بورتريه

ميسون مناصرة تنتزع ابتسامة أمل من ابنها الأسير (بورتريه)

أحمد مناصرة- عربي21

عصفور مكسور الجناح يرقد في زنزانة مظلمة لا يتوقف عن البكاء من شدة الرعب في ظلام الزنزانة، يئن تحت سياط، الوحدة والوقت الذي يمر بطيئا، أو كأنه توقف عن الدوران وغفا في زاوية الزنزانة الموحشة.


قتلوا طفولته واغتالوا شبابه بتدميره نفسيا وجسديا في زنزانته الانفرادية الضيقة الرطبة.


هو ضحية قصة ملفقة بالكامل للمؤسسة العسكرية والقضائية والأمنية الإسرائيلية المغرقة بالصلف والسادية وصناعة التهم، هو نموذج لـ"التهم المعلبة" المحضرة مثل وجبات الطعام السريعة، التي تتعامل مع الفلسطيني، أي فلسطيني، كمتهم و"إرهابي" يستحق العقاب حتى لو بناء على "النوايا" والاستنتاجات والاحتمالات.


كان يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2015 ثقيلا جدا على الطالب، الطفل، أحمد مناصرة، المولود عام 2002 في بيت حنينا بالقدس المحتلة، فقد كان يتجول برفقة صديقه وابن عمه حسن مناصرة حين فاجأتهما قوات الاحتلال الإسرائيلي التي بكل غرور وعنصرية أطلقت الرصاص نحوهما، وأمعن الجنود والمستوطنون، الذين افتقدوا لأية قيمة أخلاقية، بالتنكيل به بعد أن وقع على الأرض مصابا فقاموا بدهسه وضربه وتوجيه ألفاظ نابية ومبتذلة له، بزعم محاولته تنفيذ عملية طعن في القدس المحتلة برفقة ابن عمه، حسن مناصرة، الذي توفي فورا، ونقل أحمد وهو بين الحياة والموت إلى المستشفى مكبل اليدين، حيث اعتقد الكثيرون أنه استشهد هو الآخر، لكنه ظهر لاحقا وهو حي.


اعتقل مناصرة وحقق معه بطريقة لا توصف من الفظاظة والعنف والتعذيب البدني والتدمير النفسي لطفل صغير عمر 13 عاما وقتها، طفل مذعور لا يعرف ما الذي يحدث معه ولماذا هو أصلا في هذا المكان الكريه!


وتعمدت سلطات الاحتلال تسريب فيديو جلسة التحقيق الأمني معه التي كانت عبارة عن تعنيف وتهديد وشتائم، وكان واضحا أن الهدف من تسريب الفيديو هو تخويف الأمهات والأطفال الفلسطينيين من أي فعل مقاوم للمحتل.


وظهر أحمد في الشريط باكيا وهو يواجه محققا فظيعا بقوله "مش متأكد" و"مش متذكر"، في وقت ظل المحقق يصرخ بصوت عال في وجه مناصرة بغية زعزعته ونيل اعترافات ملفقة منه تعزز رواية الاحتلال.


لكن رغم كل ما قام به الجلاد الإسرائيلي في غرفة التحقيق لم يدل مناصرة بأي اعتراف، وكان يكرر: "لا أتذكر"، "لا أعرف".

 

اقرأ أيضا: محكمة تنظر في الإفراج عن أحمد مناصرة.. وحملة دولية لمساندته

قبل نقله إلى السجون احتجزته سلطات الاحتلال لمدة عامين في مؤسسة خاصة بالأحداث في ظروف صعبة وقاسية، ثم نقل إلى سجن "مجدو" بعد أن تجاوز عمره 14 عاما.


وفي عام 2016 أصدرت المحكمة المركزية الإسرائيلية حكما بالسجن الفعلي على الأسير مناصرة لمدة 12 عاما بزعم طعن مستوطنين، كما فرضت عليه دفع غرامتين ماليتين قدرهما على التوالي 100 ألفا و80 ألف شيكل إسرائيلي، وخفض الحكم لاحقا إلى 9 أعوام ونصف العام.


وضع أحمد في العزل الانفرادي بسجن "إيشل" في بئر السبع، وتمكنت عائلته والفريق القانوني الذي يدافع عنه من إدخال طبيبة نفسية إلى زنزانته بعد عناء طويل، وأكدت الطبيبة النفسية أنه يعاني من حالة نفسية مركبة تحتاج لعلاج مكثف.


الآثار النفسية الصعبة التي تعرض لها مناصرة كان بعضها نتيجة الضرب المبرح بما في ذلك كسر لجمجمته مما تسبب في ورم دموي داخلها، نتيجة للتعذيب الجسدي والتنكيل النفسي، كما عانى، وما زال يعاني من صداع شديد وآلام مزمنة وحادة تلازمه حتى اللحظة.


يقول المحامي خالد زبارقة عن حالة أحمد: "رأيته إنسانا بلا روح.. حاولت التخفيف عنه، فقلت له إنه لم يتبق سوى القليل وإننا نعمل من أجل إطلاق سراحك فأجابني.. أنا لا أنتظر سوى الموت، لا أنتظر شيئا من هذه الحياة"، ثم سألني قبل أن أغادر "هل أنت متأكد أن الانتحار حرام؟".


وبعد حملة إلكترونية بدأت فلسطينية ثم اتسعت عربيا ودوليا وشهدت زخما كبيرا في الساعات التي سبقت انعقاد جلسة الاستئناف بقضية مناصرة، قررت المحكمة المركزية في بئر السبع، تحويل قضية مناصرة إلى لجنة الثلث للنقاش في الإفراج المبكر عنه، بعد أن أسقطت المحكمة صفة "الإرهاب" عن قضية مناصرة، ما يفتح الباب أمام النظر في الإفراج المبكر عنه.


ما إن دخل مناصرة (20 عاما حاليا) قاعة المحكمة المركزية الإسرائيلية في بئر السبع، للنظر في طلب الإفراج عنه، حتى نادته والدته، تخبره بوجودها في المكان.


لكن القيود الإسرائيلية المشددة حالت دون سماعه نداءات أُمه المتكررة، حيث أحاط به أفراد الشرطة الإسرائيلية. وصاحت والدته "أحمد.. هيني يما بدي أحضنه.. أحمد.. حبيبي يما.. كلنا بنحبك يما".
كانت المرة الأولى من سبع سنوات تراه والدته دون فاصل زجاجي بينهما.


بعد أقل من دقيقة أخرجته عناصر الشرطة من القاعة، دون أن يتمكن من لقاء والدته.


تقول والدة أحمد السيدة ميسون مناصرة: "أنا أم ما خلوني أقرب على ابني، كنت أطلع عليه نظرات والشرطي يسكر عليه متعمد".


وقالت الأم إن جرعة الأمل التي منحتها لأحمد مكنتها من انتزاع ابتسامة منه، مضيفة أن بكاءه لا يهون عليها ويؤلمها.


كان أحمد طالبا في مدرسة "الجيل الجديد" في القدس، في الصف الثامن، وكان يبلغ من العمر في حينه 13 عاما، أمضى أجمل سنوات عمره في السجن على "تهمة" لم تثبت عليه بأي دليل حتى اليوم، ورغم معاناته طيلة هذه السنوات، فقد غاب أحمد عن الضمير العالمي المشغول حاليا في نوبة من البكاء والعويل على ما يجري في أوكرانيا، بينما يلوذ بالصمت ووحل العار عما يجري من جرائم ضد الفلسطينيين والعرب.


قضية الأسير أحمد مناصرة هل توقظ العالم وتجعله يلقي نظرة على التراجيديا والمعاناة الفلسطينية المستمرة منذ 74 عاما؟!