الكتاب: البعد المسيحي للسياسة الروسية في المشرق العربي
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية/2021
للدين دور في السياسة الروسية منذ قيام الدولة الروسية أيام القيصر وحتى يومنا هذا، فقد اعتنت السياسة الروسية بموضوع الدين واتخذت من الدفاع عن الأرثوذكس شماعة لحماية الأقليات وبابا للنفوذ إلى قلب منطقة الشرق الأوسط، لتجد لها موطئ قدم في أراض كانت فيها قبلها فرنسا وإنجلترا والنمسا وبروسيا.
وقد استخدمت روسيا الأدوات نفسها في حلبة الصراع من خلال الإرساليات وإقامة الكنائس والمدارس، وبعد قيام الاتحاد السوفييتي والترويج للإلحاد، كانت المفارقة باستخدام السياسة السوفييتية للدين في أدوار متنوعة بحسب ما تقتضي المصلحة. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، عاد الدين ليرافق العمل السياسي وليكون داعما للسلطة السياسية، ولتعتمد عليه الأخيرة في تبرير حروبها، وتستخدمه في مواجهاتها السياسية الخارجية. هذا ما يقوله في مقدمة كتابه الأستاذ في الجامعة اللبنانية والباحث في الدراسات الإسلامية سليم هاني منصور.
يقدم منصور عرضا لعلاقة روسيا بالمسيحية والأرثوذكس، واهتمامها بالأراضي المقدسة ودفاعها عن الأرثوذكس في مواجهة المذاهب الأخرى مثل الكاثوليكية والبروتستانتية. ويقول؛ إن الأرثوذكسية جزء لا يتجزأ من السياق القومي الروسي، وهي جزء من السطوع الثقافي والفكري والأدبي والموسيقي، حيث تعد أيضا الكنيسة الأرثوذكسية خط الدفاع الروحي الأهم عن الهوية الروسية، مضيفا أن الروس شعب يتعلق بإرث الأجداد شديدي الإيمان، الأمر الذي يجعلهم يرفعونهم إلى مقام القديسين العظام. فالطوباوي سيرغي في القرن الرابع عشر، يعد الأب الروحي الأبرز ليس للكنيسة فقط، بل للأراضي والبلاد والوعي التاريخي للروس، وضريحه في ضواحي موسكو يعد محج كل روسي أرثوذكسي وغير أرثوذكسي أيضا. ومع انشقاق الكنيسة الشرقية (الأرثوذكسية) وفصلها عن الكنيسة الغربية الكاثوليكية، باتت موسكو تعد بمنزلة "روما الثالثة".
أطماع مبكرة
يشير منصور إلى الاهتمام الرسمي الروسي في وقت مبكر بالأراضي المقدسة في فلسطين، حيث كان جزءا مهما من الأعراف الدبلوماسية، فقد تأسست في القدس قنصلية روسية عامة، كما تأسست في أوديسا الشركة الروسية للملاحة والتجارة لتنظيم رحلات دورية للحج بين أوديسا ويافا، وتأسست في بطرسبرغ لجنة فلسطينية خاصة، عُين شقيق الامبراطور الأمير قسطنطين نيكولافيتش رئيسا لها، وأضفي على نظامها الأساسي طابع رسمي استثنائيا. وبفضل المساعدات المالية الروسية، أنشئت في القدس العديد من الكنائس والأديرة والفنادق والمصاح والملاجئ، وقد وصل عدد الحجاج الروس، في عام 1900، إلى الأراضي المقدسة إلى 11 ألف حاج.
يقول منصور؛ إن ميدان التدخل السياسي عن طريق التبشير، لم يبق محتكرا للإنجليز والأمريكيين، فروسيا القيصرية تنبهت إلى أن في الامبراطورية العثمانية طائفة أرثوذكسة، وأرادت أن تسيطر أولا على البطاركة والأساقفة الأرثوذكس، وتتخذهم وسيلة لتحقيق أطماعها السياسية، وهكذا أخذ الروس يشترون الأراضي في فلسطين بخاصة، ويقيمون عليها الأبنية ويتدخلون ساعة يستطيعون في الأمور الدينية والسياسية.
يشير منصور إلى الاهتمام الرسمي الروسي في وقت مبكر بالأراضي المقدسة في فلسطين، حيث كان جزءا مهما من الأعراف الدبلوماسية، فقد تأسست في القدس قنصلية روسية عامة، كما تأسست في أوديسا الشركة الروسية للملاحة والتجارة لتنظيم رحلات دورية للحج بين أوديسا ويافا.
يلفت منصور الانتباه إلى أن معاهدة الصلح "كيتشوك كاينارجي" سنة 1774 التي وقعتها الدولة العثمانية مع روسيا بعد سلسلة من الهزائم على يد روسيا، تعد محطة أساسية في العلاقة بين الروس والأرثوذكس في القدس وبلاد الشام، ومدخلا إلى التغلغل للمنافسة على حماية الأقليات، وبابا للوجود في منطقة ظلت تحلم بها منذ أمد بعيد. فبموجب المعاهدة، سمح للروس بالحصول على امتيازات ضمن البلاد العثمانية، تشمل حماية الأرثوذكس في أي مكان في الدولة، وشجع هذا الوضع روسيا على المطالبة بتوسيع صلاحياتها لتشمل الأماكن المقدسة، الأمر الذي أدى إلى حرب القرم التي اشتبكت فيها روسيا مع تركيا وحلفائها من الفرنسيين والإنجليز.
وقد توافرت أول فرصة حقيقية لروسيا للتدخل في الشؤون الداخلية للامبراطورية العثمانية في عام 1850، عندما ادعت روسيا أن المسيحيين يتعرضون لسوء المعاملة في القدس. لكن القضية انتهت باتفاقية باريس 1856 التي التزم فيها السلطان العثماني رسميا بمنح رعاياه من المسيحيين حقوقا وحريات دينية.
يقول منصور؛ إن الرعايا الأرثوذكس لم يشعروا في السلطنة بعقدة الأقليات، ولم يتعرضوا لاضطهاد طائفي على أساس من أرثوذكسيتهم، فحوادث القمع كانت تتم لأسباب سياسية، أبرزها ارتباط الزعامات الأرثوذكسية بالأطماع التوسعية لروسيا القيصرية التي كانت تدعي حمايتهم، لذلك كانت تلجأ السلطنة إلى العنف لقمع هذه التوجهات، ولا سيما بعد تزايد ضغط الدول الأوروبية الاستعمارية لتصديع السلطنة تحت ستار حماية الأقليات الطائفية والعرقية فيها.
الجمعية الفلسطينية ـ الروسية
يفرد منصور فصلا من كتابه للحديث عن الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية ـ الروسية التي تأسست في عام 1880. هدفت هذه الجمعية، التي حظيت بدعم مالي كبير من الأسر الروسية الكبيرة، إلى مساعدة الروس الذين يفدون سنويا إلى فلسطين لزيارة الأماكن المقدسة، وإنشاء مدارس ابتدائية في فلسطين، وتعليم أبناء الأرثوذكس عقائد إيمانهم وبعض العلوم الضرورية. وأقامت الجمعية مستشفيات ومستوصفات في القدس والناصرة وبيت جالا وبيت لحم ووفرت فيها أدوية مجانية.
وبينما كانت أغلب المدارس التي أنشأتها الإرساليات التبشيرية في القدس، ومن ثم لم يكن يستطيع الوصول إليها إلا أبناء العائلات الكبيرة، كانت المدارس الروسية منتشرة في مختلف القرى؛ ما أتاح لأبناء العائلات الفقيرة الالتحاق بها، كما أنها فتحت المجال لتعليم الفتيات، بحيث يكون عددهن مساويا لعدد الطلاب الذكور. وبلغ عدد المدارس في فلسطين وسوريا ولبنان، 114 مدرسة سنة 1914 تضم 15 ألف طالب وطالبة.
يقول منصور: أتيح للصلة المباشرة بالثقافة الروسية أقل من ثلاثة عقود، فقد بتر نشاط الجمعية فجأة بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، حيث دخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا، في مواجهة روسيا وفرنسا وإنجلترا، فأمرت السلطات التركية بإغلاق المدارس الروسية في كل من فلسطين وسوريا ولبنان، بينما أتاحت مرحلة ما بعد الحرب توطيدا لنفوذ الثقافتين الإنجليزية والفرنسية.
تحولت الجمعية الفلسطينية في المرحلة السوفييتية إلى أكاديمية علوم، واضطرت إلى حصر نشاطها على الدراسات العلمية، وانقطعت صلاتها في ما بعد بموسكو وتبعت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في الخارج. وقد قام الاتحاد السوفييتي ببيع أملاك الجمعية في العام 1964 للكيان الصهيوني في صفقة أطلق عليها "صفقة البرتقال"، فقد دفع الكيان ثمن تلك الأملاك (4.5 مليون دولار) برتقالا وأقمشة. وبتلك الصفقة التي عدت واحدة من أخطر الجرائم الأثرية التي ارتكبتها موسكو بحق التاريخ الروسي في فلسطين، لم يبق لروسيا أرض في حدود الأراضي المحتلة عام 1948.
وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، أصدر البرلمان الروسي قرارا باستئناف نشاط الجمعية، لتعمل على دعم جهود الدولة الروسية في منطقة الشرق الأوسط في المجالات الدبلوماسية والعلمية والثقافية والدينية والاجتماعية. يضيف منصور أن هذه الخطوة تؤكد تنامي البعد الديني في السياسة الخارجية الروسية تجاه المشرق العربي. ويذكر أن الجمعية تشرف على المركز الروسي للثقافة والعلوم في بيت لحم، الذي دشنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حزيران/يونيو 2012. وفي 2013 أنشأت الجمعية مركزا سمته "المركز الاجتماعي لحماية المسيحيين في الشرق الأوسط"، وتم تكليفه بالتعاون مع وزارة الخارجية الروسية وبدعم من الكنيسة الأرثوذكسية، بمتابعة وضع المسيحيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتقديم المساعدات الإنسانية.
الأعمدة الثلاثة
يشير منصور أيضا إلى أنه رغم العداء الواضح الذي أظهره الحكم السوفييتي للدين وللكنيسة، فإنه من جهة أخرى "استعان صراحة بالكنائس من أجل قضايا السياسة الخارجية؛ ففي مرحلة الانفصال التام عن يوغوسلافيا، التي تلت 1948، كانت الكنيسة الأرثوذكسية الرابط الوحيد، لا الرسمي، بل الحقيقي مع ذلك، بين البلدين. وعلى النحو نفسه عام 1955 ـ 1956 حين باشر الاتحاد السوفييتي تقدما بطيئا في أنحاء الشرق الأوسط، استخدم إلى حد بعيد كنيسة أرمينيا المستقلة التي كان لها إشعاع فكري مهم جدا في بلدان مثل سوريا ولبنان. فهناك إذن، إذا تجاوزنا التعارض الأساسي بين الماركسية والمسيحية، تساكن له أيضا غايات سياسية؛ فروسيا التي تدعو إلى محاربة الدين، حينما أرادت أن تحقق نفوذا وتوسعا إقليميا وسياسيا، بعد الحرب العالمية الثانية، تظاهرت بالعطف على رجال الدين، ودعت إلى مجمع مسكوني في موسكو، وحملت إليه المؤتمرين بطائراتها، ثم شرّف ستالين نفسه أولئك المؤتمرين بمقابلته".
يتحدث منصور عن أن البعض يصف روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بأنها باتت تتألف من ثلاثة أعمدة راسخة ومترابطة؛ هي الرئاسة والجيش والكنيسة. ويستشهد بما قاله ألكسندر بونوف، الباحث في مركز "كارنيغي" في موسكو، حول أن بوتين يستخدم الكنيسة، وأن الكرملين نجح في تحقيق أهدافه، فالكنيسة تحولت إلى أداة للتعبير عن سياسات الكرملين الخارجية.
إن الدوافع الدينية تقف جنبا إلى جنب مع المصالح الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية، فضباط الجيش الروسي وأفراده ما تحركوا باتجاه سوريا إلا بتحفيز كنسي كبير. وبحسب منصور، فإن محاولة روسيا استعادة مكانتها على الساحة الدولية، لا يمكن تحقيقه من دون أن يكون لديها رسالة عالمية تبرر حضورها الدولي، وتكون بديلا عن الأيديولجية الشيوعية.
ويورد تحليلا للمحلل السياسي تيمور دويدار حول أن سبب تأييد الطرفين أحدهما للآخر، يعود في الأساس إلى غياب الأيديولوجيا الفكرية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، لذلك يرى بوتين أن الكنيسة الأرثوذكسية باستطاعتها القيام بدور لم شمل الشعب تحت أسس ومبادئ تكون العائلة عمادا فيها. ويشير إلى أن الكنيسة تقف إلى جانب الكرملين في مواجهة الأفكار التي يحاول الغرب تصديرها إلى روسيا، مثل زواج المثليين والإجهاض.
يضيف منصور أن البطريرك الحالي كيريل يدعم عمليا سياسات بوتين، تحديدا في القضايا التي تتعلق بمصالح روسيا الخارجية في أوكرانيا أو سوريا أو في الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية. ويوضح أنه رغم توفر العديد من الأسباب التي تقف وراء التدخل الروسي في سوريا، منها الدفاع عن مصالحها الاقتصادية والعسكرية، والمحافظة على آخر موقع للنفوذ الروسي في منطقة المتوسط، فضلا عن هدفها الاستراتيجي في إثبات دورها في إدارة الشؤون الدولية، إلا أنه لا يمكن تجاهل بعد آخر له تأثيره في تكون الموقف الروسي تجاه القضايا الدولية بوجه عام وتجاه الصراع في سوريا بوجه خاص، يتمثل بمنظور قيمي روحي مصدره الديانة الأرثوذكسية، الذي تعبر عنه المكانة المتنامية للكنيسة الأرثوذكسية في روسيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إذ يتبين من تصريحات متكررة لمسؤولين حكوميين ولقيادات كنسية، أن العامل الديني له نصيب في بناء الرؤية الروسية للصراع في سوريا.
إن الدوافع الدينية تقف جنبا إلى جنب مع المصالح الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية، فضباط الجيش الروسي وأفراده ما تحركوا باتجاه سوريا إلا بتحفيز كنسي كبير. وبحسب منصور، فإن محاولة روسيا استعادة مكانتها على الساحة الدولية، لا يمكن تحقيقه من دون أن يكون لديها رسالة عالمية تبرر حضورها الدولي، وتكون بديلا عن الأيديولجية الشيوعية، وهذه الرسالة لا يجدها الروس إلا بالعودة إلى تاريخهم، حيث تبرز الأرثوذكسية التي ميزت الأمة الروسية عن محيطها المتعدد العرقيات والثقافات.
كيف أسهم غياب الإصلاح الديني في ولادة التنظيمات المتطرفة؟
وثائق نادرة عن قيس سعيّد والسبسي وعالم السياسة بتونس
تأليه الزعيم في سيكولوجيا الجمهور من التماهي إلى التقديس