كتاب عربي 21

سُلطة الكلب

1300x600
(1)
"قوة الكلب" هي الترجمة الشائعة لعنوان الفيلم المرشح لنيل نصيب الأسد في حفل جوائز أوسكار بعد أيام قليلة. و"سُلطة الكلب" هي الترجمة التي تناسب موضوع هذا المقال، لأنني سأتناول خيطا دراميا واحدا من الخيوط المتشابكة التي نسجت منها جين كامبيون فيلمها المتكتم العميق المأخوذ عن رواية أمريكية بعنوان THE POWER OF THE DOG"" لكاتب مغمور يدعى "توماس سافاج"، كتبها في منتصف ستينيات القرن الماضي وظلت مجهولة حتى مطلع الألفية الثالثة، عندما أعادت اكتشافها وتقديمها في طبعة جديدة الكاتبة آني برولكس (مؤلفة جبل بروكباك).

(2)
عنوان الرواية والفيلم مأخوذ من آية في مزامير داود يقول نصها: "أنقذ من السيف روحي، وحبيبتي من قوة الكلب"، أو من "سلطة الكلب" لأن "POWER" تيسر لنا المعنيين، وخاصة أن كلمات المزمور برغم بساطتها تتسع لتأويلات كثيرة في معاني الكلب والحبيبة التي قيل في أحد التفسيرات إنها حياة داود نفسه, ويشير الفيلم إلى أنها الأم روز التي يتعهد ابنها بيتر في مقدمة الفيلم بحمايتها من أي شرور قائلا في برولوج على شاشة سوداء: "عندما مات أبي، لم أكن أرغب في أكثر من أن تكون أمي سعيدة، فأي نوع من الرجال سأكون ‫إذا لم أساعد أمي؟.. ‫إذا لم أنقذها".

لم نكن نعرف كمشاهدين من يقول "الجملة/العهد"، فنسيناها سريعا حتى احتجنا إليها في نهاية الفيلم لنفهم الأحداث المكثفة التي لا تفصح عن الحقائق بسهولة.

تبدأ أحداث الفيلم بشقيقين (فيل وجورج) صاحبي مزرعة كبيرة لتربية البقر في الغرب الأمريكي، الأكبر (فيل) سادي متنمر، يبدو قلقا وحزينا برغم الصخب والحركة النشيطة والسلطة التي يمارسها على الآخرين بنوع من التفاخر والسخرية، حتى من شقيقه الهادئ الذي يصغره بعامين (جورج)، فنسمعه يخاطبه عادة باسم "فاتسو" (بمعنى البدين).

وتتوالى الأحداث في خمسة فصول مختلفة الإيقاع والمدة، أقصرها أقل من ربع ساعة وأطولها يصل إلى ساعة كاملة. الفصل الأول تعريف عام بالشخصيات الخمس الرئيسية: الشقيقان فيل وجورج، والسيدة روز وابنها بيتر، ثم راعي البقر الغائب الحاضر هنري برونكو، وهو شخصية لم تظهر أبدا في الفيلم لكنها حاضرة ومؤثرة على الأحداث كلها من خلال تأثيرها في حياة فيل.

وفي الفصل الثاني يتزوج جورج من روز وتنتقل إلى المزرعة على غير رغبة "فيل"، فيحيل حياتها إلى جحيم بالتنمر والتحطيم النفسي الذي يحولها إلى مدمنة خمر لتتخلص من التوتر والصراع النفسي الشديد.

وفي الفصل الثالث تتكشف جوانب من العزلة النفسية التي يعانيها فيل، فلا يحضر الحفلة التي دعا إليها جورج كلا من الأب والأم وحاكم المنطقة وزوجته، وعندما يأتي في النهاية يفسد كل شيء.

وفي الفصل الرابع يعود بيتر من مدرسته الداخلية لقضاء الإجازة الصيفية ويعثر بالصدفة على المكان السري الذي يخلو فيه فيل بنفسه، حيث يستحم عاريا في بحيرة طبيعية صغيرة، ويحتفظ في صندوق قديم ببعض المجلات عن الثقافة الجسدية عليها توقيع برونكو هنري. يتعرض بيتر للتنمر من مظهره الرشيق الناعم ويتحمل بلا مبالاة الإهانات من فيل وعمال المزرعة حيث يسمونه: "المعتوه" و"المخنث" و"الآنسة نانسي"، لكنه يتألم عندما يرى الحالة التي وصلت إليها أمه من التعاسة وإدمان الخمر، ويخشى من تكرار ما حدث لوالده الذي شنق نفسه بعد إهانة وجهها له "فيل" (وهي معلومة وردت في الرواية ولم يتضمنها الفيلم).

وفي الفصل الخامس والأخير يتقرب فيل من بيتر ليحرضه ضد أمه، ومن ناحية أخرى يحاول أن يدربه على ركوب الخيل ويصنع له حبل رعاة البقر، وكأنه يعيد سيرته مع أستاذه المتوفى برونكو هنري. وفي نهاية هذا الفصل يموت فيل فجأة بعد إصابته بجرح بسيط في يده، ويشك الطبيب أن جرحه تلوث بالجمرة الخبيثة، ما يذكرنا بمشهد يسلخ فيه بيتر جلد بقرة ميتة كانت مصابة بهذا المرض ويعطي جلدها لفيل، تعويضا عن الجلود التي وهبتها أمه للهنود الحمر؛ مخالفة تعليمات فيل الذي يكره المخنثين والفقراء والهنود والسود واليهود وكل من يختلفون عنه وعن تصوراته.

يرجح مشهد النهاية تعمد بيتر التخلص من فيل لأننا نراه يقرأ كتابا طبيا من كتب والده المنتحر عن كيفية انتقال أمراض الحيوان إلى الإنسان، ثم يفتح نسخة جيمس من الكتاب المقدس ويقرأ المزمور 22: "أنقذ روحي من السيف، حبيبتي من قوة الكلب"، ثم يضع الحبل الذي صنعه فيل تحت سريره وينظر من النافذة عند الفجر ويبتسم عندما يرى أمه عائدة مع زوجها جورج، الذي يقف في الباحة الخارجية ويحتضنها في حنان ويقبلها لأول مرة. وينتهي الفيلم بابتسامة بيتر التي توحي لنا بنجاحه في الانتقام من معذب أمه وتنفيذ وعده الذي سمعناه في البداية: أي نوع من الرجال أكون إذا لم أحافظ على أمي وأنقذها؟

(3)
تعبير "أي نوع من الرجال أكون..؟" هو مفتاح الصندوق السري الذي أفتش في محتوياته داخل البيت القوطي الكبير الذي شيّده سافاج وكامبيون في مزرعة آل بوربانك، في فضاء الغرب الأمريكي الغامض.

كلمة غامض هنا تشير إلى الصدمة التي حققها الفيلم بمخالفته لصورة أفلام الغرب (الكاوبوي) السائدة، فنحن لم نر مسدسا ولا معارك ولا عنفا تقليديا، لكننا نكاد نرى أعماق النفس البشرية خلف الصور الشائهة لتصورات الرجولة كما يصرخ بها فيل طوال الفيلم، بينما نقترب شيئا فشيئا من مفهوم آخر للرجولة يقدمه بيتر "المنتقم العلمي الهادئ"، وهذه واحدة من مقولات الفيلم الذي يلمح إلينا بعرض الصراع بين الماضي والمستقبل، بين القديم والحديث، بين الحصان والسيارة، بين القوة والفكر، بين الاندفاع والتخطيط.

هناك صراع رئيس بين مفهومين للرجولة ينتصر فيه بيتر في صدمة النهاية التي تثير الدهشة والنقاش: هل خطط للقتل؟.. هل هو أيضا معقد نفسيا تجاه أمه بما يشبه "نورمان بيتس" بطل هيتشكوك في فيلم "سايكو"؟.. هل هناك إحالة إلى قصة الشقيقين ريموس وروموليس في الأسطورة الرومانية، كما قال فيل في حفل العشاء الذي أقامه تكريما لذكرى مرور 25 سنة على تعرفهما بالمعلم الراحل برونكو هنري: "في نخبنا نحن ريموس وروموليس والذئب الذي ربانا"، وهي قصة تتضمن اختلافات كثيرة عن موت أو قتل الأخ لأخيه أو بمعرفة أعداء آخرين؟

الفيلم مشحون بالرمزيات والإحالات التاريخية والنفسية والبصرية، وفي المركز منها صورة الكلب المتخفي على شكل هضبة، والتي يقف فيل طويلا أمام التلال ليتأملها، بالرغم من أن عمال المزرعة لا يرون شيئا، وعندما يسألونه: ماذا ترى هناك، يرد: إذا كنت لا تستطيع أن ترى شيئا، فهو غير موجود بالنسبة لك.

فيقولون: هل هو حيوان ما؟ وهل رآه آخرون؟.. جورج مثلا؟

يرد: جورج لا.. فقط برونكو هنري الذي رآه. لكنه عندما يتقرب من بيتر ويقف معه أمام التل ويسأله ماذا ترى؟ فيجيب بتلقائية: كلب يجري وينبح.

يندهش فيل لدرجة الصدمة، ليس لأن بيتر عرف ما كان يتصور أنه علامة العبقرية لمعلمه الأسطوري المؤثر، الذي يحتفظ بتذكاراته وحكاياته في كل مكان وطول الوقت، وهذا المشهد يقدم بيتر لأول مرة كند لفيل وليس كتابع ضعيف، كرجل قوي وليس كمخنث..

(4)
مفهوم "الرجولة المتخيلة" يعد الآن حقل دراسات جديدا يقابل حقل الاهتمام بالنسوية، لأنه يدرس الفكر والممارسات الذكورية في ذاتها، وليس من خلال موضوعات الفيمينست الشهيرة.

ولعل كتاب "الرجولة المتخيلة" للكاتبتين مي غصوب وإيما سنكلير يقدم لنا لمحة عن نوعية الدراسات في هذا الحقل، ومنها دراسة لوالتر أرمبروست عن فريد شوقي بوصفه "وحش الشاشة" والرجل القوي الذي يهابه الأشرار، بينما كان في حياته الطبيعية يبكي متوسلا لهدى سلطان ألا تهجره، ودراسة "متنمرة" لحازم صاغية عن "صدام حسين ذكراً" يركز فيها على البداوة مقابل التحضر والعشيرة مقابل الدولة، ودراسات أخرى عن تصنيع مفهوم الرجولة للمجندين في الجيش التركي، حيث ينظر العسكر باحتقار للمدنيين باعتبارهم "ناقصي رجولة" أو أطفالا يحميهم العسكريون. وتتضمن الدراسة شهادات تذكرنا بصورة شهيرة روجها الجيش المصري أثناء ثورة يناير، يظهر فيها مجند (الجيش) يحمل طفلا صغيرا ليحميه (الشعب).

وهذه الفكرة الخاطئة عن "الرجولة المتخيلة" هي التي أنتجت مفهوم "الدكر" في المجال السياسي المصري الحديث، باعتباره أحد ألقاب التمجيد التي وصف بها المؤيدون الجنرال عبد الفتاح السيسي، تأكيدا لأحقيته في قيادة المزرعة!

لا يتحدث فيلم "قوة الكلب" بشكل مباشر عن قضايا الرجولة والأنوثة والخنوثة، ولا يطرح طرحا سياسيا أو يتطرف في تقديم صراع بين "خير" و"شر"، لكنه يؤكد قضاياه بأسلوب هادئ لكنه يضطرم بالغليان الصامت الذي نحسه من الموسيقى ومن التركيز على التفاصيل الدقيقة (مشاهد الكلوز على الأصابع وعضلات الوجه ومجاري التنفس)، واختيار كادرات ضيقة من خلال النوافذ التي تحصر الطبيعة الواسعة في أطر محددة كأنها صور على جدار.

والموسيقى ومشاهد النوافذ تذكرني بأسلوب المبدع المجري العظيم بيلا تار، لكن جين كامبيون تعبر عنه بأسلوبها الخاص الذي لا ينفصل عن أفلامها السابقة باعتبارها صاحبة مشروع سينمائي، وتؤكده بالصورة والمشاعر، كما تؤكده بتفسيراتها وتصريحاتها التي تجاوزت فيها الحديث عن الشخصيات الروائية وتأثير مكبوتاتها التدميرية الكامنة على تصرفاتها (كنت طفل ضعيف ولما أكبر هضربهم مثلاً)، وتجاوزت أو ترفعت عن الخوض الفج في حديث عن الهوية الجنسية المضطربة و"المثلية التعويضية" و"الذكورة الشكلية الهشة" التي يتخفى فيها الضعيف تحت غطاء من القوة الخارجية الوهمية بينما روحه خاوية خربة وثقته مهتزة في ذاته.

وهذا الازدواج بين ذات ضعيفة ومظهر قوي هو الذي يؤدي إلى الغرور الكاذب القاتل والغطرسة الدفاعية التي تتوسع في تخويف الناس، للتخفف من حالة الخوف التي يعاني منها "الدكر الوهمي".

وتصرح جين كامبيون نصاً أن دونالد ترامب واحد من هؤلاء المضطربين المصابين باختلال الهوية والغارقين في "رجولة وهمية متخيلة"، إذ تقول: "عندما لم تمض الأمور في انتخابات الرئاسة مطابقة لرغبات ترامب الدفينة، أصابه نوع من الهوس والانهيار النفسي والفكري والسلوكي، فلم يستطع تقبل خسارته بطريقة متزنة، واختلق خيالا يخدع فيه نفسه. فهذه النوعية من الرجال (ترامب وفيل وغيرهما) لا يقبلون بغير ما يرغبون فيه، حتى لو اخترعوا واقعاً غير الواقع، ورأوا الكلب وأهل الشر في صخور التل!

(5)
نظرا لحالة التكثيف الثري الذي يتضمنه فيلم "قوة الكلب" لم أكتف بمشاهدته على الشاشة، قرأت الرواية الأصلية، والسيناريو الأصلي الذي كتبته كامبيون ثم حذفت منه الكثير عند العرض، حتى أنها حذفت مشهد الافتتاح بالكامل، وهو مشهد عنيف يقوم فيه فيل بإخصاء الثيران بطريقة تثير التقزز، حيث يمر السكين في اللحم الحي ومنظر الدم يلوث يدي فيل العاريتين لأنه يرفض ارتداء قفازات، وإلقاء الأجزاء المقطوعة في النار فتنفجر مثل حبات الفيشار الضخمة.. هذا الوصف كان مفتتح الفيلم كما كان مستهل الرواية التي تبدأ بجملة: "كان فيل دائما يقوم بعملية الإخصاء بنفسه".

فكرة الإخصاء ترتبط سياسيا بتحجيم الناس والمجتمعات، إنها نوع من الحجب والهوس المتكرر لتحديد النسل وربط مفهوم القوة بالندرة: "ما تخلفوش كتير، عشان ماتاكلوش كتير ونصرف كتير". ومن هنا يتضح سلوك البخل عند فيل الذي يسخر من رغبة أخيه في شراء سيارة دودج قديمة: "هل تريد أن تصبح مثل أثرياء اليهود؟" (عبارة وردت في الرواية وحذفها الفيلم كما حذف مشهدا في البداية يختلف فيه فيل مع شقيقه على مبلغ بسيط جدا في دفتر الحسابات)..

(6)
برغم الثراء والسلطة لم يكن فيل سعيداً، وهو ما نجح الممثل "كمرباتش" في تعبيره عن الاضطراب الداخلي بدرجة تقربه من الفوز بأوسكار التمثيل (الرجولي) هذا العام، ربما لأن فيل (كما كتب توماس سافاج في الرواية) لم يكن يشك في أنه يسعى بنفسه إلى نهاية تعيسة سيكون فيها فريسة للكلب الذي يراه في الهضبة، لذلك كان فيل يرفع عينيه في كل حين نحو التل، فلا يرى الكلب فقط ولكن يسمع لهاثه ويشم أنفاسه.

هذه النظرة البعيدة تذكرني بسلوك كثير من الطغاة، حيث كان القذافي ينظر إلى سقف الخيمة، والديكتاتور ينظر عادة إلى السقف أو إلى شيء في الفراغ البعيد. وهو ما يفعله فيل عندما ينظر إلى البعيد نحو التلال والجبال التي تحيط بالمزرعة، حيث يرى الكلب، ربما لأنه بداخله وربما لأنه هو، لأننا في كل الأحوال ندرك أن فيل وأمثاله كلاب وفرائس في نفس الوقت.

إنها حالة من التعاسة تذكرني بثنائية "القسوة والصمت" التي كتب عنها كنعان مكية، فهناك قسوة ظاهرة في كل مكان، وهناك صمت يمثله سلوك جورج الهادئ، وهو صمت مدان في رأيي ورأي كثيرين. وأظن أن أستاذ الإعلام المصري منصور ندا، قد أدان هذا الصمت في موقف أساتذة الجامعة المتغافل عن الدفاع عنه بعد اعتقاله نتيجة مقالات انتقد فيها رئيس جامعة القاهرة..

ختاما أقول إن للكلب صورة متعددة، بحيث لا يمكن تحديده في "فيل" أو في "ترامب" أو في ديكتاتور يتصور نفسه "رجلا" أو "حكيما" أو "صاحب معجزات"، لكن الكلب قد يكون أيضا ملايين الصامتين على سلوك الديكتاتور أو المؤيدين لتنمره على الآخرين، وبطبيعة الحال المشاركين حتى لو كانوا طيبين في ظاهرهم مثل جورج ومدبولي.

لا أقول انتهى النص، لأن الفيلم يستحق كتابات متأنية في خيوط درامية وفكرية وجمالية كثيرة..

tamahi@hotmail.com