منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا وتدشين الغرب لحملة دعم وتضامن واسعة مع كييف وبكل الاتجاهات، حفلت العديد من المواقع الإخبارية والحسابات العربية على منصات التواصل الاجتماعي بتوثيق وسرد لما اعتبرته أدلة قاطعة على نفاق الحكومات الغربية وعلى ازدواجية معاييرها بالتعامل مع مشاهد وأحداث ومآس مشابهة لما تعيشه أوكرانيا.
بدءاً من التعامل مع موجات اللجوء على حدود الاتحاد الأوروبي وإغاثة الأوكرانيين "ذوي العيون الزرقاء والشعر الأشقر" ومقارنتها بالتعامل العنصري والعنيف الذي جرى مع اللاجئين السوريين والعراقيين واليمنيين وكل اللاجئين القادمين من دول عربية ومسلمة على حدود دول مثل بولندا وبلغاريا واليونان، مرورا بتفاعل الساسة الغربيين والإعلام الغربي مع الصور القادمة من كييف وخاركيف وسومي وخيرسون وماريوبول وغيرها من مدن أوكرانيا، وكيف كان يتفاعل مع صور مشابهة للقصف والغارات الروسية على حلب وإدلب وريف دمشق والغارات الإسرائيلية على قطاع غزة والغارات على مدن أخرى كانت ضحية قصف أمريكي خلال احتلاله للعراق وأفغانستان.
إضافة إلى تحركات الاتحاد الدولي والاتحاد الأوروبي لكرة القدم ضد منتخب روسيا وأنديتها ورفع شعارات التضامن مع أوكرانيا وأعلامها بمختلف الملاعب، وهي ذاتها التي كانت تفرق الغرامات والعقوبات القاسية ضد كل من يتضامن مع غزة بحجة عدم جواز خلط السياسة بالرياضة، وانتهاء بتغيير موقع فيسبوك لمعاييره بالتعامل مع منشورات وصور وفيديوهات تحرض على "الاحتلال الروسي" بل وحتى السماح لمجموعات يمينية أوكرانية باستخدام المنصة لنشر خطابها وتحريضها على "العدو الروسي"، وهو ذاته الذي كان وما زال يفرض معايير شرسة ضد كل من يتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي بل وحتى من يستخدم مصطلحات مثل الشهادة والمقاومة والقسام.
ومع تواصل الاستشهادات بشكل شبه يومي وبذات السياق أعلاه وصولا حتى لاستخدامها من قبل أطراف عربية لتبرير الانحياز للغزو الروسي وتبرير إجرامه بحق المدنيين الأوكرانيين.. يبرز السؤال.. ماذا بعد ذلك؟ ما مدى استفادتنا من تأكيد أن الغرب عنصري وغارق في ازدواجية المعايير؟ ما مدى خدمة ذلك للقضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية وقضية نضال الشعوب العربية ضد الاستبداد والفساد ومعاناة اللاجئين والنازحين العرب والمسلمين حول العالم؟
التورط في تأييد الاحتلال الروسي وأفعاله وممارساته الوحشية ضد المدنيين في أوكرانيا من باب النكاية بالحكومات الغربية التي لم تنصفنا وانحازت لمن احتل أرضنا، فهذا وفضلا عن أنه يتعارض مع قيمنا وديننا فهو لن يساهم إلا في اتساع الفجوة مع الرأي العام الغربي الذي يشهد حقا تحولات إيجابية تجاه القضية الفلسطينية وسيضعف كل صوت غربي يدافع عنا ويتبنى قضايانا
لنتفق بداية أن توثيق تلك التناقضات وتلك الازدواجية الغربية أمر مهم وضروري ويجب أن يواجه بها الساسة الغربيون في كل مكان وسؤالهم إذا ما كان حق الحياة وحق الكرامة والعدالة وحق إغاثة الهاربين من القصف والموت حقا حصريا للإنسان الغربي..
لكن لنتفق أيضا أن الاكتفاء بهذا الشق لن يغير من الحال شيئا لا سيما وأن التشوه في المنطق الغربي بالتعامل مع قضايانا لا يعد أمرا جديدا أبدا فمنذ عقود هناك انحياز رسمي غربي كامل للاحتلال الإسرائيلي ولكل ممارساته وانتهاكاته وجرائمه بحق الفلسطينيين وهناك دعم غربي مباشر وغير مباشر لكل الأنظمة الاستبدادية في بلادنا رغم البيانات الشكلية التي تطلق بين حين وآخر وتتحدث عن حقوق الإنسان وعن دعم "المسارات الديمقراطية".
لماذا لا نحاول التعامل مع المشهد بمنظور جديد مختلف ونحاول استثمار التفاعل الغربي مع القضية الأوكرانية لصالح قضايانا من خلال التركيز على المشترك في أوجه المعاناة، ويكون الرأي العام الغربي هو المستهدف بذلك وليس الحكومات، وأن نحاول استخدام ذات الأدوات التي سعت إلى طمس رأينا ومنشوراتنا وأعني هنا منصات التواصل الاجتماعي لتقديم خطاب جديد وحتى بوسوم أو هاشتاغ أو ترند ذكي وباللغة الإنجليزية أو حتى باللغة الأوكرانية نربط من خلاله مثلا معاناة اللاجئين والنازحين الأوكرانيين بمعاناة اللاجئين السوريين من خلال الصور والمنشورات التي تظهر تشابه المعاناة.. فهنا بشر أجبروا على الهرب من بلادهم وترك بيوتهم بسبب تعرضهم للقصف والغارات.. وهناك بشر يتجرعون ذات المعاناة منذ سنوات دون أن يقوم المجتمع الدولي بتدخل حقيقي لحمايتهم من كل تلك الأهوال، أو يتم عرض صور لمدن قطاع غزة والدمار الواسع وهي تتعرض للقصف من الطائرات الإسرائيلية مع ذات القصف الذي تتعرض له المدن الأوكرانية من قبل الطائرات والصواريخ الروسية والحديث عن المأساة التي يعيشها البشر حين تقوم قوة احتلال غاشمة باستهدافهم.
لماذا لا توضع صور للمقاومة الفلسطينية وربطها بالمتطوعين المدنيين في أوكرانيا الذين اختاروا حمل السلاح وصناعة القنابل اليدوية والزجاجات الحارقة للدفاع عن وطنهم وأرضهم والحديث عن بطولة من يقاوم الاحتلال، وبأنه لا يوجد احتلال بشع واحتلال جميل، وأن أي إنسان لديه ضمير حقيقي يجب أن ينحاز لمن يناضلون ويقفون في وجه الغرباء القادمين من خلف الحدود لكي يقوموا باغتصاب أرضهم.
لماذا لا نذكر بصورة النجم المصري محمد أبو تريكة وهو يرفع شعار التضامن مع غزة مع كل صورة قادمة من الملاعب الأوروبية لأشكال التضامن المختلفة مع أوكرانيا؟
برأيي أن هذا المسار هو الذي يمكن أن يساهم في تغيير قناعات الناس في الغرب، خصوصا أولئك الذين لم تتلوث أفكارهم بالدعايات الإسرائيلية أو حملات الكراهية ضد كل ما هو عربي ومسلم.
أما التورط في تأييد الاحتلال الروسي وأفعاله وممارساته الوحشية ضد المدنيين في أوكرانيا من باب النكاية بالحكومات الغربية التي لم تنصفنا وانحازت لمن احتل أرضنا، فهذا وفضلا عن أنه يتعارض مع قيمنا وديننا فهو لن يساهم إلا في اتساع الفجوة مع الرأي العام الغربي الذي يشهد حقا تحولات إيجابية تجاه القضية الفلسطينية وسيضعف كل صوت غربي يدافع عنا ويتبنى قضايانا.
قراءة مغايرة للأزمة الأوكرانية
الحَربُ خُسْرانٌ وكوارث.. فلا تُجرِّبوا المُجَرَّب