة، على الرغم من بقاء المهندس حيدر أبو بكر العطاس رئيسا لها، وخسر الحزب الاشتراكي رئاسة مجلس النواب التي ستعود للشيخ عبد الله بن حسين الأحمر زعيم التجمع اليمني للإصلاح.
ستتسبب نتائج الانتخابات وإهمال قاعدة المناصفة بتوسيع التدهور في العلاقات بين علي سالم البيض وعلي عبد الله صالح، وسيبدأ كل طرف بإطلاق خطابه السياسي السجالي؛ إذ طالب العطاس بأن يحكم "منطق النظام والقانون الجنوبي فوضى الشمال"، وطالب البيض باتفاق جديد أكثر وضوحا، وتحدث عن وجوب التخلي عن الحكم الارتجالي (بالتلفون) لصالح سيادة النظام والقانون، في حين رفع المؤتمر الشعبي العام شعار احترام الشرعية التي خرجت من صناديق الاقتراع.
في هذا الوقت، كان نائب الرئيس قد باشر اعتكافه الثالث في عدن، ولم يقسم اليمين على عضويته في المجلس الرئاسي ونيابته للرئيس، وبدا أن احتمال اللجوء إلى العنف ما عاد مستبعدا؛ إذ بلغ التوتر ذروته بعد محاولات الاغتيال حتى وصل إلى دار الرئاسة، حيث تقع مكاتب الرئيس ونائبه. وقد وصل الأمر إلى حد تبادل الاستنفار بين حرس صالح والبيض، وكادت مجزرة أن تقع في رأس السلطة لولا تدخل ياسر عرفات، الذي جاء على عجل إلى حيث الاستنفار وصفع الجنود المستنفرين (بتعمل إيه أنت وهو. إحنا ناقصين دم. يا لله امش من هنا إنت وهو. هذا السلاح من أجل فلسطين وليس للقتال بين الإخوة). هذه العبارات أو ما يشبهها، استخدمها ياسر عرفات خلال توبيخه حرس البيض وصالح، استحضرها من الذاكرة بعد أن رواها لي في حينه السفير الفلسطيني في صنعاء.
اقرأ أيضا: سالم البيض.. اشتراكي يمني اختبر أفكاره السياسية ودفع ثمنها
اقرأ أيضا: البيض.. هاشمي جذبته القومية والاشتراكية والوطنية الديمقراطية
اقرأ أيضا: البيض.. هكذا انتصرنا على بريطانيا ووحدنا 22 مشيخة وسلطنة
اقرأ أيضا: البيض.. راديكالي بحكومة ثورية هدفها نفط الخليج وتحرير فلسطين
اقرأ أيضا: علي سالم البيض.. فقد مناصبه السياسية بسبب زواجه ثانية
اقرأ أيضا: كيف نجا البيض من مجزرة التواهي ووصل إلى السلطة في معاشيق؟
اقرأ أيضا: علي سالم البيض يكتب الفصل الأخير في سيرة النظام الاشتراكي
اقرأ أيضا: قسم الوحدة اليمنية على القرآن الكريم في جبل "حقات"
جلول: هكذا طوى الأحمر الماضي مع الأئمة والسلاطين والاشتراكي
فيصل جلول: لهذا فشلت مطالبة الأحمر بترشيح مدني لرئاسة اليمن
قصة عودة الأحمر إلى صنعاء يوم دفن الغشمي وبقائه بها حتى وفاته