سعينا ـ في المقال السابق ـ لتتبُّع الرابط بين طبيعة نمط تديُّن مصر، ومركزيتها لعالم الإسلام، لا المركزيَّة الجغرافيَّة ـ السياسيَّة فحسب؛ وإنما مركزيتها الثقافية والفكرية، التي يؤهلها لها نمط تديُّنها. بيد أن النموذج لا يُمكن أن يتضح، ما لم نبسط القول في خصائص هذا التديُّن نفسه؛ ليتجلَّى انعكاس هذه المركزية عليه، والعكس.
وإذا كنا نُطلق على نمط التديُّن هذا ـ من باب التحديد المدرسي ـ اسم التديُّن المصري؛ فإن هذا التحليل للأنماط التاريخية، ولطبيعة التجربة الدينيَّة المتعينة، لا يعني القول بمركزيَّة قوميَّة للقُطر المصري، وإنما يعني إدراكنا لمقومات القيادة المجبولة فيه، بقطع النظر عن التركيبة العرقيَّة لسُكانه. هذه المقومات تتجلَّى واضحة بمجرَّد إدراكنا لخصائص التديُّن الذي تبلور في سياقنا، إذ تعكس كذلك التجليات التاريخيَّة ـ الثقافيَّة لخصائص هذا الإقليم الجغرافية.
وقد جرَّدنا مُتتالية من ثلاث خصائص مركزيَّة لهذا التديُّن، قد تُعين الباحث على إدراك طبيعة النمط المقصود، وأبعاد مَقدرته القياديَّة.
ثمرة التقاء تيارات إسلامية متنوعة
أولى هذه الخصائص، أن هذا التديُّن ثمرة التقاء تيارات إسلاميَّة شتَّى؛ فهو يَمزِجُ بينها، ويُغلِّب أفضل ما فيها؛ لافظا خَبَثها. وهذا مشروط كُليّا بأن يُخلَّى بين هذا التديُّن وتفاعُلاته التاريخية والسوسيو ـ معرفية الطبيعيَّة، بغير أدنى تدخُّل من القائم بترشيد الواقع، وتغليبه لتيار على آخر، وتمويله لتيار يرى فيه خدمة مُباشرة لمصالحه! وقد أدرك الأستاذ حسن البنّا طرفا من هذه المعادَلة ـ وإن أساء تنزيله! ـ إذ وصف جماعته (بأنها دعوة سلفيّة، وطريقة سُنيّة، وحقيقة صوفيّة؛ إلخ). وبقطع النظر عن مدى تجسيده و"حركته" لهذا الإدراك، شديد التركيب؛ فجليٌّ أنه كان إدراكا غالبا على الجيل، ومُهيمنا على مسلكياته، رغم أن البنا تتلمَذَ على "الشيخين" رشيد رضا ومحب الدين الخطيب مباشرة، وشَرِبَ من ذات معينهما الحداثي التجزيئي!
هذه الخصيصة بالذات، تُعيدنا إلى التجربة المسيحيَّة؛ لنُقارِنها بالتجربة الوهابيَّة! فإن الغلو الكاثوليكي في التنفير من الدنيا ـ نقلا عن السيد المسيح عليه السلام! ـ كان ردَّ فعلٍ على ولوغ اليهود في الماديَّة، وغلوهم في التمركُز حول الحياة الحسيَّة. لقد كانت الرسالة "روحيَّة" خاصَّة بهذا السياق؛ لتُعيده إلى جادّة الصواب، فلما خرَجَت إلى سياقات حضاريَّة أخرى، لم تكن تعاني الأزمة نفسها؛ صارت الرسالة هي "الغلو الأشد"! والمثل عينه يَنطبِقُ على الدعوة الوهابيَّة، التي كانت موجَّهة ـ بالأساس ـ إلى سياق "بداوة" غَلَبَت فيه مظاهر وثنية على الإسلام. فلما خرجَت من هذا السياق؛ صارَت غُلوّا أخطر من كل فتن "القبوريين" المحدَثين! ثم لما أضيف إلى هذه الرسالة المشوَّهة ارتباطات اقتصاديَّة واجتماعيَّة -إذ يعمل بالسعودية اليوم ما يَقرُب من ثلاثة مليون مصري! ـ صارت أرسخ قدما وأعمق أثرا، إذ توثَّق الارتباط المسمم بين الأيديولوجيا والمصالح الاقتصادية والاجتماعيَّة، ودع عنك صدق تعبير ذلك كله عن الواقع وروافده، أو حتى عن تركيبية الإسلام نفسه!
لم تكُن أزمة المجتمع المصري ـ حين داهمه جفاف وطهوريَّة الدعوة الوهابيَّة ـ سببها غلَبَة مظاهر "الغلو الصوفي"، وإنما تجسَّدت الأزمة في نفور الأجيال الحضريَّة "الجديدة" من صور التديُّن كافة، حتى كانت تَزدري "خرافات" التصوف، و"لا عقلانية" الدين بجملته
وقد تأثَّرت الحركة السنوسيَّة ـ مثلا ـ بدعوة ابن عبد الوهاب؛ فاستقام ما اعوجَّ في سياقها الصوفي، بيد أن عين هذه "الدعوة السلفيَّة" حين دخلَت على مُجتمعات -حضريَّة بالخصوص! ـ قد خَلَعت ربقة التديُّن؛ فإنها قد زادَت ـ بجفافها المزعج ـ مُعدَّلات علمنة هذه المجتمعات زيادة وحشيَّة، وأفْضَت إلى ممارسات أشد وثنيَّة ـ وإن كانت في اتجاه عكسي ـ مما خرجت الدعوة لتُحاربه!
لقد كان استجلاب السياق الوهابي من فيافي نجد، و"إعادة إنتاجه" في الحواضر المصريَّة؛ كارثيّا بكل المقاييس، رغم أنه قد قوَّض بعض مظاهر "الغلو الصوفي"؛ إذ إن هذا "التقويض" قد امتدَّ بعدها ـ تلقائيّا ـ إلى مبدأ التقليد نفسه، بوصفه عصب التديُّن؛ فحطَّم أطر التديُّن المذهبي ـ الذي كان يُعاني في الحواضر بسبب تزايُد مُعدَّلات التحديث/ العلمَنة ـ بدل أن يُقوِّم ما اعوجَّ فيه. وبدهي أن هذا "الإفساد الحضري" نقيضٌ لما فعلته الحركة السنوسيَّة مثلا، وعلى طول الخط. إذ كان هذا "الاستجلاب" السلطوي المموَّل خنقا تخريبيّا لتيارات التديُّن الحر التي يُقوِّمُ بعضها بعضا، وتكريسا لسرديَّة اختزاليَّة أحاديَّة في مجتمع وَهَت صلته بالدين ابتداء -ككل المجتمعات التي جرى تحديثها! ـ فدَمَّرَت الوهابيَّة، من ثم؛ ما بقي من مقدرة أهل الحضر المصريين المحدَثين على التدين!
وبعبارة أخرى؛ فلم تكُن أزمة المجتمع المصري ـ حين داهمه جفاف وطهوريَّة الدعوة الوهابيَّة ـ سببها غلَبَة مظاهر "الغلو الصوفي"، وإنما تجسَّدت الأزمة في نفور الأجيال الحضريَّة "الجديدة" من صور التديُّن كافة، حتى كانت تَزدري "خرافات" التصوف، و"لا عقلانية" الدين بجملته؛ فجاءت الوهابيَّة ـ بتمزيقها الأرعَن البارِد للميتافيزيقا ـ لتزيد الطين بلَّة، بتحطيم مبدأ التقليد، طاعنة بذلك التديُّن كله؛ فهَوَت مُعدَّلات "الحلول الفردي"، وعبادة النفس والهوى -بفضلها!- إلى دركات غير مسبوقة.
الإقليم الملتقى
أما الخصيصة الثانية من خصائص التديُّن المصري، فهي أن الإقليم "الملتقى" قد أدى دور بوتَقة الصهر الحقيقيَّة، ولم يكُن مجرَّد مُلتقى "محايد" للتيارات، لا شخصيَّة له ولا لون ولا وجهة. أي إن هذا الإقليم المُلتقى، رغم انفتاحه الواضح إلا أنه لم يكُن سائلا، وإنما تميَّزَت شخصيته بملامح مُحدَّدة، يَغلِبُ عليها الانفتاح على تعدُّد الاجتهادات المذهبيَّة ابتداء. وإذا كان سلطان كل وقت قد غلَّب ـ أحيانا ـ بعض هذه الاجتهادات لمصلحته، فإنه ظلَّ عاجزا عن تقييد عمليَّة الاجتهاد برُمتها، ودع عنك غلق باب الحركة أمام سائر الاجتهادات. هذه التعدُّدية، قد أدى المماليك دورا مركزيّا مهمّا في ترسيخها، إذ سعوا في المساواة بين المذاهب السنيَّة الأربعة، امتثالا لشروط عقد الحكم، الذي وَضَعهم على العرش بغير "مسوغات شرعيَّة"، حاشا المقدرة العسكرية. وهذا "التوازُن الدقيق"، بين الانفتاح على شتى التيارات والمذاهب، وتبلور شخصيَّة واضحة التركيب للتديُّن المصري (تنفرُ نفورا واضحا من صور الغلو كافة، وإن كانت تتعاملُ معه تعامُلا شرعيّا وإنسانيّا مُركَّبا؛ إذ تسعى لتهميشه اجتماعيّا لا محوه وجوديّا)؛ قد جعل المقدرة الحركيَّة ـ الدينية والثقافيَّة ـ المصريَّة أعلى كثيرا من مثيلاتها في سائر البُلدان العربيَّة، وهذا ما قد يُفسِّر ـ مثلا ـ بروز دعوة الإخوان المسلمين، وتبلورها في مصر، قبل انتشارها السريع -إلى الأقطار العربيَّة والمسلمة ـ في مدى زمني جد محدود.
هذه الحركيَّة الغائيَّة العالية عينها تنفي السيولة؛ لأن غائيتها (وإن تشوَّشَت حينا) مما يَلزمه إطار حاكم، وسياق جلي واضح، مهما تعدَّدت روافده. كما أنها تُرسِّخ مآلات الخصيصة الأولى، وتُثبتها؛ إذ يلزمها تفاعُلات سوسيو-معرفية حُرَّة، لا تتقيَّد بقيود السياسة وحساباتها. ولهذا السبب، ازدهرت جماعة الإخوان إبَّان العهد الملكي ازدهارا لم ولن تعرفه بعدها أبدا؛ إذ أتاحت لها البيئة المنفَتِحَة أن تصير جُزءا طبيعيّا فاعلا من سياقها الثقافي والديني، وحركياته الطبيعيَّة، بقطع النظر عن رأينا في مآلات هذه الحركة، بل وفي منطلقاتها.
غياب السردية الدينية
وقد أثمَرَت الخصيصتان السابقتان خصيصة ثالثة تكتمِلُ بها المتتالية، ألا وهي انعدام السرديَّة الدينيَّة الأحاديَّة في السياق المصري، رغم محاولة النظام الناصري ـ وورثته! ـ تحويل الأزهر إلى كنيسة تُصادر أنماط التديُّن. وإذا كانت مُتتالية خصائص التديُّن المصري تتشكَّل بكونه التقاء لتيارات الفكر الإسلامي ومذاهبه، ثم تتضح ملامحها وتتبلور في طبيعة بوتقة الصهر "الجامعة"، التي تنفر من الغلو؛ فإن هذه البوتقة، وإن كانت تُعبر عن ملامح عامَّة لهذا التديُّن، وإطار حاكم لرؤيته؛ إلا أنها تنفي الأحاديَّة وتُسهِم في تجاور السرديَّات/ المذاهب الدينية الإسلامية، مع كبح واضح لمظاهر الغلو فيها، حين تتحرَّر حركيات التديُّن من السلطة! وهو ما يتجلَّى في انعدام مقدرة مؤسسة الأزهر نفسها على بسط هيمنتها الكاملة على "الحياة الدينيَّة"، ليتجاوَر نفوذها (الأشعري ـ الصوفي) مع النفوذ السلفي ـ الوهابي، علاوة على مؤثرات صوفية وشيعية واعتزالية أقل تأثيرا. ويتجاور هذا كله تجاورا "طبيعيّا" مع فاعلين حركيين، يجمعون هذه الروافد كافة ـ بدرجات مُتفاوِتَة ـ، ويتراوحون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ بدءا بالإخوان المسلمين "المتصالحين" مع النظام السياسي ما بعد الكولونيالي -وثماره كافة ـ وانتهاء بتنظيمات الغضب المسلَّحة، الرافضة ـ نظريّا فحسب ـ لكل شيء!
هذا التجاور للسرديات ـ رغم المحاولات المستميتة لمحو بعضها! ـ يعني أنك لن تَجِدَ هيمنة لمظاهر الغلو آخذة بخناق الواقع المصري، مهما تدهور سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا؛ فلن تجد "لعنا علنيّا" للشيخين ـ حتى في زمان الفاطميين الإسماعيليَّة! ـ وذلك كما شَهِدنا في إيران إبَّان العهد الصفوي! بل وستجد "أقصى" درجات غلو "المتشيعين" المصريين اليوم هو سبُّهم لمعاوية بن أبي سُفيان، مع إمساكهم عن ذكر الشيخين بسوء. كذا، لن تعثر على سبَّاب للإمام علي، وقادح فيه وفي آله على المنابر؛ كما شَاع في الشام زمان الأمويين!!
سيفاجأ الذين لم يطَّلعوا على تاريخنا ـ الفكري والثقافي والديني ـ وحركياته، خصوصا خلال القرنين الأخيرين؛ حين تتجلى لهم تفاصيل هذا في غد قريب إن شاء الله تعالى، وما ذلك إلا لأنهم لم يَعرِفوا ما الذي حدث للتديُّن المصري إبَّان هذه الحقبة.
ومهما بلغ النَصْب ببعض جيوب "السلفيَّة المصريَّة"؛ فلن تجد جهرا بهذا الفُحش أبدا، ولا "عبادة حقيقيَّة" لبني أميَّة، أو تلذُّذا في التسمي بأسمائهم، كما يشيع في أقطار الشام إلى اليوم! كذلك، لم تعرف مصر محوا للتُراث العمراني للإسلام -بوصفه وثنيَّة- مثلما شَهِدَت جزيرة العرب. ورغم إنكار المنكر على أصحاب البِدَع، التي تُرتَكبُ عند المراقد والمزارات؛ فإن ذهنيَّة المحو والاستئصال الأحاديَّة لم تُهيمن على المجال العام، الذي يبدو فيه ـ حين يتحرَّر من السلطة! ـ الوعي باستمرار صيرورة إصلاح إدراك الخلق للديانة، لا استئصال المبتَدِعَة من بين المتدينين، أو محوهم! وأخيرا، فلم يحدث قط أن حاوَلَت السلطة العلمانيَّة في مصر استئصال شأفة الحياة الدينية، واقتلاع مظاهر الإسلام كافة من الوجود ـ مثل تركيا الكمالية، أو إيران تحت رضا خان ـ حتى في أشد لحظات النظام الناصري نماذجيَّة ووحشيَّة؛ إذ كان يعمد إلى "تغليب" بعض الأطياف الإسلاميَّة، ويدفعها إلى الواجهة، ليوظفها لصالحه؛ حتى يقمع بعضها اﻵخر باسم الدين!
ولهذا، يجد الباحث بعضا من كل روافد الغلو هذه في مصر ـ وهي اليوم أشبه شيء بالعراق العباسي!ـ لكنَّه لن يجد هيمنة لأيها أبدا، بل لا نُغالي حين نقول: ولا حتى أدنى إمكان لتغلُّب أيها على المجال العام ـ مُنفردا ـ حتى إن كانت السلطة تدعمه! فإن غاية ما يمكن أن تبلُغه تيارات الغلو المدعومة (وهو ذروة ما بلغته الجيوب السلفيَّة المموَّلَة بمليارت الدولارات!)؛ أن تُهيمن على أبواق الإعلام عالية الصوت فحسب، أما البنية الاجتماعيَّة؛ فإن حركياتها ـ الأعمق مُنطلقا ـ لا تتقيَّد بهذا التسلُّط أبدا، مهما تأثَّر سلوكها المباشر به، أو طالها التشوه البنيوي جرَّاء علو صوته.
ومتى تخلَّصَت هذه الخصائص الفطريَّة المجبولة من تسلُّط الطُغيان، واكتسبت زخما اجتماعيّا حُرّا؛ استقرَّت بها التيارات والمذاهب الدينية كافة، كلٌّ في حجمه الطبيعي، إذ يُعيد بعضها تقويم بعض، ويجبر نقصه، ويسُد خلله.
وسيفاجأ الذين لم يطَّلعوا على تاريخنا ـ الفكري والثقافي والديني ـ وحركياته، خصوصا خلال القرنين الأخيرين؛ حين تتجلى لهم تفاصيل هذا في غد قريب إن شاء الله تعالى، وما ذلك إلا لأنهم لم يَعرِفوا ما الذي حدث للتديُّن المصري إبَّان هذه الحقبة.
وهو ما سنتلو عليك بعضه في مقال تال.
فوائد البنوك وتبجح مشايخ السلطة في مصر!!
الأسباب الحقيقية لترشح الإخوان لرئاسة مصر 2012
الإخوان وحلفاؤهم والفشل في الرئاسة