الحديث هنا عن
الشعوب المسلمة وتنوعها العرقي.. تحت المظلة الإسلامية والتي استمرت أكثر من 1400 عاما قبل سقوط الخلافة.
العرب والأتراك والأكراد والفرس والأمازيغ والأفارقة، وغيرهم.. وليس الحديث عن الأنظمة الحاكمة التي تشكلت عقب انهيار الخلافة الإسلامية، ولا عن مشروع الملالي أو ما يعرف بالمشروع الصفوي، ولا عن المشروع الكردي الانفصالي أو ما يعرف "بكردستان الكبرى"، فكلها مشاريع تغذيها القوى الاستعمارية، ويديرها بالوكالة نخبة سياسية ولاؤها لأعداء الأمة الإسلامية.. ومثل هذه المشاريع لا تلقى قبولا من غالبية شعوبها، فكلها فخاخ وعراقيل هدفها منع الأمة الإسلامية من استئناف دورها الحضاري.
إذاً وجب التنويه
عندما نتحدث عن
الفرس كشعب نفرق بينه وبين مشروع السلطة الحاكمة، وندرك أن ليس كل الفرس يعيشون في إيران، وليس كل من يعيش في إيران فارسي، وليس كل الشعب الإيراني يؤيد المشروع الصفوي أو مشروع استرداد إمبراطورية فارس التي هدمها الإسلام..
والأنظمة العربية على سبيل المثال ليس لديها مشروع خاص بها، لأنها صممت لخدمة المشروع الصهيو- أمريكي أو المشروع الغربي بصفة عامة، وهذا لا يعني أن الشعوب العربية مؤيدة أو داعمة لهذا المشروع، بل الواقع يقول أنها تقاومه بكل السبل، فالشعوب شيء ومشاريع النخبة السياسية الحاكمة شيء آخر، وهكذا..
فليس الشعوب الفارسية كلها تعيش داخل إيران، وليس كل من يعيش داخل إيران فارسي، وليس كل الفرس مسلمين، وليس كل الفرس شيعة، وليس كل الفرس على مذهب شيعي واحد، ومن ثم ليس كل الفرس معادين للعرب والإسلام.
على سبيل المثال: يقطن إيران حاليا ما يقارب 82 مليون نسمة من مختلف الأديان واللغات والعرقيات، كالفرس والأتراك الأذريين والتركمان والأكراد والعرب والبلوش والـ"لر" والأرمن واليهود والكزخ والجورجيين والجيلك والتالش والمازني والـ"تات" والآشوريين والقشقايين، فضلا عن الطوائف المنبثقة منهم.. كذلك الفرس متواجدون في إيران وأفغانستان وطاجيكستان، منهم ما هو المسلم والمسيحي، والزرادتشي، ومنهم الشيعي، ومنهم السني يعيش في طاجيكستان وأفغانستان.. لذلك من الخطأ المنهجي أن نضع الشعب الفارس كله في سلة واحدة، والخطأ الأكبر أن نضعه كله في سلة النظام الإيراني ومشروعه الصفوي.. وإليك نبذه سريعة عن إسهامات الشعوب الفارسية في الحضارة الإسلامية.
الفرس والحضارة الإسلامية
كان الفرس أنشط العناصر في إثراء الحضارة الإسلامية وتراثها الخالد، في شتى الميادين العلمية والأدبية حتى تم تشييد صرح الحضارة الإسلامية على هذا النحو المشترك، وقد ظهر تأثير الثقافة الفارسية بوضوح في البناء الحضاري الإسلامي، الذي ساهم في إنشائه عدد من علماء الفرس لا سيما في العصر العباسي الأول الذي يطلق عليه المؤرخون "عصر الإسلام الذهبي"، الذي أخذت العلوم تقنن وتدون فيه وتعرف طريق الاستقرار.
وأهم ما قدمه الفرس للحضارة الإسلامية تمثل في نتاج المعربين من الفرس الذين اكتسبوا اللسان العربي، حيث أنهم ساهموا مساهمة فعالة في إنشاء الحضارة الإسلامية، سواء فيما يسمى بالعلوم الدخيلة مثل العلوم العقلية كالفلك والرياضة، أو العلوم الإسلامية التي استكملت أسباب نضجها وكمالها وتعددت فروعها واستقرت أحكام كل فرع منها، ومن أهم العلوم والمهارات التي نمت وتقدمت على أيدي رجال من أصل فارسي:
- علم النحو والصرف والرائد في هذا المجال سيبويه المتوفى سنة 160 هجرية.
- وفي الأدب نثره وشعره ابن المقفع المتوفى سنة 142 هجرية، وبشار بن برد المقتول سنة 358 هجرية، وبديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398، وغيرهم.
- وفي التفسير: الطبري المتوفى سنة 310 هجرية، وتلميذه الثعالبي النيسابوري المتوفي 429 هجرية، وفخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 هجرية.
- وفي الحديث كان من المعربين من الفرس الإمام البخاري، والإمام مسلم، والترمذي، وأبو داود، والسجستاني، والنسائي، وجميعهم من أصل فارسي.
- وفي علم الفقه الإمام أبو حنيفة مؤسس أحد المذاهب الإسلامية الكبرى، فهو بدوره من أصل فارسي وقد أحل في الفقه الرأي والقياس، واستطاع بذلك أن يجعله علما له أسس وقواعد كسائر العلوم.
- وفي الرياضة والعلوم العقلية الخوارزمي المتوفى سنة 235 هجرية، وقد وضع كتبا وبحوثا مبتكرة وقد لاقى كتابه الجداول الفلكية نجاحا كبيرا. وتعبير الخوارزميات اليوم هو التحليل للمسائل الرياضية والمدخل الأساسي إلى علم البرمجة في الحسابات الإلكترونية.
- والبيروني المتوفى سنة 440 هجرية، الذي يعد أكبر عقلية في الإسلام، وله العديد من البحوث العظيمة والكتب القيمة.
- وفي الطب محمد بن زكريا الرازي وابن سينا المتوفى سنة 428 هجرية، وقد اعتمد الغرب اعتمادا كليا على كتابه القانون في الطب.
- وفي الفلسفة يتقدم أيضا ابن سينا الذي حصل علومه ومعارفه جميعها في بخارى، ومنها اكتسب هذه الثروة الفلسفية العظيمة التي توارثها عنه العالم طوال القرون، وفن الحكمة وعمق التفكير.
- وفي التصوف نجد الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 هجرية، الذي يعد إمام
المسلمين على الإطلاق ومؤلفاته العديدة صورة كاملة للحالة العلمية والثقافية الإسلامية في أسمى مظاهرها.
وهكذا، كان لعلماء الفرس باع كبير وإسهامات عظيمة في علم الفلك والتنجيم، وظهرت لهم العديد من المؤلفات التي أبهرت أوروبا والحضارات الحديثة.
الخلاصة
المعنى الذي نقصده هو
الوحدة بين مكونات شعوب الأمة الإسلامية.. لكن البعض يقع في شراك الأنظمة المستبدة العميلة وأجندتها التي تغذي الفرقة بين مكونات شعوب الأمة، فيخلط بين الأنظمة والشعوب ويضع الكل في سلة واحدة.. فلا تعجب من مقولات مثل: "الأتراك أخطر عدو على العرب"، هذا يقال للعرب.. وفي نفس الوقت يقال للأتراك إن "العرب عدو الأتراك".. كذلك مقولة: "الشعوب الفارسية عدو للعرب والإسلام"، وكلها مفاهيم غير دقيقة هدفها الفرقة وإشعال الحروب الطائفية والقومية والعرقية وعرقلة الأمة الإسلامية، ومنعها من استئناف دورها الحضاري العالمي.