سبقت موجةَ
التطبيع العربي الواسع في السنوات الأخيرة؛ حملةٌ من التشويه الإعلامي والثقافي للقضية
الفلسطينية، تبيّن أنّها كانت تمهّد لتحولات جذريّة في منطقة الخليج على مستوى السياسات والخطاب. وقد اتسمت بعض عمليات التطبيع بقدر عال من تعمّد الصدمة
والإقبال الحميمي على العدوّ، وقد كانت مظاهر الصدمة هذه تهدف فيما تهدف إليه، إلى جعل القضية الفلسطينية بآخر نسخة هزيلة من خطابات التعريف بها خلف الظهر، نحو نسخة جديدة أكثر رداءة، تنزع منها نهائيّاً جوهرها العادل الأخلاقي، ثم تلقيها على طاولة وجهات النظر؛ تتنازع ما تبقى من تفاصيلها.
وعلى نحو مستمرّ، منذ بدايات الاستضافة التلفزيونية العربية للشخصيات الصهيونية، في مجالات بروزها المتنوعة، السياسية والثقافية والصحفية وسوى ذلك، كان الموقف الرافض لهذه الاستضافة متصلاً بخطاب المقطاعة الأصيل، إذ الأصل هو المقاطعة.
ومن جهة أخرى كان يدرك هذا الخطاب الرافض، أن السجال مع الصهيوني في القنوات العربية هو سجال في بيت المشاهد العربي، لا في بيت المشاهد الصهيوني، فليس ثمة فرصة جدّية للادّعاء بأنّ هذه الاستضافة تساهم في التأثير على الرأي العام الصهيوني الذي لا يشاهد قنواتنا ولا يعرف لغتنا. فلا وزن لإحراج "الضيف" الصهيوني في قنواتنا، ولا بطولة حقيقية لمذيع في هذا السياق. ولا يقلّ عن ذلك كلّه أهمّية، أن المناقشة المتساوية بين طرفيّ الصراع في الحيّز الإعلامي؛ تُحوّل القضية الفلسطينية من قضية صراعية لها مبادئها الصلبة إلى مسألة ثقافية تسبح وجهاتُ النظر المختلفة في سيلان أبعادها!
كان تفتيت المبادئ الصلبة للقضية الفلسطينية، واحداً من أهمّ أهداف العدوّ الصهيوني، ورافعة خطيرة لأيديولوجيته الاستعمارية، ولدعايته الاستيطانية، ومن ثمّ كانت السرديّة تحتلّ مساحة واسعة في الصراع معه
وقد كان تفتيت المبادئ الصلبة للقضية الفلسطينية، واحداً من أهمّ أهداف العدوّ الصهيوني، ورافعة خطيرة لأيديولوجيته الاستعمارية، ولدعايته الاستيطانية، ومن ثمّ كانت السرديّة تحتلّ مساحة واسعة في الصراع معه، بالرغم من استناده للقوّة وللدعم العالمي الهائل الذي يقف من خلفه في احتلاله فلسطين وتهجيره أهلها وسرقته كلّ ما وقع في مجالها. بيد أن العلاقة بين السردية وبين أدوات القوّة، وما يتصل بذلك من مسارات التمدّد والنفوذ وتكريس الذات، هي علاقة تبادلية، كما يتضح في الأمثلة أعلاه.
لا يمكن، والحالة هذه، الشكّ في الدور الفعّال للتطبيع مع الصهيوني في مجالنا العربي أو الإقليمي، في فسح مجالات التمدّد له. فالبدايات المحدودة تحوّلت إلى نمط عام، وكسرِ قواعد الموقف من الصهيوني، أفضى إلى سيولة جارفة، وإلى ذرائعية مريعة، لا تقيم أدنى وزن لأصل أو ثابت، مقابل تحقيق مصلحة متوهمة أو تافهة. (مثلاً، لأجل "شو" إعلامي، يستهدف نسب المشاهدة، يستضيف برنامج تلفزيوني مؤرّخاً صهيونيّاً يشكّك في حقيقة وجود المسجد الأقصى في فلسطين!).
ولم يكن التسامح مع صور التطبيع المتنوعة، كما في بدايات التطبيع التلفزيوني، تحت عناوين التوازن بين الحسنات الأخرى لمقترف التطبيع وبين سيئاته التطبيعية، إلا اختلالاً في الوعي الذاتي، فكسر المقاطعة، وترسيخ وجود الصهيوني في أرضنا، وإعادة تقديمه للعرب والمسلمين والعالم بما يعيد تعريف قضيتنا من قضية صراعية إلى قضية ثقافية ذات أبعاد ملتبسة.. يبدو وكأنه في منزلة ثانوية بالنسبة لحسنات أخرى يظهرها المطبّع!
الموقف من واقعة التطبيع، أو حادثة تطوير العلاقات بالعدوّ، لا ينحصر في التصوّر الثقافي للقضية الفلسطينية من حيث سياقاتها التاريخية وأصالة انعدام المشروعية لكيان العدوّ في بلادنا فحسب، وإنما أيضاً، من حيث خطورتها الواقعية، فالموقف الحاسم، والحالة هذه، هو موقف واقعي
وبعدما كُسرت المقاطعة بتوقيع اتفاقية أوسلو وما تلاها من هرولة مريبة، بدا الحال وكأنّ ثمة اضطراراً إلى المقارنة بين المطبّعين، ليعلو الصوت في مكان ويخبو في آخر. وبهذا تظهر نسبية الموقف من العدوّ ومقاطعته حتّى لدى من يفترض فيهم مبدئية الموقف، وهو أمر أسوأ من واقعة التطبيع نفسها!
إنّ الموقف من واقعة التطبيع، أو حادثة تطوير العلاقات بالعدوّ، لا ينحصر في التصوّر الثقافي للقضية الفلسطينية من حيث سياقاتها التاريخية وأصالة انعدام المشروعية لكيان العدوّ في بلادنا فحسب، وإنما أيضاً، من حيث خطورتها الواقعية، فالموقف الحاسم، والحالة هذه، هو موقف واقعي بامتياز.
من الأغراض الواقعية في الموقف الصلب من التطبيع.. تلك العلاقة الديالكتيكية بين التطبيع بمجرده والتمدد الاستعماري للعدوّ، فتطبيع وجود العدوّ هو غايته النهائية، وهو في الوقت نفسه من أدوات إعادته إنتاج نفسه وشقه الطرق
للتمدّد في المنطقة والعالم، وهو طمس ثقيل، بفعل الوقائع الماثلة في الواقع، لقوّة حجة الفلسطينيين. فالقبول بالعدوّ هو قبول ضمني بروايته، وطعنة في أصالة الحقّ الفلسطيني، وهذا من حيث أثر الواقع ودلالته بقطع النظر عن نوايا المطبع.
ما لا يقل عن ذلك أهميةً واقعيةً، أن مقترف التطبيع، مهما كانت نواياه وحسناته الأخرى، والتعقيدات والالتباسات التي تحيط به وتجعله يلجأ للتطبيع أو لتطوير العلاقة بالعدوّ، حينما ينزع إلى تطوير هذه العلاقة لا يضع أصحاب القضية، ولا سيما أصحاب الموقف المبدئي من التطبيع، في صورة حركته السياسية هذه، أي لا يشرح لهم دوافعه ولا يبين لهم خطته ولا المآلات التي يرجو الوصول إليها، ولما كان الأمر على هذا النحو، فكيف لصاحب القضية الأصلي أن يتبرع بتمييع خطابه من العدوّ، لصالح مناورة أو استدارة سياسية ليس لديه معلومات كافية عنها؟ أو كيف يجنّد نفسه في خطة، لم تأخذه بعين الاعتبار، ولا يملك معرفة كافية بشأنها؟!
كيف لصاحب القضية الأصلي أن يتبرع بتمييع خطابه من العدوّ، لصالح مناورة أو استدارة سياسية ليس لديه معلومات كافية عنها؟ أو كيف يجنّد نفسه في خطة، لم تأخذه بعين الاعتبار، ولا يملك معرفة كافية بشأنها؟!
بكلمة أخرى أكثر وضوحاً، لا تكفي الثقة، ولا الفهم الظني الناجم عن التحليل الناقص، لغض النظر عن مناورة سياسية تروم تطوير العلاقة مع العدوّ. فهذا موقف يخصم من عناصر قوّة القضية دون الاستناد إلى فهم كامل، وذلك فضلاً عما سبق ذكره عن خطورة واقعة التطبيع بمجرّدها، وعن أنّ أحداً، في المناورة السياسية، لا يمكنه ضمان مآلات مناورته، وبهذا يكون غض النظر عن التطبيع موقفاً مبيوعاً لأجل مجهول ابتداء وانتهاء!
الحديث هنا عما ينبغي أن يكون عليه موقف الفلسطيني ومن ينحاز إليه، فبداهة الأشياء أن يسعى الفلسطيني ما استطاع لتوسيع دائرة مقاطعة العدوّ، ومن ثمّ ينبغي أن يكون موقفه حاسماً في
رفض أيّ اقتراب من العدوّ من أيّ أحد كان، مهما كان موضع ثقة أو أهلاً للمحبّة.
أمّا الحركات السياسية فيمكنها التعبير عن رفضها لهذا الاقتراب باللغة التي تخدمها في واقع تشحّ فيه خيارات الحركات السياسية الفلسطينية، لا سيما المقاومة منها، بينما المتحرر من إكراهات السياسي لا شيء يحمله على إعادة ضبط وضوح موقفه، وإلا لفقدت القضية الفلسطينية تماماً مقولاتها التأسيسية تحت عناوين التماس الأعذار، والإنصاف، والتوازن.. الخ.
هذه الرؤية التجريدية من التطبيع ليست اعتذارية، ولا تهدف إلى اصطناع الموضوعية، وإنما تسعى للقول إن الموقف المبدئي والمصلحة الواقعية يتطلبان رفضاً ثابتاً لاقتراب أيّ أحد من العدوّ، دون أن يعني ذلك المساواة بين كل من يقترف ذلك الموقف، أو حرق السفن وهدم الجسور ومحو خطوط الرجعة مع الجميع وبالقدر نفسه. فالسياقات المتباينة، واختلاف نمط العلاقة بفلسطين وأهلها وقواها، واضح لكل عاقل مميز ببصره وبصيرته، والواقع بالغ التعقيد والصعوبة، والشحّ في الخيارات قاهر.
ليس ثمّة دعوة إذن لوضع الجميع في سلّة واحدة، ولا دعوة للقوى السياسية لمواقف قد تدفّعها ما تبقى لها من هوامش دون فائدة ترجى، وليس في ذلك دعوة لموقف لا يستند إلى الفهم والتحليل، ولكنها دعوة لأن يلاحظ كلّ موقعه ودوره
ليس ثمّة دعوة إذن لوضع الجميع في سلّة واحدة، ولا دعوة للقوى السياسية لمواقف قد تدفّعها ما تبقى لها من هوامش دون فائدة ترجى، وليس في ذلك دعوة لموقف لا يستند إلى الفهم والتحليل، ولكنها دعوة لأن يلاحظ كلّ موقعه ودوره، فلو تجاوزنا التجريد إلى ضرب المثل، فإنه يصعب تفهم فلسطيني، أو إسلامي عربي، لا يرى حادثة تطوير العلاقات التركية
الإسرائيلية الأخيرة إلا من زاوية إحسان الظنّ بالرئيس أردوغان، أو من زاوية السياسات الواقعية التي تحمله على ذلك، دون أن يتلمس واجبه في بيان الموقف من التطبيع من حيث هو.
بالرغم من الطابع التجريدي لهذه المقالة، فلا شك أنّها كتبت بدافع من السجالات التي تلت
زيارة رئيس كيان العدوّ لتركيا، وكنتُ قبل ذلك بأسبوعين
كتبت مقالة بعنوان "عن التطبيع التركي.. والخلط بين الموقف والتحليل" أحاول فيها مناقشة بعض ما أتوقع أنه سيقال بعد الزيارة. وقد كان الأمر كما توقعت، ثمّ ساق بعض محاوريّ أعذاراً غاية في الغرابة، قد تستحق الوقوف معها؛ لا لوجاهتها، بل لدلالتها على انقطاع الوعي التاريخي لدى بعض النخب بالكثير مما يتصل عضويّاً بالقضية الفلسطينية، لكن لعلّ في هذه المقالة ما فيه رؤية تأسيسية كافية.
twitter.com/sariorabi