حجز النظام المصري كاميرات "اليوتيوبر" الأمريكي سوني ومنعه من التصوير، وكان قد حصّل على فتوى من الداخلية بالتصوير، وهو ليس صحافيًا سياسيًا، ولا باحثًا مثل جولي يرجيني، هو مصوّر طعام الشارع، وفي يد كل إنسان هاتف به كاميرا، لعله خشي أن يصوّر رغيف الخبز وقد تقلص في بيت النار، مع أن كل المعادن والأشياء تتمدد بالحرارة.
وكان قد سبقه مصوّر أمريكي اسمه أليكس، زار مصر من أجل الحج إلى الأهرامات، فالأهرامات لها سمعة مقدسة، وصورها على الدولار، بعضهم يزورها للاستشفاء، وبعضهم للفضول، وبعضهم للبركة والتطهر من الذنوب، وبعضهم يزورها من أجل اقتراف الجنس المقدس.
والغربيون يجلّون الأهرامات ويعظمونها، وهي من رموز بعض الطوائف الباطنية الغربية، وكان الزائر الأمريكي اليكس ملتحيًا، واللحية مشبوهة، فهي تهمة إخوان، وله شبهة أخرى هي أنَّ ملامحه عربية، فوجد خمسة عشر مخبرًا يلحقون به في شوارع الجيزة، بعضهم متنكر في ثياب رسمية، وكان أحدهم يدخن وهو يحادث الزائر الأمريكي ويسأله عن جنسيته.
اتهم الأمريكي المخبرين بالتحرش به، و"لمسه"، والتحرش كلمة عربية انتقلت إلى اللاتينية فصارت "هراس"، والنظام المصري غيور، بل شديد الغيرة على عورة مصر من التصوير، وقد تعجب سوني مصوّر الطعام مما جرى له وأثنى على طيبة الشعب المصري، وحذّر مشاهديه وعددهم عشرة ملايين متابع من زيارة مصر، أما اليكس ذو اللحية، الذي سبقه في الزيارة قبل سنة، فحضّ على زيارة مصر، مع أنَّ سيارة الشرطة لحقت به وحصرته بين سيارتين كما في أفلام الأكشن، وكادت أن تدهسه، وكان عجبه من أنهم يلاحقونه ويحاولون منعه من التصوير وهو في الشارع، وكل الناس بأيديهم كاميرات، وكان الذين يلاحقونه خمسة عشر مخبرا من أمثال الشاويش "فرقع"، وفرقع شرطي طيب في سلسلة "المغامرون الخمسة" للأولاد، تأليف المرحوم محمود سالم.
فما تفسير هذه الظاهرة؟
قرّت عيني بعد العثور على سرّ معجزة بناء الأهرامات، وسرّها أنها بنيت بالطين المشوي، والسرّ مذكور في القرآن قبل 1400 سنة، ولا يحتاج إلى كل الحيل التي يذكرها خبراء العمران باحثين عن المناشير وقلاع الصخور، وقد فكرت كثيرًا في تفسير المنع، ففي مصر كثير من العجائب غير العجائب السبع العالمية، فليس في شارع الجيزة ولا غير شوارعها محطات نووية، ولا مزارع خضار عسكرية، ومعامل معكرونة عسكرية، وطبخ الكشري ليس سرًا قوميًا، فما السبب في تحريم التصوير، مع أن الفقهاء أباحوه، وكان ممنوعًا أول أمره.
ظننت أن السبب هو الحرام نفسه، فالحرام رزق وسبب، لا بد من التحريم من أجل السلطة، ولكل نظام كفاره، وكفار عبد الناصر والسيسي هم الإخوان، وكلما كثرت المحرّمات زادت هيبة السلطة. ووقر في عقلي أنَّ السبب هو ردع الشرطة وتخويفهم، وليس تخويف السائحين، فهم معززون ومكرمون، والشرطة تحسب لهم حسابًا وتكرمهم، وعلى رأسهم الزائرون الأمريكان، فهم يدخلون بلا تأشيرة إلى بلادنا، وعملتهم النقدية؛ دولار أو جنيه استرليني تعادل العشرات من الجنيه المصري.
النظام يبرهن للغرب أنه يقوم بواجبه على أتمه، ولشدة إخلاصه يخلط أحيانا فيعتقل الأبرياء الزائرين، لكنه يكرمهم في "النقطة"، ويقدم لهم المشروبات والمأكولات السريعة معتذرا، تأكيدا على مقولة: إنّ الشرق مستبد وغير قابل للشفاء، وأنَّ الغرب ديمقراطي وعظيم.
وقال إعلاميون مصريون إنّ اليوتيوبر هدم دعاية أنفقت عليها آلاف الجنيهات بفيديو لم يكلف شيئًا، مؤكد أن السياحة لا تعني النظام المصري كثيرًا، فلو كان يعنيه أمرها لأصلح من شأنها، ودرب العاملين في السياحة، وهناك دول ليس فيها ثلث آثار العالم وتعيش على السياحة مثل نيوزلندا وغيرها، وبها صناعة سياحية رفيعة، بينما يحارب النظام المصري السياحة، وتكاد المومياوات نفسها تهرب من مصر خوفا من تهمة الإخوان ودفع الضرائب.
لن تهمّ النظام المصري سمعة البلاد، فهي مستعمرة عقاب مثل الجمهوريات العربية، هذه دول محطات بنزين، عليها أعلام، على قول لمحمد النفيسي نقله عن برلماني بريطاني، أو هي معتقلات عملاقة.
التعليل الثاني: هو أنَّ بلادنا مكرهة أن تكون مثل سوداء العروس، و(سَوْدَاء الْعَرُوس) جَارِيَة سوادء تبرز أَمَام الْعَرُوس الْحَسْنَاء وَتوقف بإزائها لتَكون أظهر لمحاسنها:
(فَأحْسن مرأى للكواكب أَن ترى ... طوالع في داج من اللَّيْل غيهب)
والشيء يظْهر حسنه الضِّدّ ولتكون كالعوذة لجمالها. والعروس هي الدولة الأوروبية التي تشد إليها الرحال، ويقذف العرسان أنفسهم في لجج البحار سعيا لودها وخطبتها.
ومن طرائف قصة اليكس ذي اللحية أنه ركب عربة كارو يجرها حصان للفرار، فلحقت الشرطة بها، وهددوا صاحب العربة أنه إذا ما أقلّ السائح، فسيعتقل، وجاء في أقوال أخرى أنهم هددوا الحصان أيضًا، أما عناصر الشرطة، فكانوا يتكلمون الإنجليزية بطلاقة مثل الممثلة السوريّة سوزان نجم الدين، واليكس يكلمهم فيتقهقرون مثل حمر مستنفرة فرت من قسورة. وكان رجال المخابرات يظهرون مذنبين، خائفين من رؤسائهم لعجزهم عن منع هذا الغازي من تصوير عورة مصر أو تصوير حسنها.
ويمكن أن نتذكر ثماني حاجات ذكرها يوتيوبر مصري استحسن تجنبها في مصر، منها أن تركب تكسي في المطار، أن تزور مصر من غير فكة، وأن تمشي في الشارع بكاميرا، يبدو أنّ حاكم مصر يرى مصر "حرملك" مثل الأوروبي الغازي. وفي لوحات الرسامين المستشرقين ديلاكروا، ماتيس، وبيكاسو، يظهر الرسامون وهم يسترقون النظر إلى حمامات المسلمين، وكانت في خيالهم جنة من النعم الجنسية، وما زالت في السينما كذلك.
وفي قصة يوسف عليه السلام يأمر نبي الله يعقوب عليه السلام، أبناءه بدخول مصر متفرقين ويأمرهم بأن يتحسسوا من يوسف، ويستوقف جنود العزير إخوة يوسف، بتهمة التجسس، فهي تهمة موروثة والله أعلم.
النظام يبرهن للغرب أنه يقوم بواجبه على أتمه، ولشدة إخلاصه يخلط أحيانا فيعتقل الأبرياء الزائرين، لكنه يكرمهم في "النقطة"، ويقدم لهم المشروبات والمأكولات السريعة معتذرا، تأكيدا على مقولة: إنّ الشرق مستبد وغير قابل للشفاء، وأنَّ الغرب ديمقراطي وعظيم.
الاختيار3.. هذا العمل الهجين وخطورة التسريبات!
مواطن بلا ذاكرة.. المواطنة من جديد (97)