إنها حرب غير شرعية تتنافى مع أبسط القواعد والقوانين الدولية، وتتسم بالجرأة والتحدي والغطرسة والمغامرة الخاسرة؛ فمهما كانت نتيجة الحرب على أوكرانيا؛ فالخسارة ستلحق بروسيا، وسيكون الوضع الاقتصادي كارثيا كما يبدو في الأفق؛ فهي بدلا من أن تعمل على تعويض كلفة الحرب الاقتصادية، ستتعرض لخسارات إضافية فادحة بسبب العقوبات التي تنتظر الحزمة الرابعة منها.
فروسيا ستخرج خاسرة في كل الأحوال؛ بعد أن تكبدت الكثير من
الخسائر في الأرواح والمعدات من دبابات ومدرعات وطائرات، ناهيك عن آلاف القتلى من الجنود والضباط، بحيث نستطيع القول الآن وبكل ثقة بأن الجيش الأوكراني أذل الجيش الروسي المدجج بكل أنواع الأسلحة الفتاكة ومئات الآلاف من الجنود. ومع أن خسارة أوكرانيا العسكرية أكبر بكثير، إلا أن
روسيا لم تكن تتوقع أن تقع في شر أعمالها، وتتكبد هذه الخسارات، وهي التي كان الجميع يتوقع لها أن تحقق نصرا سريعا على أوكرانيا.
لا يستطيع
بوتين الاستمرار في الحرب إلى ما لا نهاية، ولو استمرت الحال على ما هي عليه الآن من استنزاف للقوات الروسية التي تباطأت حركتها في كثير من المحاور بسبب ضعف الدعم اللوجستي، وبسبب المفاجآت العسكرية من قبل القوات الأوكرانية؛ فذلك يعني أن روسيا تعاني من سوء التخطيط، وستظهر بمظهر العجز، وهو ما سيؤثر على مكانتها كقوة عظمى.
لو استمرت الحال على ما هي عليه الآن من استنزاف للقوات الروسية التي تباطأت حركتها في كثير من المحاور بسبب ضعف الدعم اللوجستي، وبسبب المفاجآت العسكرية من قبل القوات الأوكرانية؛ فذلك يعني أن روسيا تعاني من سوء التخطيط، وستظهر بمظهر العجز، وهو ما سيؤثر على مكانتها كقوة عظمى
لم تكن روسيا تتوقع صمود أوكرانيا ومهاجمتها لقوات الأولى، وشكلت تحركات القوات الأوكرانية صدمة للقيادة العسكرية الروسية. وقد كان للإمداد الغربي لأوكرانيا بالأسلحة المتطورة المضادة للدبابات والطائرات الدور الأكبر في عرقلة زحف القوات الروسية؛ فقد كان متوقعا سقوط كييف في غضون بضعة أيام، كما أشار قادة غربيون ومحللون عسكريون، لكن هذا لم يحدث، وتوقفت أرتال عسكرية ضخمة لأيام طويلة بدون حركة ليس بعيدا عن كييف؛ مما أتاح للأوكرانيين اصطياد أعداد منها بالقاذفات الأمريكية المضادة للدبابات والعربات العسكرية، وقد تسبب القصف الأوكراني بمقتل عدد من الجنود الروس وهروب آخرين، في مشهد يبعث على السخرية.
لو استمرت الحرب على هذه الوتيرة البطيئة، وتكبدت القوات الروسية مزيدا من الخسارة في الأرواح والمعدات؛ فهل سيجرؤ بوتين على الانسحاب حتى يقلل من خسارة قواته دون تحقيق أهدافه التي أعلنها والمتمثلة في إخضاع أوكرانيا وتغيير نظامها، وتعهدها بعدم الانضمام للناتو وأن تكون دولة منزوعة السلاح؟
هنا لا بد من الإشارة إلى أن روسيا اليوم تشكل صورة مصغرة عن الاتحاد السوفييتي السابق الذي لم يكن قادرا على مجاراة الغرب في الدبلوماسية الناعمة، وكانت ردود فعله على دبلوماسية الغرب الناعمة/ الفاعلة تتسم بالعصبية والتحدي، عكس ما كان في الولايات المتحدة التي اعتادت على الاصطياد الذكي في الماء العكر، والتي تعمل بناء على توصيات قطاعات مهمة في الجيش ووزارة الخارجية ومستشاري البيت الأبيض ومجلسي الشيوخ والبرلمان ولجانهما المختلفة، على عكس الاتحاد السوفييتي الذي كانت قراراته غالبا هي قرارات الرئيس منفردا أو بمستشارين غير قادرين على إلزامه بآرائهم وأفكارهم، والذين عليهم أن يصفقوا لإجراءات الزعيم مهما كانت، وإلا اتهموا بالخيانة والتواطؤ مع الغرب..!!
وما يحدث اليوم هو قرار بوتين المغرور بالقوة ولغة التحدي، لذلك فإن انسحابه سيشكل ضربة معنوية قاسية، ولو فكر بالانسحاب فعليه أن يجد مبررات قوية تقنع العالم، وتقنع شعبه بضرورة الانسحاب واحتساب ما كان نوعا من الانتصار، وإلا فإنه سيسقط في غضبة شعبية كبيرة، لا سيما مع العقوبات التي ستفرض على البلاد والتي ستفرم جلد الشعب الروسي، وتفقره وتقضي على آماله بمزيد من الرفاه الذي بالكاد بدأ يحس به، وهو الطامح إلى أن يعيش كما يعيش الأوروبيون، بعد أن تم له التخلص من الاشتراكية التي حرمته من حريته الاقتصادية ورفاهه الاجتماعي.
بالمقابل نلاحظ كيف تلعب الولايات المتحدة وحلفاؤها ألعاب الذكاء الدبلوماسي والحراك السياسي لمزيد من توريط روسيا؛ إذ يكفي أن نقف على موقف الأولى من التدخل المباشر بالحرب، وكيف أصابت روسيا -بأدائها السياسي– في مقتل؛ فقد فرضت عليها عقوبات مؤثرة وفاعلة، قد تتسبب في انهيار الاقتصاد الروسي، بما يؤثر على بوتين شخصيا تأثيرا قد يطيح به.
كلفة تراجع بوتين عن غزوه لأوكرانيا ليست بأفضل من كلفة الاستمرار في حرب مجهولة العواقب، فروسيا في كلا الحالتين خاسرة، وتراجعها عن الغزو لن يعفيها من العقوبات، إلا في حال تم الانسحاب بناء على مفاوضات مع أوكرانيا والناتو
ويكفي أن نقرأ بعمق الاتصال الذي استمر ساعتين بين الرئيسين الأمريكي والصيني الجمعة، لنفهم كيف تتصرف الولايات المتحدة في حربها المعلنة ضد روسيا. وليس ما دار بين الرئيسين لغزا علينا أن نترقب معرفة تفاصيله، فما دار بينهما ركز -بالضرورة- على تهديدات ناعمة للصين من ضرورة عدم قيام الأخيرة بدعم روسيا ومساعدتها في محنتها الاقتصادية القادمة لا محالة، مع تقديم بعض الإغراءات الاقتصادية والأمنية للصين بحيث تنأى بنفسها عن روسيا.
إن كلفة تراجع بوتين عن غزوه لأوكرانيا ليست بأفضل من كلفة الاستمرار في حرب مجهولة العواقب، فروسيا في كلا الحالتين خاسرة، وتراجعها عن الغزو لن يعفيها من العقوبات، إلا في حال تم الانسحاب بناء على مفاوضات مع أوكرانيا والناتو، على أن تُرفع العقوبات، ويتم تعويض أوكرانيا بمليارات الدولارات. أما في حالة الانسحاب الأحادي، فلن يجدي ذلك لروسيا نفعا.
فهل يتراجع بوتين عن مشروعه من دون تحقيق أهدافه؟ وهل يستمر إلى ما لا نهاية؟ أتخيل أن عناده وجبروته الذي بدأ ينهار سيدفعانه إلى الاستمرار، مع أن كلفة الحرب المادية والمعنوية ستكون عالية في كل الأحوال.. لن يتراجع بوتين، وأظنه ذاهبا نحو جحيم حرب معقدة وصعبة، لا كما كان يتوقع؛ فالمساعدات العسكرية لأوكرانيا ستطيل أمد الحرب، إلا إذا تجرأ وضرب وسائط النقل التي تنقل المعدات العسكرية لأوكرانيا، وهذا مستبعد؛ لأنه بذلك يعلن الحرب على
الناتو، وهو ما يمكن أن يورطه في حرب لا قبل له بها وهو الذي حشد معظم قواته العسكرية في أوكرانيا، ولم يبق منها إلا القليل في قواعدها العسكرية.
أقرب السيناريوهات التي أراها ممكنة الحدوث، أن تعمل الدبلوماسية الغربية على خروج بوتين من الحرب متعادلا، لا مهزوما ولا منتصرا، في مقابل تخفيف العقوبات أو إلغائها، مع دفع تعويضات ضخمة لأوكرانيا، من دون أي التزام أوكراني تجاه روسيا وشروطها
أما تهديداته بالصواريخ حاملة الرؤوس النووية؛ فلا أظنه يجرؤ على ذلك بسذاجة، وربما يطيح به قادة الجيش في أثناء حربه المحتملة مع الناتو، بحيث لا تتفاقم الخسارات، وبحيث يحمون روسيا من حرب نووية محتملة، ستنهي الوجود الروسي ودول أخرى من وجه الأرض.
لكن أقرب السيناريوهات التي أراها ممكنة الحدوث، أن تعمل الدبلوماسية الغربية على خروج بوتين من الحرب متعادلا، لا مهزوما ولا منتصرا، في مقابل تخفيف العقوبات أو إلغائها، مع دفع تعويضات ضخمة لأوكرانيا، من دون أي التزام أوكراني تجاه روسيا وشروطها. هذا في حال استمر الدعم الغربي لأوكرانيا بوتيرة أعلى، وبإصرار على ألا يتم افتراس الأخيرة من قبل روسيا.
هذه الحرب من أعقد الحروب وأكثرها فتكا بأدمغة المحللين السياسيين، وتظل التوقعات والتحليلات شأنا ذهنيا محضا مع توفر المعلومات الكافية للخروج بنتائج معقولة، لكن نوايا السياسيين والعسكريين، تجعل التخمين بما سيكون بعيدا عن الواقع أحيانا، لكنها محاولات لفهم طبيعة ما يحدث، وما قد يحدث في قابل الأيام، فلننتظر لنرى من سينتصر في النهاية، الدبلوماسية الناعمة والخبث الغربي؟ أم المدافع والطائرات والإرادة الروسية..؟!!