يُعتبَر الهجوم الروسي المستمر حتى هذه اللحظة على أوكرانيا الحدث الأبرز الذي تشهده القارة الأوروبية منذ عقود طويلة، فلم تشهد هذه القارة مثل هذه النكبة إذا صَحّ التعبير منذ
الحرب العالمية الثانية، لأنّ ما يجري هو حربٌ حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة، قصفٌ واجتياح، تشريدٌ ودمار، قتلى وجرحى، وكأننا أمام حدثٍ تاريخيٍّ كبير..
ولأنّ
اللاجئين الذين يعيشون في أوروبا منذ سنوات واكبوا سابقاً حروباً مماثلة في بلدانهم المنشأ، فقد كانت لهم آراءٌ ومواقف مختلفة من هذه الحرب، وقد بنى كلُّ تيّارٍ موقفه على الأرضيّةِ ذاتِها التي استمدّها من وطنه الأصلي في الشرق الأوسط، وأسقطَ تَبِعات الحرب في مسقط رأسه على ما يجري بين روسيا وأوكرانيا..
ومن خلال متابعتي الحثيثة لمنصات التواصل الاجتماعي الخاصة باللاجئين المقيمين في أوروبا، لاحظتُ وجود أربعة مواقف مُتباينة للاجئين من هذه الحرب، وعلى الرغم من تباينها الواضح إلا أنها تكاد تكون محقَة جميعها وهذا، هو السر الكامن فيما بينها.
الموقف الأول: هو الموقف الرافض وبشكل قاطع للهجوم الروسي على أوكرانيا، وأغلب من يتبنى هذا الموقف هم السوريون ومُناصروهم الذين يرون في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جلاّداً عليهم، وشريكاً في تهجيرهم وتشريدهم، وسبباً مباشراً فيما آلت إليه أوضاع
سوريا حالياً؛ من فقرٍ مُدقع، وتهجيرٍ مُمنهَج لم يتوقف بعد، وإزهاق ملايين الأرواح، واعتقال الكثيرين. وبالتالي بنى هؤلاء موقفهم من الحرب الروسية الأوكرانية على اعتبار أنّ روسيا هي عدوٌّ لهم قبل أن تكون عدواً لأوكرانيا. وإنّ المشاهد الدامية التي تتوالى من أوكرانيا، كان هؤلاء القوم قد عايشوها في سوريا لحظةً بلحظة، فهم وحسب تعبيرهم أكثر من يعرف العقلية الروسية، وأكثر من عانى من ويلات الهجوم الروسي على المدن والأرياف السورية، فتجدهم يستحضرون مآسي وطنهم أمام مأساة أوكرانيا، ليضطرّوا بعد ذلك إلى مُناصرتها أمام الهجوم الروسي، فلا يستطيعون إلا أن يكونوا ضمن هذا السياق، وإلا سوف يجدون أنفسهم مع الروسي في خندقٍ واحد وهذا ما لا يرضونه..
الموقف الثاني: هو موقف اللاجئين الذين قالوا بالفم الملآن إنهم لا يستطيعون أبداً إبداء التضامن مع أوكرانيا ورئيسها فلاديمير زيلينسكي الذي كان قد تعاطف مع دولة الاحتلال الإسرائيلي أثناء عدوانها الأخير على قطاع غزة المحاصر، ومعركة سيف القدس التي استخدمت فيها المقاومة الفلسطينية ولأول مرة سلاحاً نوعياً وصل إلى العمق الإسرائيلي، وأحدثَ تغييراً في موازين القوى، الأمر الذي دفع بالرئيس الأوكراني آنذاك إلى التضامن الواسع مع دولة الاحتلال التي كانت تنهال عليها صواريخ المقاومة من كل حدبٍ وصوب، في حين أنه تجاهل سقوط العديد من الشهداء والجرحى داخل القطاع، وتدمير البنية التحتية والأبراج السكنية، بالإضافة إلى الاقتحام العنيف للمسجد الأقصى المبارك من قبل شرطة الاحتلال..
ولعلّ أغلب من هو مقتنع بهذه الفرضية هم من الفلسطينيين الذين يعتبرون رئيس أوكرانيا حليفاً مهمّاً لدولة الاحتلال، وبالتالي عليه أن يعرف ما معنى الحرب، وما معنى التهجير والتشريد، وما معنى الدمار والخراب، وكيف يمكن للمدنيين ألا يجدوا ركناً يؤويهم من لظى النيران، وما هو شعورك وأنت ترى الأطفال والناس يحجّون إلى الحدود هرباً من جحيم الحرب. بل إنّ بعض أصحاب هذا الفكر راحوا يحسدون الأوكرانيين لأنهم وجدوا من يفتح لهم الحدود ويقدّم لهم يد العون، في حين أُطبِقَ الحصارُ على الفلسطينيين ولم يجدوا سيارة إسعاف تجليهم من أرض المعركة..
الموقف الثالث: وهو الموقف الذي يبني أنصاره وجهةَ نظرهم على دوافع إنسانية، وهم كُثُر، فليسوا من مُحِبّي الروسي، ولا من مُناصري الأوكراني أبداً، حيث راح أمثال هؤلاء يلعنون الحرب بأبلغ العبارات بعيداً عن طرفَي الصراع، لأنّ منظر الأطفال والنساء وهي تفترش محطات المترو والمناطق الحدودية يندى له جبين الفطرة البشرية. فالأولوية بالنسبةِ لهؤلاء هي إيقاف الحرب بغضّ النظر عمّن ينتصر في نهاية المطاف، وعمّن تميل له كفةُ الصراع، فلا الروسي ولا الأوكراني مُهِمٌّ لهم، لأنّ القادة في مثل هذه الحالات يستطيعون البقاء، أما المدنيون وخاصة الأطفال والنساء فهم أصحاب الفاتورة الأكبر، لأنّ التهجير سيكون من نصيبهم، وسوف يجدون أنفسهم الحلقة الأضعف بعد انتهاء الحرب وتقاسم الغنائم بين الأطراف المتصارعة، وبالتالي حَمّل هؤلاء زعماء الاتحاد الأوروبي كامل المسؤولية بعدما فشلوا في إيقاف الحرب، وتمنّوا أن يتم تشكيل عوامل ضغط على طرفَي الصراع من أجل وقف القتال والاحتكام إلى طاولة المفاوضات تجنّباً لسقوط المزيد من الضحايا، وزيادة أعداد المنكوبين الذين تركوا بيوتهم وأملاكهم وراحوا يبحثون عن الأمان، فهل العالم اليوم بحاجة إلى مزيد من اللاجئين والمعذّبين؟! ألم يشبع الكوكب بعد من لحوم المظلومين الذين ذاقوا الأمرّين ولم تنتهِ المأساةُ بعد؟ إلامَ يستمرّ الاقتتال الذي لا يتلوّعُ منه سوى تلك الطوابير البشرية التي تتمخّضُ بعد كلّ صراع؟
الموقف الرابع: وهو الاتجاه الذي بنى أصحابه رؤيتهم على السخرية والتهكم، للهروب من واقع الحرب إلى واقعٍ أقلّ وطأة، أو ربما بدافع عدم الاكتراث لأنّ الغربة ومن قبلها التهجير قد أفنيا أعمارهم، فلا بأسَ بالنسبة إليهم من قليلِ دُعابةٍ أو قسطٍ يَسيرٍ من اللا مبالاة، فأن تنتصر روسيا أو تصمد أوكرانيا لا يعني لهم شيئاً أبداً..
بدأ هؤلاء على منصات التواصل بالتنادي إلى خدمةِ العلم على سياقِ النادرة، وراحوا يحذّرون بعضهم من السوقِ إلى الاحتياط في الجيش لأنّ الكثير من اللاجئين حصلوا على حق المواطنة (الجنسية)، وبالتالي لا بد من النفير للدفاع عن أوروبا وطنهم الجديد، في حين عكف قسمٌ آخر على إطلاق مسميات على الجيش الأوكراني، تحاكي مسميات للفصائل المسلحة في بلادهم، مثل كتيبة "أليكسندر الأوكراني"، وفصيل "أوكراونيون في سبيل الله"، وحركة "قادمون يا أوكرانيا"، وكتيبة "جُند كييف"، ولا مانع لديهم أيضاً من إعطاء الأوكرانيين المهجّرين أرقام هواتف المُهرّبين للوصول إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، وتوجيه النصائح لهم بما يخص قضايا اللجوء في أوروبا، وتزويدهم بأسماء وعناوين مُحامين ومنظمات إغاثية تقدّم لهم يد العون..
إنها الحربُ يا سادة، نعم الحرب التي تفرزُ تناقضاتٍ عجيبةٍ غريبة، وتُخلّف وراءها العديد من الضحايا والأزمات التي تحتاج سنواتٍ عديدة لنفضِ الغبار واستعادة رمق العافية..